التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
-المائدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قرأ جمهور الناس "الكِلم" بفتح الكاف وكسر اللام، وقرأ بعض الناس "الكِلْم" بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة، وقوله تعالى: { يحرفون الكلم } صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه. ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادىء كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله، وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدأ فقليل الأثر في النفس، وقوله: { من بعد مواضعه } أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة والإشارة بهذا قيل هي إلى التحميم والجلد في الزنا، وقيل:هي إلى قبول الدية في أمر القتل، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية، ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } أي لا تتبع نفسك أمرهم، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا "يطهر قلوبكم" وأن يكونوا مدنسين بالكفر، ثم قرر تعالى "الخزي في الدنيا". والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
وقوله: { سماعون للكذب } إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضاً عن بني إسرائيل وقوله تعالى: { أكالون للسحت } فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و "السحت" كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة " السحْت" ساكنة الحاء خفيفة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي "السحُت" مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع "السِّحْت" بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى:
{ { فيسحتكم بعذاب } [طه:61] ومن الرباعي قول الفرزدق:

إلا مسحتاً أو مجلف

والسُّحْت والسُّحُت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت، والسحْت بفتح السين وسكون الحاء المصدر، سمي به المسحوت كما سمي المصدي صيداً في قوله عز وجل { { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 95] وكما سمي المرهون رهناً، وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد: فسمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب وتستأصله النوب، كما قال عليه السلام
"من جمع مالاً من تهاوش أذهبه الله في نهابير" ، وقال مكي سمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلاً، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل, وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتاً لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أشبه، أصل السحت كلب الجوع، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يُلفى أبداً إلا جائعاً يذهب ما في معدته، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبداً لا يشبع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بأن الرشوة تنسحت، فالمعنى هو كما قدمناه، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب، وليس كلب الغرث أصلاً للسحت، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب: مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذلك الكفر، وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم" .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل، وقوله تعالى: { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } تخير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم، وقال عكرمة والحسن: هذا التخيير منسوخ بقوله { { وأن احكم بينهم بما أنزل } [المائدة:49] وقال ابن عباس ومجاهد: نسخ من المائدة آيتان، قوله تعالى: { { ولا القلائد } [المائدة:2] نسختها آية السيف وقوله: { أو أعرض عنهم } نسختها { { وأن احكم بينهما بما أنزل الله } [المائدة:49].
قال القاضي أبو محمد: وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينقر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوي محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار، قاله ابن القاسم في العتبية، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم.
قال القاضي أبو محمد: وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النازلة عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟ وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته؟ ومالكرحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: { فإن جاؤوك } يعني أهل نازلة الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم.