التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٢٣
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
١٢٤
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
١٢٥
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً
١٢٦
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً
١٢٧
وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٢٨
وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٢٩
-النساء

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ } ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام { وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18]. { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [البقرة: 80]. { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } أي من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فقوله «وهو مؤمن» حال و «من» الأولى للتبعيض، والثانية لبيان الإبهام في «من يعمل»، وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } «يدخلون»: مكي وأبو عمرو وأبو بكر { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة والراجع في { وَلاَ يُظْلَمُونَ } لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً. وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره عند الآخر. وقوله: { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ }.وقوله:« وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ». بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } } وقوله: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } عقيب قوله: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله } أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا يعرف لها رباً ولا معبوداً سواء { وَهُوَ مُحْسِنٌ } عامل للحسنات { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفاً } مائلاً عن الأديان الباطلة وهو حال من المتبع أو من إبراهيم { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً } هو في الأصل المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك، أو يداخلك خلال منزلك، أو يسد خللك كما يسد خلله، فالخلة صفاء مودة توجب الاختصاص بتخلل الأسرار، والمحبة أصفى لأنها من حبة القلب وهي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كقوله «والحوادث جمة». وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته، ولو جعلتها معطوفة على الجمل قبلها ولم يكن لها معنى وفي الحديث "اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام" وقيل: أوحي إليه إنما اتخذتك خليلاً لأنك تحب أن تعطي ولا تعطى. وفي رواية «لأنك تعطي الناس ولا تسألهم».

وفي قوله { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } دليل على أن اتخاذه خليلاً لاحتياج الخليل إليه لا لاحتياجه تعالى إليه لأنه منزه عن ذلك { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلّ شَيْءً مُّحِيطاً } عالماً.

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنّسَاءِ } ويسألونك الإفتاء في النساء والإفتاء تبيين المبهم { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَـٰبِ فِي يَتَـٰمَى ٱلنّسَاءِ } أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب أي القرآن في معنى اليتامى يعني قوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَـٰمَىٰ } [النساء: 3]. وهو من قولك «أعجبني زيد وكرمه» و «ما يتلى» في محل الرفع بالعطف على الضمير في «يفتيكم» أو على لفظ «الله» و «في يتامى النساء» صلة «يتلى» أي يتلى عليكم في معناهن. ويجوز أن يكون «في يتامى النساء» بدلاً من «فيهن» والإضافة بمعنى «من» { ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } ما فرض لهن من الميراث وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه ومالها، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي في أن تنكحوهن لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن { وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدٰنِ } أي اليتامى وهو مجرور معطوف على «يتامى النساء»، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَـٰمَىٰ } مجرور كالمستضعفين بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا، أو منصوب بمعنى ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم { بِٱلْقِسْطِ } بالعدل في ميراثهم ومالهم { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } شرط وجوابه { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } أي فيجازيكم عليه.

{ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأمارته. والنشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته وأن يؤذيها بسب أو ضرب { أَوْ إِعْرَاضاً } عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها بسبب كبر سن أو دمامة أو سوء في خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو غير ذلك { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا } كوفي. «يصّالحا»: غيرهم أي يتصالحا وهو أصله فأبدلت التاء صاداً وأدغمت. { صُـلحاً } في معنى مصدر كل واحد من الفعلين. ومعنى الصلح أن يتصالحا على أن تطيب له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } من الفرقة أو من النشوز أو من الخصومة في كل شيء، أو والصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور، وهذه الجملة اعتراض كقوله { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } أي جعل الشح حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه يعني أنها مطبوعة عليه. والمراد أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها والرجل لا يكاد يسمح بأن يقسم لها إذا رغب عنها، فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته. «وأحضرت» يتعدى إلى مفعولين والأول «الأنفس». ثم حث على مخالفة الطبع ومتابعة الشرط بقوله { وَإِن تُحْسِنُواْ } بالإقامة على نسائكم، وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة { وَتَتَّقُواْ } النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإحسان والتقوى { خَبِيراً } فيثيبكم عليه. وكان عمران الخارجي من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه وقالت: الحمد لله على أني وإياك من أهل الجنة. قال: كيف؟ فقالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت والجنة موعودة للشاكرين والصابرين { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء } ولن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة، فتمام العدل أن يسوى بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والمحالمة والمفاكهة وغيرها. وقيل: معناه أن تعدلوا في المحبة وكان عليه السلام يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه. { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } بالغتم في تجري ذلك { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ } فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمها من غير رضا منها يعني أن اجتناب كل الميل في حد اليسر فلا تُفْرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله، وفيه ضرب من التوبيخ. و «كل» نصب على المصدر لأن له حكم ما يضاف إليه { فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } وهي التي ليست بذات بعلٍ ولا مطلقة { وَإِن تُصْلِحُواْ } بينهن { وَتَتَّقُواْ } الجور { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } يغفر لكم ميل قلوبكم ويرحمكم فلا يعاقبكم.