التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً
٤٨
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٤٩
ٱنظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً
٥٠
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
٥١
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
٥٢
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً
٥٣
أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً
٥٤
فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
٥٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
٥٦
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً
٦٢
-النساء

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

ولما لم يؤمنوا نزل { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني القرآن { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } يعني التوراة { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهَا } فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم تُوُعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى: أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وقيل: المراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَـٰبَ ٱلسَّبْتِ } أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت. والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال: ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي. أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين: بطمس الوجوه أو بلعنهم، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. وقيل: هو منتظر في اليهود { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به { مَفْعُولاً } كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } إن مات عليه { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب. قال النبي عليه السلام "من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته" وتقييده بقوله { لِمَن يَشَاءُ } لا يخرجه عن عمومه كقوله: { ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء } [الشورى: 19]. قال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية. وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38]. فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة. والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً.

ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18]. { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } [البقرة: 111]. { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ } إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه: { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [النجم: 32]. { وَلاَ يُظْلَمُونَ } أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم { فَتِيلاً } قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ. { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ { وَكَفَىٰ بِهِ } بزعمهم هذا { إِثْماً مُّبِيناً } من بين سائر آثامهم.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني اليهود { يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ } أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله { وَٱلطَّـٰغُوتِ } الشيطان { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰـؤُلاء أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً } وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب: أنتم أهدى سبيلاً. { أَوْلَٰـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أبعدهم من رحمته { وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يعتد بنصره. ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال، يمنعون ما لهم ويتمنون ما لغيرهم فقال { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ٱلْمُلْكِ } فـ «أم» منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك { فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } أي لو كان لهم نصيب من الملك أي ملك أهل الدينا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم، والنقير: النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل.

{ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَى مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه، وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم { فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ } أي التوراة { وَٱلْحِكْــمَةِ } الموعظة والفقه { وَءَتَيْنَٰهُمُ مُّلْكاً عَظِيماً } يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ } فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } للصادين.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ } ندخلهم { نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أحرقت { بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } أعدنا تلك الجلود غير محترقة، فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية. وعن فضيل: يجعل النضيج غير نضيج { لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: «أعزك الله» أي أدامك على عزك { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً } غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين { حَكِيماً } فيما يفعل بالكافرين { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من الأنجاس والحيض والنفاس { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال: «ليل أليل» وهو ماكان طويلاً فيناناً لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة.

ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا } وقيل: قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } قضيتم { أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } بالسوية والإنصاف. وقيل: إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة، فلما نزلت الآية أمر علياً رضي الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أنزل الله في شأنك قرآناً" وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } «ما» نكرة منصوبة موصوفة بـ «يعظكم به» كأنه قيل: نعم شيئاً يعظكم به، أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أي نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وبكسر النون وسكون العين: مدني وأبو عمرو، وبفتح النون وكسر العين: شامي وحمزة وعلي. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً } لأقوالكم { بَصِيراً } بأعمالكم.

ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ } فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" . وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله: و«أولي الأمر منكم»؟ فقال أبو حازم: أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق. بقوله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله» أي القرآن و«الرسول» في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته { ذٰلِكَ } إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة { خَيْرٌ } عاجلاً { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبة كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يرتشي ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه، فاحتكما إلى النبي عليه السلام فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر. فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت الفاروق" { يُرِيدُونَ } حال من الضمير في« يزعمون» { أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ } أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام، أو على التشبيه بالشيطان، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله { وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ } عن الحق { ضَلَـٰلاً بَعِيداً } مستمراً إلى الموت { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } للمنافقين { تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ } للتحاكم { رَأَيْتَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم { فَكَيْفَ } تكون حالهم وكيف يصنعون { إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ } من قتل عمر بشرا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم { ثُمَّ جَاءُوكَ } أي أصحاب القتيل من المنافقين { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ } حال { إِنْ أَرَدْنَا } ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك { إِلاَّ إِحْسَاناً } لا إساءة { وَتَوْفِيقاً } بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك، وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار. وقيل: جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به.