التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
٤٥
وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٤٦
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٤٧
-التوبة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق، { وارتابت قلوبهم } معناه شكّت، والريب نحو الشك، { يترددون } أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وأنه غير صحيح أحياناً، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين، وأيضاً فبين الشك والريب فرق ما، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها، ألا ترى أن قول الهذلي:

كأني أريته بريب

لا يتجه أن يفسر بشك قال الطبري: وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرنا في سورة النور، وأسند عن الحسن وعكرمة أنهما قالا في قول { { لا يستأذنك الذين يؤمنون } [التوبة:44] إلى قوله { فهم في ريبهم يترددون } نسختها الآية التي في النور، { { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } [الآية :62] إلى { { إن الله غفور رحيم } [النور:62].
قال القاضي أبو محمد: وهذا غلط وقد تقدم ذكره، وقوله تعالى { ولو أرادوا الخروج } الآية، حجة على المنافقين، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له قبل كونه، و" العدة" ما يعد للأمر ويروى له من الأشياء، وقرأ جمهور الناس "عُدة" بضم العين وتاء تأنيث، وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية بن محمد "عُدة " بضم العين وهاء إضمار يريد"عدته" فحذفت تاء التأنيث لما أضاف، كما قال" وأقام الصلاة" يريد إقامة الصلاة، هذا قول الفراء، وضعفه أبو الفتح، وقال إنما خذف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير عوضاً منها، وقال أبو حاتم: هو جمع عدة على عد، كبرة وكبر ودرة ودر، والوجه فيه عدد ولكن لا يوافق خط المصحف، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبان وزر بن حبيش "عِده" بكسر العين وهاء إضمار وهو عندي اسم لما يعد كالريح والقتل لأن العدو سمي قتلاً إذ حقه أن يقتل هذا في معتقد العرب حين سمته، { انبعاثهم } نفوذهم لهذه الغزوة، و" التثبيط " التكسيل وكسر العزم، وقوله { وقيل }، يحتمل أن يكون حكاية عن الله تعالى أي قال الله في سابق قضائه { اقعدوا مع القاعدين }، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض إما لفظاً وإماً معنى، فحكي في هذه الألفاظ التي تقتضي لهم مذمة إذ القاعدون النساء والأطفال، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن محمد صلى الله عليه وسلم عبارة عن التخلف والتراخي كما هو في قول الشاعر:

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وليس للهيئة في هذا كله مدخل، وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين وقوله تعالى: { لو خرجوا فيكم } الآية، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة، وقولهم { إلا خبالاً } استثناء من غير الأول، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال، فيزيد المنافقون فيه، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً، ويحتمل أن يكون استثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال، فلو خرج هؤلاء لالتأموا مع الخارجين فزاد الخبال، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة كالمودات وبعض الأجرام، ومنه قول الشاعر: [الكامل]

يا بني لبينى لستما بيدِ إلاّ يداً مخبولة العضدِ

وقرأ ابن أبي عبلة " ما زادكم " بغير واو، وقرأ جمهور الناس { لأوضعوا } ومعناه لأسرعوا السير، و { خلالكم } معناه فيما بينكم من هنا إلى هنا يسد الموضع الخلة بين الرجلين، والإيضاع سرعة السير، وقال الزجّاج { خلالكم } معناه فيما يخل بكم.
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف، وماذا يقول في قوله:
{ { فجاسوا خلال الديار } [الاسراء:5] وقرأ مجاهد فيما حكى النقاش عنه، " ولأوفضوا " وهو أيضاً بمعنى الإسراع ومنه قوله تعالى: { { إلى نصب يوفضون } [المعارج:43]، وحكي عن الزبير أنه قرأ " ولأرفضوا " قال أبو الفتح: هذه من رفض البعير إذا أسرع في مشيه رقصاً ورقصاناً، ومنه قول حسان بن ثابت: [الكامل]

رقص القلوص براكب مستعجل

ووقعت " ولا أوضعوا" بألف بعد"لا" في المصحف، وكذلك وقعت في قوله { { أو لأذبحنه } } [النمل: 21]، قيل وذلك لخشونة هجاء الأولين قال الزجّاج: إنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفاً.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تمطل حركة اللام فيحدث بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقوله: { يبغونكم الفتنة } أي يطلبون لكم الفتنة، وقوله { وفيكم سماعون } قال سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، ورجحه الطبري، قال النقاش: بناء المبالغة يضعف هذا القول، وقال جمهور المفسرين معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم، وقوله { والله عليم بالظالمين } توعد لهم ولمن كان من المؤمنين على هذه الصفة.