التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
١
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
٥
-الأنفال

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

مدنية وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية

{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } النفل الغنيمة لأنها من فضل الله وعطائه، والأنفال الغنائم. ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله كيف تقسم ولمن الحكم في قسمتها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم هي لرسول الله وهو الحاكم فيها خاصة يحكم ما يشاء ليس لأحد غيره فيها حكم. ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أن حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في الاختلاف والتخاصم وكونوا متآخين في الله { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، وقال الزجاج: معنى { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } حقيقة وصلكم. والبين الوصل أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كاملي الإيمان { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } إنما الكاملو الإيمان { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ } أي القرآن { زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً } ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، أو زادتهم إيماناً بتلك الآيات لأنهم لم يؤمنوا بأحكامها قبل { وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعتمدون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم لا يخشون ولا يرجون إلا إياه { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } هو صفة لمصدر محذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } كقولك «هو عبد الله حقاً» أي حق ذلك حقاً. وعن الحسنرحمه الله أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ قال: إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } الآية. فلا أدري أنا منهم أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية، أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله. وكان أبو حنيفةرحمه الله لا يقول ذلك. وقال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعاً لإبراهيم في قوله { وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ } [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله { { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ } [البقرة: 260]، وعن إبراهيم التيمي: قل أنا مؤمن حقاً فإن صدقت أثبت عليه، وإن كذبت فكفرك أشد من كذبك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقاً. وقد احتج عبد الله على أحمد فقال: إيش اسمك؟ فقال: أحمد، فقال: أتقول أنا أحمد حقاً أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال: أنا أحمد حقاً. فقال: حيث سماك والداك لا تستثني وقد سماك الله في القرآن مؤمناً تستثني. { لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ } مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال { عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ } وتجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } صافٍ عن كد الاكتساب وخوف الحساب.

الكاف في { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر، والتقدير: قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون { مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنة فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بِٱلْحَقّ } إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَـِّرِهُونَ } في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم. وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان، فأخبر جبريل النبي عليه السلام فأخبر أصحابه فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا علمت قريش بذلك فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهو النفير في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير. فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت، فأبى وسار بمن معه إلى بدر ـ وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ـ ونزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشاً. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: "العير أحب إليكم أم النفير" قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال: "إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل" فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو. فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض، فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قال المقداد بن عمرو: امض لما أمرك الله فإنا معك حيث أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: { ٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ } [المائدة: 24]. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، فسر بنا على بركة الله. ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال: «سيروا على بركة الله أبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» وكانت الكراهة من بعضهم لقوله { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَـِّرِهُونَ } قال الشيخ أبومنصوررحمه الله : يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقاداً، ويحتمل أن يكونوا مخلصين، وأن يكون ذلك كراهة طبع لأنهم غير متأهبين له.