التفاسير

< >
عرض

وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٨
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
١٩
وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٢٠
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
-النساء

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ ٱلآنَ } أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار، وقبول التوبة ثواب ولا وعد به إلا لمختار { وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ } في موضع جر بالعطف على «للذين يعملون السيئات» أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين يموتون { وَهُمْ كُفَّارٌ } قال سعيد بن جبير: الآية الأولى في المؤمنين، والوسطى في المنافقين، والآخرى في الكافرين. وفي بعض المصاحف بلامين وهو مبتدأ خبره. { أُوْلَٰـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء. كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزلت { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } أي أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات « كرهاً » بالفتح من الكراهة وبالضم: حمزة وعلي من الإكراه مصدر في موضع الحال من المفعول. والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله: { { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } [الإسراء: 31]. وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } وهو منصوب عطفاً على «أن ترثوا» و«لا» لتأكيد النفي أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن، أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على « كرها». والعضل: الحبس والتضييق { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } من المهر واللام متعلقة بـ «تعضلوا» { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } هي النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. وعن الحسن: الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع { مُّبَيِّنَةٍ } وبفتح الياء: مكي وأبو بكر، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } لقبحهن أو سوء خلقهن { فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } في ذلك الشيء أو في الكره { خَيْراً كَثِيراً } ثواباً جزيلاً أو ولداً صالحاً. والمعنى فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين، وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك ولكن للنظر في أسباب الصلاح. وإنما صح قوله { فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ } جزاء للشرط لأن المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه.

وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل: { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } أي تطليق امرأة وتزوج أخرى { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ } وأعطيتم إحدى الزوجات، فالمراد بالزوج الجمع لأن الخطاب لجماعة الرجال { قِنْطَاراً } مالاً عظيماً كما في «آل عمران». وقال عمر رضي الله عنه على المنبر: لا تغالوا بصدقات النساء. فقالت امرأة: أنتبع قولك أم قول الله: { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ قِنطَاراً }. فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر، تزوجوا على ما شئتم { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ } من القنطار { شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي بيناً، والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير. وانتصب بهتاناً على الحال أي باهتين وآثمين. ثم أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } أي خلا بلا حائل ومنه الفضاء، والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ وعلل بذلك { وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـٰقاً غَلِيظاً } عهداً وثيقاً وهو قول الله تعالى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } [البقرة: 229]. والله تعالى أخذ هذا الميثاق عى عباده لأجلهن فهو كأخذهن، أو قول النبي عليه السلام " استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" ولما نزل «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً» قالوا: تركنا هذا لا نرثهن كرهاً ولكن نخطبهن فننكحهن برضاهن فقيل لهم:

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاءِ } وقيل: المراد بالنكاح الوطء أي لا تطئوا ما وطيء آباؤكم، وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين. ولما قالوا: كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منا؟ قال: { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي لكن ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به، والاستثناء منقطع عن سيبويه. ثم بين صفة هذا العقد في الحال فقال { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } بالغة في القبح { وَمَقْتاً } وبغضاً عند الله وعند المؤمنين وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتى { وَسَاءَ سَبِيلاً } وبئس الطريق طريقاً ذلك.

ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حل من النساء وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهو نساء الآباء ذكر المحرمات الباقيات وهن سبع من النسب وسبع من السبب، وبدأ بالنسب فقال:

{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } والمراد تحريم نكاحهن عند البعض، وقد ذكرنا المختار في شرح المنار. والجدة من قبل الأم أو الأب ملحقة بهن { وَبَنَـٰتُكُمْ } وبنات الابن وبنات البنت ملحقات بهن، والأصل أن الجمع إذا قوبل بالجمع ينقسم الآحاد على الآحاد فتحرم على كل واحد أمه وبنته { وَأَخَوٰتُكُمْ } لأب وأم أو لأب أو لأم { وَعَمَّـٰتُكُمْ } من الأوجه الثلاثة { وَخَـٰلَـٰتُكُمْ } كذلك { وَبَنَاتُ ٱلأَخِ } كذلك { وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ } كذلك. ثم شرع في السبب فقال { وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ } الله تعالى نزل الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة، أما للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير الرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، وأصله قوله عليه السلام "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَائِكُمْ } وهن محرمات بمجرد العقد { وَرَبَائِبُكُمُ } سمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة لأنه يربّهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما { ٱلَّٰتِى فِي حُجُورِكُمْ } قال داود: إذ لم تكن في حجره لا تحرم. قلنا: ذكر الحجر على غلبة الحال دون الشرط، وفائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم { مّن نِّسَائِكُمُ ٱللَّـٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } متعلق بـ «ربائبكم» أي الربيبة من المرأة المدخول بها حرام على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم «بنى عليها وضرب عليها الحجاب» أي أدخلتموهن الستر والباء للتعدية. واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول، وقد جعل بعض العلماء « اللاتي دخلتم بهن» وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة وليس كذلك، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل، وهذا لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية بـ «من»، ولا يجوز أن تقول «مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات» على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء كذا قال الزجاج وغيره، وهذا أولى مما قاله صاحب الكشاف فيه. { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن { وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ } جمع حليلة وهي الزوجة لأن كل واحد منهما يحل للآخر، أو يحل فراش الآخر من الحل، أو من الحلول { ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ } دون من تبنيتم فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب حين فارقها زيد وقال الله تعالى: { لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } [الأحزاب: 37]. وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ } أي في النكاح وهو في موضع الرفع عطف على المحرمات أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } وعن محمد بن الحسنرحمه الله أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلا نكاح امرأة الأب ونكاح الأختين فلذا قال فيهما:.

«إلا ما قد سلف»