التفاسير

< >
عرض

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ
٤٥
ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ
٤٦
يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ
٤٧
وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
٤٨
وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ
٥١
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

والهمزة في { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ } للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم. { بِٱلْبِرّ } أي سعة الخير والمعروف ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير ومنه قولهم «صدقت وبررت». وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه. وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وإذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها. { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } وتتركونها من البر كالمنسيات. { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَـٰبَ } تبكيت أن تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل. { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم. { وَٱسْتَعِينُواْ } على حوائجكم إلى الله { بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ } أي بالجمع بينهما وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض، أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال: " واستعينوا بالصبر والصلاة" وقيل: الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر. وقيل: الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعه. { وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة أو للاستعانة. { لَكَبِيرَةٌ } لشاقة ثقيلة من قولك «كبر عَلَيَّ هذا الأمر» { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ } لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم، ألا ترى إلى قوله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا رَبّهِمْ } أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه. وفسر «يظنون» بـ «يتيقنون» لقراءة عبد الله «يعلمون»، أي يعلمون أنه لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك، وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة. والخشوع الإخبات والتطامن وأما الخضوع فاللين والانقياد. وفسر اللقاء بالرؤية وملاقو ربهم بمعاينوه بلا كيف. { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رٰجِعُونَ } لا يملك أمرهم في الآخرة أحد سواه.

{ خَـٰلِدُونَ يَـٰبَنِي إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } التكرير للتأكيد { وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ } نصب عطف على «نعمتي» أي اذكروا نعمتي وتفضيلي. { عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } على الجم الغفير من الناس يقال «رأيت عالماً من الناس» والمراد الكثرة. { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا } أي يوم القيامة وهو مفعول به لا ظرف. { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ } مؤمنة. { عَن نَّفْسٍ } كافرة { شَيْئاً } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق التي لزمتها. و«شيئاً» مفعول به أو مصدر أي قليلاً من الجزاء، والجملة منصوبة المحل صفة ويوماً والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه و{ ولا يقبل منها شفاعةٌ } «ولا تقبل» بالتاء:مكي وبصري، والضمير في «منها» يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة، وقيل: كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله: { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِينَ } وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة مردود لأن المنفي شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي من كذب بها لم ينلها" { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي فدية لأنها معادلة للمفدي. { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعاونون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة، وذكّر لمعنى العباد أو الأناسي.

{ وَإِذْ نَجَّيْنَـٰكُم مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الإسكاف والحجام، وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس. { يَسُومُونَكُمْ } حال من «آل فرعون» أي يولونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم { سُوءَ ٱلْعَذَابِ } ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزيدة أو مطالبة، وسوء مفعول ثانٍ لـ «يسومونكم» وهو مصدر سيىء. يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق و«سوء» الفعل يراد قبحهما، ومعنى سوء العذاب، والعذاب كله سيىء أشده وأفظعه. { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } بيان لقوله «يسومونكم» ولذا ترك العاطف { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } يتركون بناتكم أحياء للخدمة، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يزول ملكه بسببه كما أنذروا نمرود فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ وكان ما شاء الله { وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاءٌ } محنة إن أشير بذلكم إلى صنع فرعون، ونعمة إن أشير به إلى الانتجاء. { مّن رَّبّكُمْ }، صفة لـ «بلاء» { عظِيمٌ } صفة ثانية.

{ وَإِذْ فَرَقْنَا } فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرىء «فرّقنا» أي فصلنا يقال: فرق بين الشيئين وفَرَّقَ بين الأشياء لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط. { بِكُمُ ٱلْبَحْرَ } كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم، أو فرقناه بسببكم، أو فرقناه ملتبساً بكم فيكون في موضع الحال. رُوي أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: أين أصحابنا فنحن لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم. { فَأَنجَيْنَـٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آل فِرْعَونَ وَأَنتُم تَنظُرونَ } إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه. وإنما قال { وَإِذْ وٰعَدْنَا مُوسَىٰ } لأن الله تعالى وعده الوحي ووعده هو المجيء للميقات إلى الطور. «وعدنا» حيث كان بصري. لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وقال { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } لأن الشهور غررها بالليالي و«أربعين» مفعول ثانٍ لـ «واعدنا» لا ظرف لأنه ليس معناه واعدناه في أربعين ليلة { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } أي إلها فحذف المفعول الثاني لـ «اتخذتم»، وبابه بالإظهار مكي وحفص { مِن بَعْدِهِ } من بعد ذهابه إلى الطور، { وَأَنتُمْ ظَـٰلِمُونَ } أي بوضعكم العبادة غير موضعها والجملة حال أي عبدتموه ظالمين. { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } محونا ذنوبكم عنكم. { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } من بعد اتخاذكم العجل. { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا النعمة في العفو عنكم.

{ وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ } يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره «رأيت الغيث والليث» تريد الرجل الجـامع بين الجود والجراءة. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل: الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا.