التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٥٨
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
٥٩
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً
٦٠
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
٦١
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٢
قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً
٦٣
وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
٦٤
-الإسراء

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله سحانه وتعالى: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } أي بالموت والخراب { أو معذبوها عذاباً شديداً } أي بالقتل وأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا، وقيل: الإهلاك في حق المؤمنين الإماتة وفي حق الكفار العذاب قال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها { كان ذلك في الكتاب } أي في اللوح المحفوظ { مسطوراً } أي مكتوباً مثبتاً. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: ما أكتب: قال: القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد" أخرجه الترمذي. قوله سبحانه وتعالى { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } قال ابن عباس " سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم" فأنزل الله عز وجل { وما منعنا أن نرسل الآيات } أي التي سألها الكفار قومك { إلا أن كذب بها الأولون } أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي بينة، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم { فظلموا بها } أي جحدوا أنها من عند الله. وقيل: فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة { وما نرسل بالآيات } المقترحة { إلا تخويفاً } أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً من العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. وقيل: معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات، إلا تخويفاً أي إنذاراً بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون. قوله عز وجل { وإذ قلنا لك } أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك { إن ربك أحاط بالناس } أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك ويقويك على ذلك { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الأكثرون من المفسرين على أن المراد ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات. قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه سلم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري. وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم. والعرب تقول: رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس، وازداد المخلصون إيماناً. وقال قوم: أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف. وقال قوم كان له معراجان: معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام. وقيل: أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك. فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك بمكة، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة { والشجرة الملعونة في القرآن } يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه: طعام ملعون, والفتنة فيها أن أبا جهل قال: إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلى الله علي وسلم توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر. وقيل: إن عبد الله بن الزبعري قال: إن محمداً يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل: يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر { إنا جعلناها فتنة للظالمين } الآيات. فإن قلت: أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن، قلت: لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة، وقال ابن عباس: في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه { ونخوفهم فما يزيدهم } أي التخويف { إلا طغياناً كبيراً } أي تمرداً وعتواً عظيماً قوله سبحانه وتعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً } أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي { قال } يعني إبليس { أرأيتك } الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني { هذا الذي كرمت علي } أي فضلته { لئن أخرتن } أي أمهلتني { إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته } أي لأستأصلنهم بالإضلال. وقيل: معناه لأقودنهم كيف شئت. وقيل: لأستولين عليهم بالإغواء { إلا قليلاً } يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } { قال } الله تعالى { اذهب } أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم } أي جزاؤك وجزاء أتباعك { جزاء موفوراً } أي مكملاً. قوله سبحانه وتعالى { واستفزز } أي استخفف واستزل واستعجل وأزعج { من استعطت منهم } أي من ذرية آدم { بصوتك } قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس. وقيل: أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب { واجلب عليهم بخيلك ورجلك } أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك، واحثثهم على الإغواء. وقيل: معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم. يقال: إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله، فهو من جند إبليس. وقيل: المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك { وشاركهم في الأموال والأولاد } أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، وقيل هو الربا، وقيل: هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموؤدة، وقيل: أولاد الزنا. وعن ابن عباس أيضاً هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه، وقيل: هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها. وقيل إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل. وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال: ما المغربون قال: الذين شارك فيهم الجن. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال: ذلك من وطء الجن { وعدهم } أي منهم الجميل في طاعتك، وقيل: قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث، وذلك أن الشيطان إذا دعا المعصية فلا بد أن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعلها ألبتة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وأنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها. وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل. فإن قلت: كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر، والله سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يأمر بالفحشاء؟ قلت: هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: اعلموا ما شئتم. وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وقوله سبحانه وتعالى { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال: وعدهم، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله: ما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غروراً.