التفاسير

< >
عرض

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٦
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٠٧
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٩
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٠
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١١١
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١١٢
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } تفسير النسخ لغة التبديل، وشريعة بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلاً في حقنا بياناً محضاً في حق صاحب الشرع. وفيه جواب عن البداء الذي يدعيه منكروه ــ أعني اليهود ــ ومحله حكم يحتمل الوجود والعدم في نفسه لم يلحق به ما ينافي النسخ من توقيت أو تأبيد، ثبت نصاً أو دلالة. وشرطه التمكن من عقد القلب عندنا دون التمكن من الفعل خلافاً للمعتزلة. وإنما يجوز النسخ بالكتاب والسنة متفقاً ومختلفاً ويجوز نسخ التلاوة والحكم، والحكم دون التلاوة، والتلاوة دون الحكم ونسخ وصف بالحكم مثل الزيادة على النص فإنه نسخ عندنا خلافاً للشافعيرحمه الله . والإنساء أن يذهب بحفظها عن القلوب «أو ننسأها» مكي وأبو عمرو أي نؤخرها من نسأت أي أخرت { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي نأت بآية خير منها للعباد أي بآية العمل بها أكثر للثواب. { أَوْ مِثْلِهَا } في ذلك إذ لا فضيلة لبعض الآيات على البعض { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ } فهو يملك أموركم ويدبرها وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ. { وَمَا لَكُم مّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ } يلي أمركم { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يمنعكم من العذاب { أَمْ تُرِيدُونَ } «أم» منقطعة وتقديره بل أتريدون { أَن تَسْـئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } روي أن قريشاً قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً ووسع لنا أرض مكة فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه حين قالوا اجعل لنا إلهاً. { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَـٰنِ } ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } قصده ووسطه.

{ وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم } أن يردوكم { مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا } حال من «كم» أي يردونكم عن دينكم كافرين، نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد واقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فارجـعوا إلى ديننا فهو خير لكم. { حَسَدًا } مفعول له أي لأجل الحسد وهو الأسف على الخير عند الغير { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } يتعلق بـ «ودّ» أي ودوا من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودوا ذلك { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي من بعد علمهم بأنكم على الحق، أو بـ «حسداً» أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم. { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } فاسلك بهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة { حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } بالقتال { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو يقدر على الانتقام منهم. { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما { تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } تجدوا ثوابه عنده { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يضيع عنده عمل عامل. والضمير في { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلفّ بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه، ألا ترى إلى قوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ عَلَىٰ شَىْء وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَىْء }؟ وهود جمع هائد كعائذ وعوذ وواحد اسم كان للفظ «من»، وجمع الخبر لمعناه. { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم. والأمنية أفعولة من التمني مثل الأضحوكة. { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ } هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة. وهات بمنزلة هاء بمعنى أحضر وهو متصل بقولهم«لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى» و«تلك أمانيهم» اعتراض. { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } في دعواكم. { بَلَىٰ } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره. { وَهُوَ مُحْسِنٌ } مصدق بالقرآن. { فَلَهُ أَجْرُهُ } جواب «من أسلم». و«هو» كلام مبتدأ متضمن لمعنى الشرط و«بلى» رد لقولهم. { عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.