التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
١٥
مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ
١٦
يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
١٧
مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٩
وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
٢٠
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ
٢١
وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٢
-إبراهيم

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { واستفتحوا } يعني واستنصروا. قال ابن عباس: يعني الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا وقال مجاهد وقتادة: واستفتح الرسل على أممهم وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب { وخاب } يعني وخسر وقيل: هلك { كل جبار عنيد } والجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها وهو صفة ذم في حق الإنسان، وقيل: الجبار الذي لايرى فوقه أحداً, وقيل: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والعنيد المعاند للحق ومجانبه قال مجاهد. وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل: هو المتكبر. وقال قتادة: هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله. وقيل: العنيد هون المعجب بما عنده. وقيل العنيد الذي يعاند ويخالف { من ورائه جهنم } يعني هي أمامه وهو صائر إليها قال أبو عبيدة: هو من الأضداد يعني أنه يقال: وراء بمعنى خلف وبمعنى أمام وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك يعني أنه سيأتيك { ويسقى } يعني في جهنم { من ماء صديد } وهو ما سال من الجلد واللحم من القيح جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر وهو قوله { يتجرعه } أي يتحساه ويشربه لا بمرة واحدة بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه { ولا يكاد يسيغه } أي لا يقدر على ابتلاعه. يقال: ساغ الشراب في الحلق إذا سهل انحداره فيه. قال بعض المفسرين: إن يكاد صلة والمعنى يتجرعه ولا يسيغه وقال صاحب الكشاف: دخلت يكاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة وقال بعضهم ولا يكاد يسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء فعلى هذا كاد أصلها وليست بصلة، وقال ابن عباس: معناه لا يجيزه. وقيل: معناه يكاد لا يسيغه ويسيغه فيغلي في جوفه. عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { ويسقى من ماء صديد يتجرعه } قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره قال وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم وقال وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا" أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. قوله: وقعت فروة رأسه أي جلدة رأسه وإنما شبهها بالفروة للشعر الذي عليها. وقوله تعالى { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } يعني أن الكافر يجد ألم الموت وشدته من كل مكان من أعضائه. وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده وقيل يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة { ومن ورائه } يعني أمامه { عذاب غليظ } أي شديد قيل: هو الخلود في النار. قوله تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } هذا كلام مستأنف منقطع عما قبله وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره فيما نقص، أو فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا والمثل مستعار للقصة التي فيها غرابة، وقوله: أعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم فقال أعمالهم كرماد. وقال المفسرون والفراء: مثل أعمال الذين كفروا بربهم فحذف المضاف اعتماداً على ما ذكره بعد المضاف إليه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد كقولك في صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول والرماد معروف وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد إحراقه بالنار، اشتدت به الريح يعني فنسفته وطيرته ولم تبق منه شيئاً في يوم عاصف، وصف اليوم بالعصوف والعصوف من صفة الريح، لأن الريح تكون فيه كقولك: يوم بارد وحار وليلة ماطرة لأن الحر والبرد والمطر توجد فيهما وقيل: معناه في يوم عاصف الريح فحذف الريح لأنه قد تقدم ذكرها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي لم ينتفوا بها، ووجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتذهب به وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى منها شيء وكذلك أعمال الكفار تبطل، وتذهب بسبب كفرهم وشركهم حتى لا يبقى منها شيء ثم اختلفوا في هذه الأعمال ما هي فقيل: هي ما عملوه من أعمال الخير في حال الكفر كالصدقة وصلة الأرحام, وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين، ونحو ذلك من أعمال البر والصلاح فهذه الأعمال، وإن كانت أعمال بر لكنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره لأن كفره أحبطها وأبطلها كلها وقيل: المراد بالأعمال عبادتهم الأصنام التي ظنوا أنها تنفعهم فبطلت وحبطت ولم تنفعهم البتة، ووجه خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم في الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم. وقيل: أراد بالأعمال الأعمال التي عملوها في الدنيا وأشركوا فيها غير الله فإنها لا تنفعهم لأنها صارت كالرماد الذي ذرته الريح وصار هباء لا ينتفع به وهو قوله تعالى: { لا يقدرون مما كسبوا } يعني في الدنيا { عمل شيء } يعني من تلك الأعمال والمعنى أنهم لايجدون ثواب أعمالهم في الآخرة { ذلك هو الضلال البعيد } يعني ذلك: الخسران الكبير لأن أعمالهم ضلت وهلكت، فلا يرجى عودها والبعيد هنا الذي لا يرجى عوده { ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق } يعني لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً وإنما خلقها لأمر عظيم وغرض صحيح { إن يشأ يذهبكم } يعني أيها الناس { ويأت بخلق جديد } يعني: سواكم أطوع لله منكم. والمعنى: أن الذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على إفناء قوم وإماتتهم وإيجاد خلق آخر سواهم لأن القادر لا يصعب عليه شيء. وقيل هذا خطاب لكفار مكة يريد يمتكم يا معشر الكفار، ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع { وما ذلك على الله بعزيز } يعني بممتنع لأن الأشياء كلها سهلة على الله، وإن جلت وعظمت. قوله عز وجل { وبرزوا لله جميعاً } يعني خرجوا من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم والبراز الفضاء، وبرز حصل في البراز وذلك أن يظهر بذاته كلها والمعنى، وخرجوا من قبورهم وظهروا إلى الفضاء وأورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله عنه، فهو حق وصدق. وكائن لامحالة فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود { فقال الضعفاء } يعني الأتباع { للذين استكبروا } وهم القادة والرؤساء { إنا كنا لكم تبعاً } يعني في الدين والاعتقاد { فهل أنتم } يعني في هذا اليوم { مغنون عنا } يعني دافعون عنا { من عذاب الله من شيء } من هنا للتبعيض والمعنى هل تقدرون على أن تدفعوا عنا بعض عذاب الله الذي حل بنا { قالوا } يعني الرؤساء والقادة، والمتبوعين للتابعين { لو هدانا الله لهديناكم } يعني لو أرشدنا الله لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى ولكن لما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } يعني مستويان علينا الجزع والصبر. والجزع، أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه عنه { ما لنا من محيص } يعني من مهرب، ولا مناجاة مما نحن فيه من العذاب. قال مقاتل: يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون: تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فعند ذلك يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أن أهل النار يستغيثون بالخزنة كما قال الله وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فردت الخزنة عليهم وقالوا ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فردت الخزنة وقالوا ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلما يئسوا مما عند الخزنة، نادوا يا مالك ليقض علينا ربك سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم كألف سنة مما تعدون ثم يجيبهم بقوله: إنكم ماكثون فلما يئسوا مما عنده قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا فصبروا وطال صبرهم فلم ينفعهم وجزعوا، فلم ينفعهم عند ذلك قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. قوله تعالى { وقال الشيطان } يعني إبليس { لما قضي الأمر } يعني لما فرغ منه وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، وتوبيخه، فيقوم فيها خطيباً قال مقاتل: يوضع له منبر في النار فيجتمع عليه أهل النار يلومونه فيقول لهم: ما أخبر الله عنه بقوله { إن الله وعدكم وعد الحق } فيه إضمار تقديره فصدق في وعده { ووعدتكم فأخلفتكم } يعني الوعد. وقيل يقول: لهم إني قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار { وما كان لي عليكم من سلطان } يعني من ولاية وقهر، وقيل: لم آتيكم بحجة فيما وعدتكم به { إلا أن دعوتكم } هذا استثناء منقطع معناه لكن دعوتكم { فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } يعني ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، وقد سمعتم دلائل الله وجاءتكم الرسل فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفوا إليّ ولا تسمعوا قولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بأجابتي، ومتابعتي من غير حجة ولا دليل { ما أنا بمصرخكم } يعني بمغيثكم ولا منقذكم { وما أنتم بمصرخي } يعني بمغيثيّ ولا منقذيّ مما أنا فيه { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } يعني كفرت بجعلكم إياي شريكاً له في عبادته وتبرأت من ذلك والمعنى أن إبليس جحد ما يعتقده الكفار فيه، من كونه شريكاً لله وتبرأ من ذلك { إن الظالمين لهم عذاب أليم } روى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، وذكر الحديث إلى قوله "فيأتوني فيأذن الله في أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل لي نوراً من رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه، فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم تعظم جهنم، ويقول عند ذلك: إن الله وعدكم وعد الحق الآية " .