التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ
٤٥
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٤٦
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٤٧
-الأنفال

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذا أمر بما فيه داعية النصر وسبب العز، وهي وصية من الله متوجهة بحسب التقييد التي في آية الضعف، ويجري مع معنى الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا" .
قال القاضي أبو محمد: وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق، و "الفئة" الجماعة أصلها فئوة وهي من فأوت أي جمعت، ثم أمر الله تعالى بإكثار ذكره هنالك إذ هو عصمة المستنجد ووزر المستعين، قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه إذا كان إلغاطاً، فأما إن كان من الجمع عند الحملة فحسن فاتٌّ في عضد العدو، وقال قيس بن عباد: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث: عند قراءة القرآن وعند الجنازة والقتال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال وإقامة الصلاة ونزول الغيث،" وقال ابن عباس يكره التلثم عند القتال.
قال القاضي أبو محمد: ولهذا والله أعلم يتسنن المرابطون بطرحه عند القتال على ضنانتهم به و { تفلحون } تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم، وهذا مثل قول لبيد: [الرجز]

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضْـ ضعف وقد يخدع الأريب

وقوله { وأطيعوا الله ورسوله } الآية استمرار على الوصية لهم والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أمر بدر وتنازعهم، و { تفشلوا } نصب بالفاء في جواب النهي، قال أبو حاتم في كتاب عن إبراهيم "فتفشِلوا" بكسر الشين وهذا غير معروف وقرأ جمهور الناس "وتذهبَ" بالتاء من فوق ونصب الباء، وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم "وتذهبْ ريحكم" بالتاء وجزم الباء، وقرأ عيسى بن عمر "ويذهبْ" بالياء من تحت وبجزم يذهب، وقرأ أبو حيوة "ويذهبَ" بالياء من تحت ونصب الباء، ورواها أبان وعصمة عن عاصم، والجمهور على أن الريح هنا مستعارة والمراد بها النصر والقوة كما تقول: الريح لفلان إذا كان غالباً في أمر، ومن هذا المعنى قول الشاعر وهو عبيد بن الأبرص: [البسيط]

كما حميناك يوم العنف من شطبٍ والفضل للقوم من ريح ومن عدد

وقال مجاهد: "الريح" النصر والقوة، وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد، وقال زيد بن علي { وتذهب ريحكم } معناه الرعب من قلوب عدوكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع، وإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فيهزمون، وقال شاعر الأنصار: [البسيط]

قد عوَّدَتْهمْ ظباهم أن تكونَ لهمْ ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لقوا

ومن استعارة الريح قول الآخر: [الوافر]

إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون

وهذا كثير مستعمل, وقال ابن زيد وغيره: الريح على بابها، وروي أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا" . وقال الحكم { وتذهب ريحكم } يعني الصبا إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما كان في غزوة الخندق خاصة، وقوله { واصبروا } إلى آخر الآية، تتميم في الوصية وعدة مؤنسة، وقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الآية، آية تتضمن الطعن على المشار إليهم وهم كفار قريش، وخرج ذلك على طريق النهي عن سلوك سبيلهم، والإشارة هي إلى كفار قريش بإجماع، و "البطر" الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها، و "الرياء" المباهاة والتصنع بما يراه غيرك، وهو فعال من راءى يرائي سهلت همزته، وروي أن أبا سفيان لما أحس أنه قد تجاوز بعيره الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعث إلى قريش فقال: "إن الله قد سلم عيركم التي خرجتم إلى نصرتها فارجعوا سالمين قد بلغتم مرادكم"، فأتى رأي الجماعة على ذلك، فقال أبو جهل: والله لا نفعل حتى نأتي بدراً، وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب لها يوم موسم، فننحر عليها الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب ويهابنا الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهذا معنى قوله تعالى: { ورئاء الناس } ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فاحنها الغداة " ، وقال محمد بن كعب القرظي: خرجت قريش بالقيان والدفوف، وقوله { ويصدون عن سبيل الله }، أي غيرهم.
قال القاضي أبو محمد: لأنهم أحرى بذلك من أن يقتصر صدهم على أنفسهم، وقوله { والله بما يعملون محيط } آية تتضمن الوعيد والتهديد لمن بقي من الكفار ونفوذ القدر فيمن مضى بالقتل.