التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٦٧
قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٦٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٩
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
٧٠
وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٧١
لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
٧٢
لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٣
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٤
مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٧٥
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٧٦
قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٧٧
-المائدة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبِّهِمْ } من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم. وقيل: هو القرآن. { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } يعني الثمار من فوق رؤوسهم { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني الزروع وهذه عبارة عن التوسعة كقولهم «فلان في النعمة من فرقه إلى قدمه». ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق وهو كقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96]. { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 3]. { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [نوح: 10] الآيات. { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً [الجن:16] مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } طائفة حالها أُمَمٌ في عداوة رسول الله عليه السلام. وقيل: هي الطائفة المؤمنة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } فيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه وغيرهم.

{ ياأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من رّبِّكَ } جميع ما أنزل إليك، وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه { وإن لّم تفعل } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فما بَلَّغْتَ رسالته } «رسالاته»: مدني وشامي وأبو بكر. أي فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لكونها في حكم شيء واحد لدخولها تحت خطاب واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن. قالت الملحدة لعنهم الله تعالى: هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك: «كل هذا الطعام فإن لم تأكله فإنك ما أكلته»، قلنا: هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل فإن لم تفعل أي إن لم تبلغ الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً، أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدة، فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً، أو بلغ ذلك غير خائف أحداً فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً. ثم قال مشجعاً له في التبليغ { واللّهُ يعصمك من النّاسِ } يحفظك منهم قتلاً فلم يقدر عليه وإن شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته أو نزلت بعدما أصابه ما أصابه. والناس الكفار بدليل قوله { إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين } لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.

{ قل ياأهل الكتاب لستم على شيءٍ } على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لبطلانه { حتّى تقيموا التّورٰة والإنجيل ومآ أنزل إليكم مّن رَّبِّكمْ } يعني القرآن { وليزيدنّ كثيراً مّنهم مّآ أنزل إليك من رّبّك طغياناً وكفراً } إضافة زيادة الكفر والطغيان إلى القرآن بطريق التسبيب { فلا تأس على القوم الكافرين } فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك.

{ إنَّ الّذين آمَنُوا } بألسنتهم وهم المنافقون ودل عليه قوله: { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [آل عمران: 76] { والّذين هادوا والصّبئون والنّصارى } قال سيبويه وجميع البصريين: ارتفع «الصابئون» بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز «إن» من اسمها وخبرها كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى { من آمن باللّهِ واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } والصابئون كذلك أي من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم فقدم وحذف الخبر كقوله:

فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب

أي فإني لغريب وقيار كذلك، ودل اللام على أنه خبر «إن» ولا يرتفع بالعطف على محل «إن» واسمها لأن ذا لا يصح قبل الفراغ من الخبر. لا تقول «إن زيداً وعمرو منطلقان» وإنما يجوز «إن زيداً منطلق وعمرو»، والصابئون مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله «إن الذين آمنوا» إلى آخره، ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها. وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان فما الظن بغيرهم! ومحل «من آمن» الرفع على الابتداء وخبره «فلا خوف عليهم» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. ثم الجملة كما هي خبر «إن» والراجح إلى اسم «إن» محذوف تقديره: من آمن منهم.

{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرآءِيل } بالتوحيد { وأرسلنا إليهم رسلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم { كلّما جآءَهُم رسولٌ } جملة شرطية وقعت صفة لـ «رسلاً» والراجع محذوف أي رسول منهم { بما لا تهوى أنفسهم } بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع، وجواب الشرط محذوف دل عليه { فريقاً كذَّبُوا وفريقاً يقتلون } كأنه يقول: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله «فريقاً كذبوا» جواب مستأنف لقائل كأنه يقول: كيف فعلوا برسلهم! وقال «يقتلون» بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل، وتنبيهاً على أن القتل من شأنهم، وانتصب «فريقاً» و«فريقاً» على أنه مفعول «كذبوا» و«يقتلون». وقيل: التكذيب مشترك بين اليهود والنصارى، والقتل مختص باليهود فهم قتلوا زكريا ويحيـى. { وحسبوا ألا تكون } «أن لا تكون»: حمزة وعلي وأبو عمرو على «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تكون فخففت «إن» وحذف ضمير الشأن، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم فلذا دخل فعل الحسبان على «أن» التي هي للتحقيق { فتنةٌ } بلاء وعذاب أي وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل. وسد ما يشتمل عليه صلة «أن» وأن من المسند والمسند إليه مسد مفعولي «حسب» { فَعَمُوا وصَمُّوا } فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا، أو فعموا عن الرشد وصموا عن الوعظ { ثمّ تابَ اللَّهُ عليهم } رزقهم التوبة { ثمّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِّنهم } هو بدل من الضمير أي الواو وهو بدل البعض من الكل، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم { واللّه بصيرٌ بما يعملون } فيجازيهم بحسب أعمالهم.

{ لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرٰءيل اعبدوا اللّه ربّي وربّكم } لم يفرق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب ليكون حجة على النصارى { إنّه من يشرك باللّه } في عبادته غير الله { فقد حَرَّمَ اللَُّه عليهِ الجنّةَ } التي هي دار الموحدين أي حرمه دخولها ومنعه { ومأوٰه النَّارُ } أي مرجعه { وما للظّالمين } أي الكافرين { من أنصَارٍ } وهو من كلام الله تعالى أو من كلام عيسى عليه السلام.

{ لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه ثَالِثُ ثلاثةٍ } أي ثالث ثلاثة آلهة، والإشكال أنه تعالى قال في الآية الأولى «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» وقال في الثانية «لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة» والجواب أن بعض النصارى كانوا يقولون: كان المسيح بعينه هو الله لأن الله ربما يتجلى في بعض الأزمان في شخص فتجلى في ذلك الوقت في شخص عيسى، ولهذا كان يظهر من شخص عيسى أفعال لا يقدر عليها إلا الله، وبعضهم ذهبوا إلى آلهة ثلاثة: الله ومريم والمسيح وأنه ولد الله من مريم. و «من» في قوله { وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ وٰحدٌ } للاستغراق أي وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له. وفي قوله { وإن لّم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ الّذين كفروا منهم } للبيان كالتي في { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [الحج: 30] ولم يقل «ليمسنهم» لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر، أو للتبعيض أي ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية { عذابٌ أليمٌ } نوع شديد الألم من العذاب. { أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه } ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه وفيه تعجيب من إصرارهم { واللّه غفورٌ رّحيمٌ } يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم. { مّا المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ } فيه نفي الألوهية عنه { قد خلت من قبله الرّسل } صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى لم يكن منه لأنه ليس إلٰهاً بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى، وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر وأنثى { وأمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } [التحريم: 12]. ثم أبعدهما عما نسب إليهما بقوله { كانا يأكلان الطّعام } لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وغير ذلك ما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام { انظر كيف نبيّن لهم الآيات } أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم { ثمّ انظر أنّىٰ يؤفكون } كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان، وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب.

{ قل أتعبدون من دون اللّه ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعاً } هو عيسى عليه السلام أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئاً، وهذا دليل قاطع على أن أمره منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً، وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته { واللّه هو السّميعُ العليمُ } متعلق بـ «أتعبدون» أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه ويعلم ما تعتقدونه { قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الغلو مجاوزة الحد، فغلو النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية، وغلو اليهود وضعه عن استحقاق النبوة { غير الحقِّ } صفة لمصدر محذوف أي غلوا غير الحق يعني غلواً باطلاً { ولا تتّبعوآ أهوآءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ } أي أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم { وأضلُّوا كثيراً } ممن تابعهم { وضلُّوا } لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم { عن سوآءِ السَّبِيلِ } حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.