التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٢٤
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٦
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
٢٧
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً
٢٨
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٣٢
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
٣٣
ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
٣٤
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
٣٥
-النساء

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاءِ } أي ذوات الأزواج لأنهن أحصنّ فروجهن بالتزوج. قرأ الكسائي بفتح الصاد هنا وفي سائر القرآن بكسرها وغيره بفتحها في جميع القرآن { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } بالسبي وزوجها في دار الحرب. والمعنى وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي اللاتي لهن أزواج إلا ما ملكتموهن بسبيهن وإخراجهن بدون أزواجهن لوقوع الفرقة بتباين الدارين لا بالسبي، فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستبراء { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } مصدر مؤكد أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فريضة وهو تحريم ما حرم وعطف { وَأُحِلَّ لَكُمْ } على الفعل المضر الذي نصب كتاب الله أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم { مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ما سوى الحرمات المذكورة. «وأحل»: كوفي غير أبي بكر عطف على «حرمت» { أَن تَبْتَغُواْ } مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم لأن تبتغوا، أو بدل مما «وراء ذلكم» ومفعول «تبتغوا» مقدر وهو النساء، والأجود أن لا يقدر { بأموالكم } يعني المهور، وفيه دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر، وأنه يجب وإن لم يسم، وأن غير المال لا يصلح مهراً، وأن القليل لا يصلح مهراً إذ الحبة لا تعد مالاً عادة { مُّحْصِنِينَ } في حال كونكم محصنين { غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم، ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين. والإحصان العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والمسافح الزاني من السفح وهو صب المني { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } فما نكحتموه منهن { فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فـ «ما» في معنى النساء و«من» للتبعيض أو للبيان ويرجع الضمير إليه على اللفظ في «به» وعلى المعنى في «فآتوهن» { فَرِيضَةً } حال من الأجور أي مفروضة، أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله، أو يزيد لها على مقداره، أو فيما تراضيا به من مقام أو فراق { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بالأشياء قبل خلقها { حَكِيماً } فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب. وقيل: إن قوله «فما استمتعتم» نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت.

{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } فضلاً. يقال «لفلان عليّ طول» أي فضل وزيادة وهو مفعول «يستطع» { أَن يَنكِحَ } مفعول الطول فإنه مصدر فيعمل عمل فعله أو بدل من «طولاً» { ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } الحرائر المسلمات { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } أي فلينكحن مملوكة من الإماء المسلمات. وقوله: «من فتياتكم». أي من فتيات المسلمين والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة، ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقاً مع التقييد به. وقال ابن عباس: ومما وسّع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً، وفيه دليل لنا في مسألة الطول { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِكُمْ } فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } أي لا تستنكفوا من نكاح الإماء فكلكم بنو آدم، وهو تحذير عن التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } سادتهن وهو حجة لنا في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم، وأنه ليس للعبد أو للأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وإضرار وملاّك مهورهن مواليهن، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، أو التقدير: وآتوا مواليهن فحذف المضاف { مُحْصَنَـٰتٍ } عفائف حال من المفعول في و«آتوهن» { غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } زوانٍ علانية { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } زوانٍ: سراً والأخدان: الأخلاء في السر { أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ } بالتزويج. «أحصن»: كوفي غير حفص { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ } زنا { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } أي الحرائر { مّنَ ٱلْعَذَابِ } من الحد يعني خمسين جلدة، وقوله: «نصف ما على المحصنات ». يدل على أنه الجلد لا الرجم لأن الرجم لا يتنصف، وأن المحصنات هنا الحرائر اللاتي لم يزوجن { ذٰلِكَ } أي نكاح الإماء { لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الزنا لأنه سبب الهلاك. { وَأَن تَصْبِرُواْ } في محل الرفع على الابتداء أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين { خَيْرٌ لَّكُمْ } لأن فيه إرقاق الولد، ولأنها خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة والعزة من صفات المؤمنين، وفي الحديث "الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت" { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } يستر المحظور { رَّحِيمٌ } يكشف المحظور { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بمصالح عباده { حَكِيمٌ } فيما شرع لهم { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } التكرير للتأكيد والتقرير والتقابل { وَيُرِيدُ } الفجرة { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } وهو الميل عن القصد والحق، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات. وقيل: هم اليهود لاستحلالهم الأخوات لأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخت والأخ فنزلت. يقول: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص { وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً } لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات. { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً } إلا أن تقع تجارة.« تجارة»: كوفي أي إلا أن تكون التجارة تجارة { عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } صفة لـ «تجارة» أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد أو بالتعاطي. والاستثناء منقطع معناه ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراضٍ، أو ولكن كون تجارة عن تراضٍ غير منهي عنه. وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها، والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا، وعلى نفي خيار المجلس لأن فيها إباحة الاكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد والتقييد به زيادة عن النص { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } من كان من جنسكم من المؤمنين لأن المؤمنين كنفس واحدة، أو ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله الجهلة، أو معنى القتل أكل الأموال بالباطل فظالم غيره كمهلك نفسه، أو لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها أو تركبوا ما يوجب القتل { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ولرحمته بكم نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم. وقيل: معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.

{ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أي القتل أي ومن يقدم على قتل الأنفس { عُدْوٰناً وَظُلْماً } لا خطأ ولا قصاصاً وهما مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } ندخله ناراً مخصوصة شديدة العذاب { وَكَانَ ذٰلِكَ } أي إصلاؤه النار { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } سهلاً وهذا الوعيد في حق المستحيل للتخليد، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته.

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } عن ابن مسعود رضي الله عنهما: الكبائر كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله:« إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه». وعنه أيضاً: الكبائر ثلاث: الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وقيل: المراد بها أنواع الكفر بدليل قراءة عبد الله «كبير ما تنهون عنه» وهو الكفر { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } «مدخلا»: مدني وكلاهما بمعنى المكان والمصدر كريما «حسناً». وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.« يريد الله ليبين لكم». «والله يريد أن يتوب عليكم». «يريد الله أن يخفف عنكم».« إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم ». «إن الله لا يغفر أن يشرك به». «إن الله لا يظلم مثقال ذرة». «ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه». «ما يفعل الله بعذابكم». وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر، وعلى أن الكبائر غير مغفورة باطل، لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء إن شاء عذب عليهما وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى. وقوله: { إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ } [هود: 114]. فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات ينطبق عليهما.

ولما كان أخذ مال الغير بالباطل وقتل النفس بغير حق بتمني مال الغير وجاهه نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال بقوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه، والغبطة أن يتمنى مثل ما لغيره وهو مرخص فيه، والأول منهي عنه. ولما قال الرجال: نرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث، قالت النساء: يكون وزرنا على نصف وزر الرجال كالميراث نزل { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبْنَ } أي ليس ذلك على حسب الميراث { وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ } فإن خزائنه لا تنفد ولا تتمنوا ما للناس من الفضل { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } فالتفضيل منه عن علم بمواضع الاستحقاق. قال ابن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي وفي الحديث "من لم يسأل الله من فضله غضب عليه" وفيه " إن الله تعالى ليمسك الخير الكثير عن عبده ويقول: لا أعطي عبدي حتى يسألني" « وسلوا»: مكي وعلي { وَلِكُلٍّ } المضاف إليه محذوف تقديره ولكل أحد أو ولكل مال { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } ورّاثاً يلونه ويحرزونه { مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلأَقْرَبُونَ } هو صفة مال محذوف أي لكل مال مما تركه الوالدان، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه الموالي تقديره: يرثون مما ترك { وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } عاقدتهم أيديكم وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره وهو { فَـئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } مع الفاء.«عقدت»: كوفي أي عقدت عهودهم أيمانكم والمراد به عقد الموالاة وهي مشروعة. والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضي الله عنهم وهو قولنا. وتفسيره إذا أسلم رجل أو امرأة لا وارث له وليس بعربي ولا معتق فيقول لآخر: واليتك على أن تعقلني إذا جنيت وترث مني إذا مت. ويقول الآخر: قبلت. انعقد ذلك ويرث الأعلى من الأسفل { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً } أي هو عالم الغيب والشهادة وهو أبلغ وعد ووعيد.

{ ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء } يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا وسموا قواماً لذلك { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } الضمير في «بعضهم» للرجال والنساء يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن لسبب تفضيل الله بعضهم ــ وهم الرجال ــ على بعض ــ وهم النساء ــ بالعقل والعزم والحزم والرأي والقوة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة والجمعة وتكبير التشريق ــ عند أبي حنيفةرحمه الله ــ والشهادة في الحدود والقصاص وتضعيف الميراث والتعصيب فيه وملك النكاح والطلاق وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم. { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ } وبأن نفقتهن عليهم وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم. ثم قسمهن على نوعين. النوع الأول { فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ } مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج { حَـفِظَـٰتٌ لّلْغَيْبِ } لمواجب الغيب وهو خلاف الشهادة أي إذ كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال. وقيل: للغيب لأسرارهم { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج بقوله: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [النساء: 19]. أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب، أو بحفظ الله إياهن حيث صيرهن كذلك. والثاني { وَٱلَّٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وترفعهن عن طاعة الأزواج. والنشز: المكان المرتفع والنبوة. عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره { فَعِظُوهُنَّ } خوفوهن عقوبة الله تعالى. والضرب والعظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع { وَٱضْرِبُوهُنَّ } ضرباً غير مبرح. أمر بوعظهن أولاً ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } بترك النشوز { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى و«سبيلاً» مفعول «تبغوا» وهو من بغيت الأمر أي طلبته { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن، أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.

ثم خاطب الولاة بقوله { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله «شقاقاً بينهما» فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله: { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [سبأ: 33]. وأصله بل مكر في الليل والنهار. والشقاق: العداوة والخلاف، لأن كلاًّ منهما يفعل ما يشق على صاحبه، أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } رجلاً يصلح للحكومة والإصلاح بينها { وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة. والضمير في { إِن يُرِيدَا إِصْلَـٰحاً } للحكمين، وفي { يُوَفّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَا } للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق. أو الضميران للحكمين أي إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين، يوفق الله بينهما فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد. أو الضميران للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير وأن يزول عنهما الشقاق، يلق الله بينهما الألفة وأبدلهما بالشقاق الوفاق وبالبغضاء المودة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بإرادة الحكمين { خَبِيراً } بالظالم من الزوجين وليس لهما ولاية التفريق عندنا خلافاً لمالكرحمه الله .