التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ
٣٨
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٩
رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ
٤٠
رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ
٤١
وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ
٤٢
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ
٤٣
-إبراهيم

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } يعني إنك تعلم السر كما تعلم العلن عما لا تفاوت فيه؛ والمعنى أنك تعلم أحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا وأنت أرحم بنا منا فلا حاجة بنا إلى الدعاء، والطلب إنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك، وتخشعاً لعظمتك وتذللاً لعزتك وافتقاراً إلى ما عندك, وقيل: معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع وما نعلن يعني من البكاء, وقيل: ما نخفي يعني من الحزن المتمكن في القلب، وما نعلن يعني ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه السلام إلى من تكلنا قال: إلى الله قالت إذاً لا يضيعنا { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } فقيل: هذا من تتمة قول إبراهيم يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان وقال الأكثرون: إنه من قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال: فهو كقوله وكذلك يفعلون { الحمد لله رب الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة، ومعنى قوله: على الكبر مع الكبر لأن هبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس من الولد لهذا شكر الله على هذه المنة. فقال: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق. فإن قلت: كيف جمع بين إسماعيل وإسحاق في الدعاء في وقت واحد وإنما بشر باسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عندما بشر باسحاق وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله ربنا إني أسكنت ذريتي إلى قوله لعلهم يشكرون إذا ثبت هذا فيكون قوله الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق في وقت آخر والله أعلم بحقيقة الحال { إن ربي لسميع الدعاء } كان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربه وسأله الولد بقوله { رب هب لي من الصالحين } [الصافات: 100] فلما استجاب الله دعاءه ووهبه ما سأل شكر الله على ما أكرمه به ومن إجابة دعائه فعند ذلك قال الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء وهو من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله { ربِّ اجعلني مقيم الصلاة } يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها { ومن ذريتي } أي واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة وإنما أدخل لفظة من التي هي للتبعيض في قوله ومن ذريتي لأنه أعلم بإعلام الله إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة فلهذا قال ومن ذريتي وأراد بهم المؤمنين من ذريته { ربنا وتقبل دعاء } سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يتقبل دعاءه فاستجاب الله لإبراهيم وقيل دعاءه بفضله ومنه كرمه { ربنا اغفر لي } فان قلت طلب المغفرة من الله إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة من ذلك الذنب وقد ثبت عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب فما وجه طلب المغفرة له؟ قلت: المقصود منه الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه والاعتراف بالعبودية لله تعالى والاتكال على رحمته { ولوالدي }. فإن قلت: كيف استغفر إبراهيم لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: أراد أنهما إن أسلما وتابا وقيل إنما قال ذلك أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم وقيل إن أمه أسلمت فدعا لها وقيل أراد بوالديه آدم وحواء { وللمؤمنين } يعني واغفر للمؤمنين كلهم { يوم يقوم الحساب } يعني يوم يبدو ويظهر الحساب وقيل أراد يوم الناس للحساب فاكتفى بذلك أي بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. قوله سبحانه وتعالى { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وهذا في حق الله محال فلا بد من تأويل الآية فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم ففيه وعيد وتهديد للظالم وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً قال سفيان بن عيينة: فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. فإن قلت: تعالى الله عن السهو والغفلة فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم غافلاً وهو أعلم الناس به أنه لم غافلاً حتى قيل له ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون. قلت: إذا كان المخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان: أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً فهو كقوله { ولا تكونن من المشركين } [يونس: 105] { { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } [القصص: 88] وكقوله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } [النساء: 136] أي اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان. الوجه الثاني أن المراد بالنهي عن حسابه غافلاً الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون ولا يخفى عليه شيء وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم والمعنى: ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم ولكن يعاملهم معاملة الرقيب الحفيظ عليهم المحاسب لهم على الصغير والكبير وإن كان المخاطب غير النبي صلى الله عليه وسلم فلا إشكال فيه ولا سؤال لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله فمن جوز أن يحسبه غافلاً فلجهله بصفاته { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } يقال: شخص بصر الرجل إذا بقيت عيناه مفتوحتين لا يطرفهما، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة من هول ما ترى في ذلك اليوم { مهطعين } قال قتادة مسرعين وهذا قول أبي عبيدة فعلى هذا المعنى أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً باهتاً فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن أحوال أهل الوقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة فأخبر سبحانه وتعالى أنهم مع شخوص الأبصار يكونون مهطعين يعني مسرعين نحو الدعي وقيل المهطع الخاضع الذليل الساكت { مقنعي رؤوسهم } الاقناع رفع الرأس إلى فوق فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وهو قوله تعالى { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف فهي شاخصة لا ترتد إليهم قد شغلهم ما بين أيديهم { وأفئدتهم هواء } أي خالية. قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت في حناجرهم فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ومعنى الآية أن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئاً ولا تعقل من شدة الخوف. وقال سعيد بن جبير: وأفئدتهم هواء مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه, ومعنى الآية أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته.