التفاسير

< >
عرض

وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
١٣٧
وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
١٣٨
-الأعراف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قوله: { الذين كانوا يستضعفون } كناية عن بني إسرائيل لاستعباد فرعون لهم وغلبته عليهم، وقوله: { مشارق الأرض ومغاربها } قال الحسن وقتادة وغيرهما: يريد أرض الشام، وقال أبو جعفر النحاس: وقيل يراد أرض مصر وهو قول الحسن في كتاب النقاش، وقالت فرقة: يريد الأرض كلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يتجه إما على المجاز لأنه ملكهم بلاداً كثيرة، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم وهو سليمان بن داود ولكن الذي يليق بمعنى الآية وروي فيها هو أنه ملك أبناء المستضعفين بأعيانهم مشارق الأرض ومغاربها لا سيما بوصفه الأرض بأنها التي بارك فيها ولا يتصف بهذه الصفة وينفرد بها أكثر من غيرها إلا أرض الشام لما بها من الماء والشجر والنعم والفوائد، وحكى الطبري عن قائل لم يسمه وذكر الزهراوي أنه الفراء: أن { مشارق الأرض ومغاربها } نصب على الظرف أي يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن قوله: { التي باركنا فيها } معمول لـ { أورثنا } ، وضعفه الطبري، وكذلك هو قول غير متجه، و { التي } في موضع خفض نعت لـ { الأرض }، ويجوز أن يكون في موضع نصب نعت لمشارق ومغارب، وقوله: { وتمت كلمة ربك الحسنى } أي ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه، قاله مجاهد، وقال المهدوي: وهي قوله
{ { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } [القصص:5] وقيل هي قوله: { { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } } [الأعراف:129]، وروي عن أبي عمرو "كلمات" و { يعرشون } قال ابن عباس ومجاهد معناه يبنون وعرش البيت سقفه والعرش البناء والتنضيد, وقال الحسن هي في الكروم وما أشبهها, وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ الباقون: ابن عامر وعاصم فيما روي عنه والحسن وأبو رجاء ورجاء ومجاهد بضمها، وكذلك في سورة النحل وهما لغتان، وقرأ ابن أبي عبلة "يُعَرَّشون ويُعَكِّفون" بضم الياء فيهما وفتحة العين مشددة الراء والكاف مكسورتين.
قال القاضي أبو محمد: ورأيت للحسن البصري أنه احتج بقوله تعالى: { وتمت كلمة ربك } إلى آخر الآية، على أنه لا ينبغي أن يخرج على ملوك السوء وإنما ينبغي أن يصبر عليهم، فإن الله تعالى يدمرهم، ورأيت لغيره أنه قال: إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه، وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الله بالفرج، وروي هذا القول أيضاً عن الحسن.
وقرأ جمهور الناس "وجاوزنا" وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "وجوزنا" ذكره أبو حاتم والمهدوي، والمعنى قطعناه بهم وجزعناه وهذه الآية ابتداء خبر عنهم، قال النقاش: جاوزوا البحر يوم عاشوراء، وأعطي موسى التوراة يوم النحر القابل بين الأمرين أحد عشر شهراً، وروي أن قطعهم كان من ضفة البحر إلى ضفة المناوحة الأولى وروي أنه قطع من الضفة إلى موضع آخر منها.
قال القاضي أبو محمد: فإما أن يكون ذلك بوحي من الله وأمر لينفذ أمره في فرعون وقومه وهذا هو الظاهر، وإما بحسب اجتهاد موسى في التخلص بأن يكون بين وضعين أوعار وحايلات، ووقع في كتاب النقاش أنه نيل مصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ لا تساعده رواية ولا يحتمله لفظ إلا على تحامل، وإنما هو بحر القلزوم و "القوم" المشار إليهم في الآية العرب، قيل هم الكنعانيون، وقال قتادة وقال أبو عمران الجوني: هم قوم من لخم وجذام، والقوم في كلام العرب الرجال خاصة، ومنه قول زهير:

ولا أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

ومنه قوله عز وجل: { { لا يسخر قوم من قوم.... ولا نساء من نساء } [الحجرات:11] وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر "يعكُفون" بضم الكاف، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية عبد الوارث عنه "يعكِفون" بكسرها وهما لغتان والعكوف: الملازمة بالشخص لأمر ما والإكباب عليه، ومنه الاعتكاف في المساجد ومنه قول الراجز " [الرجز]

عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْزَجَا

و "الأصنام" في هذه الآية قيل كانت بقراً على الحقيقة، وقال ابن جريج: كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من مقالة بني إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } أنهم استحسنوا ما رأوه من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به إلى الله، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى: اجعل لنا صنماً نفرده بالعبادة ونكفر بربك، فعرفهم موسى أن هذا جهل منهم إذ سألوا أمراً حراماً فيه الإشراك في العبادة ومنه يتطرق إلى إفراد الأصنام بالعبادة والكفر بالله عز وجل، وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي قصه النبي صلى الله عليه وسلم في قول أبي واقد الليثي له في غزوة حنين إذ مروا على دوح سدرة خضراء عظيمة: اجعل لنا يا رسول الله ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ولها يوم يجتمعون إليها فيه، فأراد أبو واقد وغيره أن يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ذريعة إلى عبادة تلك السرحة، فأنكره وقال:
" الله أكبر قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لتتبعن سنن من قبلكم" .
قال القاضي أبو محمد: ولم يقصد أبو واقد بمقالته فساداً، وقال بعض الناس كان ذلك من بني إسرائيل كفراً ولفظة الإله تقتضي ذلك، وهذا محتمل، وما ذكرته أولاً أصح عندي والله تعالى أعلم.