التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٢٠
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
-النساء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها، عقب ذلك ذكر الفراق الذي سببه الزوج، والمنع من أخذ مالها مع ذلك، فهذا الذي في هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته، واختلف العلماء، إذا كان الزوجان يريدان الفرق، وكان منهما نشوز وسوء عشرة، فقال مالكرحمه الله : للزوج أن يأخذ منها إذا سبب الفراق، ولا يراعي تسبيبه هو، وقالت جماعة من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك، وقال بعض الناس: يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور، لأنه الله تعالى قد مثل بقنطار، ولا يمثل تعالى إلا بمباح، وخطب عمر بن الخطاب فقال: ألا لا تغالوا بمهور نسائكم، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة، يقول: تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة، فيروى أن امرأة كلمته من وراء الناس فقالت، كيف هذا؟ والله تعالى يقول: { وآتيتم إحداهن قنطاراً } قال: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، ويروى أنه قال: امرأة أصابت ورجل أخطأ، والله المستعان، وترك الإنكار، وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله عليه السلام، من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة, فمعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص, وقد " قال النبي عليه السلام لابن أبي حدرد - وقد جاء يتسعينه في مهره - فسأله عن المهر، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل، الحديث" - فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يلزم، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وذلك مكروه باتفاق، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال، وقرأ ابن محيصن بوصل ألف " إحداهن", وهي لغة تحذف على جهة التخفيف، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

ونَسْمَعُ مِنْ تَحْتِ العجَاجِ لَهَا زمْلا

وقول الآخر: [الكامل]

إنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالبِسوني بُرْقُعا

وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران، وقرأ أبو السمال " منه شيئاً" بفتح الياء والتنوين، وهي قراءة أبي جعفر, والبهتان: مصدر في موضع الحال، ومعناه: محيراً لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه.
ثم وعظ تعالى عباده مذكراً لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته، { وكيف } في موضع نصب على الحال و { أفضى } معناه: باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر: [الطويل]

بِلىً وَثَأىً أفْضَى إلى كُلّ كُثْبَةٍ بَدا سَيْرُهَا مِنْ ظَاهِرٍ بَعْدَ بَاطِنِ

وفي مثل الناس، فوضى فضاً، أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضاً وتقول أفضَتْ الحال إلى كذا أي صارت إليه، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع، قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكني، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم: وهو قوله تعالى: { { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [البقرة:229] وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح، وقول الرجل: نكحت وملكت النكاح ونحونه، فهذه التي بها تستحل الفروج، وقال عكرمة والربيع: الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله،" وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية، أن بكر بن عبد الله المزني قال: لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير، وإن كانت هي المريدة للطلاقة، ومنها أن ابن زيد قال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } } [البقرة:229].
قال القاضي أبو محمد: وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ، وكلها ينبني بعضها مع بعض.