التفاسير

< >
عرض

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩٦
جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
-المائدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضاً يراد به الصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب، و { البحر } الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً، وكل نهر كبير بحر، واختلف الناس في معنى قوله { وطعامه } قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته" " وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة: "طعامه" كل ما ملح منه وبقي، وتلك صنائع تدخله فترده طعاماً، وإنما الصيد الغريض، وقال قوم { طعامه } ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء، وقال مالكرحمه الله : أنتم تقولون خنزير، ومذهبه إباحته، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال، وهو مذهب مالك، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و "طُعْمه" بضم الطاء وسكون العين دون ألف و { متاعاً } نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون، و { لكم } يريد حاضري البحر ومدنه، { وللسيارة } المسافرين، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون، والسيارة أهل الأمصار.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.
واختلف العلماء في مقتضي قوله { وحرم عليكم الصيد البر ما دمتم حرماً } فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته، فقالو إن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر بصيد ولا أن يأكل صيداً صيد من أجله ولا من غير أجله، ولحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم، وروي أن عثمان حج وحج معه علي بن أبي طالب فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال علي: { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } ، وروي أن عثمان استعمل على العروض أبا سفيان بن الحارث فصاد يعاقيب فجعلها في حظيرة فمر به عثمان بن عفان فطبخهن وقدمهن إليه، جاء علي بن أبي طالب فنهاهم عن الأكل، وذكر نحو ما تقدم قال: ثم لما كانوا بمكة أتي عثمان فقيل له هل لك في علي؟ أهدي له تصفيف حمار فهو يأكل منه، فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله التصفيف وقال له: أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له علي: إنه صيد عام أول، وأنا حلال، فليس علي بأكله بأس، وصيد ذلك، يعني اليعاقيب وأنا محرم وذبحن وأنا حرام، وروي مثل قول علي عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى بأساً للمحرم أن يأكل لحم الصيد الذي صاده الحلال لحلال مثله ولنفسه، وسئل أبو هريرة عن هذه النازلة فأفتى بالإباحة، ثم أخبر عمر بن الخطاب فقال له لو أفتيت بغير هذا لأوجعت رأسك بهذه الدرة، وسأل أبو الشعثاء ابن عمر عن هذه المسألة فقال له، كان عمر يأكله، قال: قلت فأنت؟ قال كان عمر خيراً مني، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثل قول علي بن أبي طالب، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك، فقال، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم، قال الطبري وقال آخرون: إنما حرم على المحرم أن يصيد، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، اشترى قطاً وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس، ومالك رحمه الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم، فإن صيد من أجله فلا يأكله، وكذلك قال الشافعي، ثم اختلفا إن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه، وقرأ ابن عباس و "حَرَّم" بفتح الحاء والراء مشددة "صيدَ" بنصب الدال "ما دمتم حَرماً" بفتح الحاء، المعنى وحرم الله عليكم، و { حرماً } يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه، والمعنى ما دمتم محرمين، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالكرحمه الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه: وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في المدونة، فإنه قال الضفادع من صيد البحر، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه راعي أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر أم صيد بحر؟ فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه. قال القاضي أبو محمد: والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب, وقوله تعالى: { واتقوا الله } تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم.
ثم ذكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل، ذكر تعالى في قوله تعالى: { جعل الله } الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و "الهدي" قوام و "القلائد" قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس، فرآه النبي، قال: هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه، وقال: ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم، وجعل في هذه الآية بمعنى صير، والكعبة بيت مكة، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة، ومنه قول الأسود بن يعفر:

أهل الخورنق والسدير وبارق والبيت ذي الكعبات من سنداد

قالوا: كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية، وقال قوم: سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض، ومنه كعب ثدي الجارية، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة، و { قياماً } معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها، وقد يستعمل القوام على الأصل، قال الراجز:

قوام دنيا وقوام دين

وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى { قياماً للناس } أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام، ومع الهدي والقلائد، وقرأ ابن عامر وحده "قيماً" دون ألف، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها، ويحتمل "قيماً" أن تحذف الألف وهي مرادة، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير سعة، وقرأ الجحدري " قيِّماً " بفتح القاف وشد الياء المكسورة { والشهر } هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر وهو رجب الأصم، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص:

وشهر بني أمية والهدايا إذا سيقت مدرجها الدماء

وسماه النبي عليه السلام شهر الله, أي شهر آل الله، وكان يقال لأهل الحرم آل الله، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه، وأما { الهدي } فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما { القلائد } فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئاً فكان ذلك أماناً له، وكان الأمر في نفوسهم عظيماً مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئاً خوفاً من الله، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم، وقوله تعالى: { للناس } لفظ عام، وقال بعض المفسرين أراد العرب.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه لهذا التخصيص، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً، ثم شدد ذلك بالإسلام، وقوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياماً، والمعنى فعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وقوله تعالى: { بكل شيء عليم } عام عموماً تاماً في الجزئيات ودقائق الموجودات، كما قال عز وجل
{ { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } } [الأنعام:59]، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر، ثم خوف تعالى عباده، ورجاهم بقوله { اعلموا أن الله } الآية، وهكذا هو الأمر في نفسه حري أن يكون العبد خائفاً عاملاً بحسب الخوف متقياً متأنساً بحسب الرجاء.