التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ
١٦
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ
١٧
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ
١٨
-طه

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

في قوله { إن الساعة آتية } تحذير ووعيد، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، و { الساعة } في هذه الآية القيامة بلا خلاف، وقرأ ابن كثير والحسن وعاصم "أكاد أخفيها" بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من سحاب مجلّب

ومنه قوله أيضاً: [المتقارب]

فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن توقدوا الحرب لا نقعد

قال أبو علي: المعنى أزيل خفاءها، وهو ما تلف به القربة ونحوها، وقرأ الجمهور "أُخفيها" بضم الهمزة، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة: معناه أظهرها وأخفيت من الأضداد، وهذا قول مختل، وقالت فرقة معناه، { أكاد أخفيها } من نفسي على معنى العبارة من شدة غموضها على المخلوقين، فقالت فرقة: المعنى { إن الساعة آتية أكاد } وتم الكلام بمعنى { أكاد } أنفذها لقربها وصحة وقوعها ثم استأنف الإخبار بأن يخفيها، وهذا قلق، وقالت فرقة { أكاد } زائدة لا دخول لها في المعنى بل تضمنت الآية الإخبار بأن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس، وقالت فرقة { أكاد } بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها عنكم { لتجزى كل نفس بما تسعى } واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر: [الكامل]

كادت وكدت وتلك خير إرادة

وقد تقدم هذا المعنى، وقالت فرقة { أكاد } على بابها بمعنى أنها مقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال { أكاد أخفيها } حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي، ورأى بعض القائلين بأن المعنى { أكاد أخفيها } من نفسي ما في القول من القلق فقالوا معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي ع وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيراً فتأمله، واللام في قوله { لتجزى } متعلقة بـ { آتية } وهكذا يترتب الوعيد. و { تسعى } معناه تكسب وتجترح، والضمير في قوله { عنها } يريد الإيمان بالساعة فأوقع الضمير عليها، ويحتمل أن يعود على { الصلاة } [طه: 14] وقالت فرقة المراد عن لا إله الا الله ع: وهذا متجه، والأولان أبين وجهاً. وقوله { فتردى } معناه تهلك والردى الهلاك ومنه قوله دريد بن الصمة: [الطويل]

تنادوا فقالوا أدرت الخيل فارساً فقلت أعبد الله ذلكمُ الردي

وهذا الخطاب كله لموسى عليه السلام وكذلك ما بعده، وقال النقاش: الخطاب بـ { فلا يصدنك } لمحمد عليه السلام وهذا بعيد، وفي مصحف عبدالله بن مسعود "أكاد أخفيها من نفسي" وعلى هذه القراءة تركب ذلك القول المتقدم، وقوله عز وجل { وما تلك بيمينك يا موسى } تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يورد عليها وإلا فقد علم ما هي في الأزل، وقوله { بيمينك } من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة: [الطويل]

عدسْ ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

قال ابن الجوهري: وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن فقيل له { ألقها } } [طه: 19] ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه، وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه "عصاي" بكسر الياء مثل غلامي، وقرأت فرقة "عصى" وهي لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]

سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم

وقرأ الجمهور "عصايَ" بفتح الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق "عصايْ" بياء ساكنة، ثم ذكر موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك، وقرأ الجمهور "وأهُشُّ" بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها الورق للغنم، وقرأ إبراهيم النخعي "وأهِش" بكسر والمعنى كالذي تقدم، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس "وأهُسُّ" بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف، وقرأت فرقة "على غنمي" بالجر، وقرأت "غنمي" فأوقع الفعل على الغنم، وقرأت "غنْمي" بسكون النون ولا أعرف لها وجهاً، وقوله { أخرى } فوحد مع تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى: { { الأسماء الحسنى } [طه:8] وكقوله { { يا جبال أوبي معه } [سبأ: 10] وقد تقدم القول في هذا المعنى غير مرة، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء التي كان عند شعيب حين اتفقا على الرعية، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى.