التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٧٨
مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٩
-آل عمران

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ نملي } معناه: نمهل ونمد في العمر، والملاوة: المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول: ملاك الله النعمة أي منحكها عمراً طويلاً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: "يحسبن" بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن. بالتاء من فوق الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في -السين- فإنه فتحها، وقرأ حمزة "تحسبن". بالتاء من فوق وفتح السين، وقرأ عاصم والكسائي، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين، قوله { ولا يحسبن الذين كفروا } في هذه الآية وبعدها { ولا يحسبن الذين يبخلون } فأما من قرأ "ولا يحسبن" بالياء من أسفل فإن { الذين } فاعل وقوله { إنما نملي لهم خير } بفتح الألف من "أنما" ساد مسد مفعولي حسب، وذلك أن "حسب" وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه، قال أبو علي: وكسر "إن" في قوله من قرأ "يحسبن" بالياء لا ينبغي، وقد قرىء فيما حكاه غير أحمد بن موسى وفي غير السبع، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، ويدخلان على الابتداء والخبر، أعني -اللام- وإن فعلق عن "إنما" عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك: حسبت لزيد قائم، فيعلق الفعل عن العمل لفظاً، وأما بالمعنى فما بعد "أن أو اللام" ففي موضع مفعولي "حسب"، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي، ففي { نملي } عائد مستكن، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد وأما من قرأ "ولا تحسبن" بالتاء فالذين مفعول أول للحسبان، قال أبو علي: وينبغي أن تكون الألف من "إنما" مكسورة في هذه القراءة، وتكون "إن" وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لتحسبن، ولا يجوز فتح الألف من "إنما" لأنها تكون المفعول الثاني، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول بالمعنى، والإملاء لا يكون إياهم، قال مكي في مشكله: ما علمت أحداً قرأ "تحسبن" بالتاء من فوق وكسر الألف من "إنما" وجوز الزجّاج هذه القراءة "تحسبن" بالتاء و"أنما" بفتح الألف، وظاهر كلامه أنها تنصب خيراً، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالاً قول الشاعر: [الطويل]

(فما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ)

بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، فكذلك يكون { إنما نملي } بدلاً من { الذين كفروا } كقوله تعالى: { { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } [الكهف: 63] وقوله { { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } [الأنفال: 7] ويكون "خيراً" المفعول الثاني قال أبو علي: لم يقرأ هذه القراءة أحد، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة "خير" بالرفع، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره: ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم، فهذا كقوله تعالى: { { واسأل القرية } } [يوسف: 82] وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن الباذش: إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب، إذ الكلام يدل عليه.
قال القاضي: والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية: الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدارج، ليكتسبوا الآثام، وقال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله، وقرأ
{ { وما عند الله خير للأبرار } [آل عمران: 198] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً، وقرأ هذه الآية ووصف العذاب بالمهين معناه: التخسيس لهم: فقد يعذب من لا يهان، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوماً ما.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: { ما كان الله ليذر } فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلاً أمرهم، يجري المنافق مجرى المؤمن، ولكنهم ميز بعضهم من بعض، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال، وقال قتادة والسدي: الخطاب للكفار، والمعنى: حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة، وقال السدي وغيره: قال الكفار في بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره، فنزلت الآية، فقيل لهم: لا بد من التمييز { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافراً ولكن هذا رسول الله مجتبى فآمنوا به. فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول، فقولهم في تأويل قوله تعالى: { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } أنه في أمر "أحد" أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون، فكنتم تكعون عن هذا. وأيضاً فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم وتسمية لهم، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن، وحتى - في قوله: { حتى يميز } غاية مجردة، لأن الكلام قبلها معناه: الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: "حتى يَمِيز"- بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء، وكذلك "ليميز"، وقرأ حمزة والكسائي: "حتى يُميِّز" و "ليميز الله" بضم الياء والتشديد، قال يعقوب بن السكيت: مزت وميزت، لغتان بمعنى واحد، قال أبو علي: وليس ميزت بمنقول من مزت، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت، كما أن "ألقيت" ليس بمنقول من لقي، إنما هو بمعنى أسقطت، والغيب هنا: ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين: ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس، قال الزجّاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت هذه الآية، و { يجتبي } - معناه: يختار ويصطفي، وهي من جبيت الماء والمال، وباقي الآية بين والله المستعان.