التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول، وقوله تعالى: { فاصطادوا } صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات، فقال الفقهاء: هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل، وقال قوم: هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله { أقيموا الصلاة }، وقد تجيء للندب كقوله: { { وافعلوا الخير } [الحج: 77] وقد تجيء للإباحة كقوله { فاصطادوا } { وابتغوا من فضل الله } { { فانتشروا في الأرض } [الجمعة:10]، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندباً، وقد تجيء للوعيد كقوله { { اعملوا ما شئتم } [فصلت:40] وقد تجيء للتعجيز كقوله { { كونوا حجارة } [الإسراء:50] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران "فاصطادوا" بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا فكسر الفاء مراعاةً وتذكراً لكسرة ألف الوصل، وقوله تعالى: { ولا يجرمنكم } معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب، وفي الحديث: وتكسب المعدوم، قال أبو علي: وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم { يجرمنكم } معناه يحق لكم كما أن { { لا جرم أن لهم النار } [النحل:62] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس { يجرمنكم } معناه يحملنكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر: [أبو خراش الهذلي]:

جريمةُ ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا

معناه كاسب قوت ناهض، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم، وقرأ ابن مسعود وغيره "يُجرمنكم" بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم وأما قول الشاعر:

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى: { شنآن قوم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي "شَنْآن" متحركة النون، وقرأ ابن عامر "شنآن" ساكنة النون، واختلف عن عاصم ونافع، يقال شنئت الرجل شَنْأً بفتح الشين وشنآناً بفتح النون وشنآناً بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته، قال سيبويه: كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت كما عدي الرفث بـ " إلى " من حيث كان بمعنى الإفضاء.
قال القاضي أبو محمد: فأما من قرأ "شَنآن" بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم والمصادر على أن هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره، ويحتمل "الشنآن" بفتح النون أن يكون وصفاً فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم: حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ومنه ما أنشده أبو زيد:

وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي وفقأت عين الأشوس الأبيان

بفتح الباء وأما من قرأ "شنْآن" بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدراً وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه لياناً، وقول الأحوص:

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

إنما هو تخفيف من "شنآن" الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي, قال أبو علي: من زعم أن فعلان إذا أسكنت عينه لم يك مصدراً فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفاً فقد حكي: رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً وإذا قدرت اللفظة مصدراً فهو مصدر مضاف إلى المفعول، ومما جاء وصفاً على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان.
قال القاضي أبو محمد: ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان، وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما صددنا فنزلت الآية، وقرأ أبو عمرو وابن كثير "إن صدوكم" بكسر الهمزة وقرأ الباقون"أن صدوكم" بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه إن وقع مثل ذلك في المستقبل. وقرأ ابن مسعود "أن يصدوكم" وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير.
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون { على البر والتقوى } قال قوم: هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً بشدة العقاب وروي أن هذه الآية نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك، قاله مجاهد. وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل.