التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٣٣
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٣٤
إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٥
-آل عمران

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { إن الله اصطفى آدم نوحاً } قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإسلام. ومعنى اصطفى اختار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء آدم هو أبو البشر عليه السلام ونوحاً هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام. وحكى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمي نوحاً لكثرة نوحه على نفسه { وآل إبراهيم } قيل: آراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه، وقيل آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب وذلك أن الله تعالى جعل إبراهيم أصلاً لشعبتين فجعل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أصلاً للعرب ومحمد صلى الله عليه وسلم منهم فهو داخل في هذا الاصطفاء، وجعل إسحاق أصلاً لبني إسرائيل، وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم جمع له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة. وقيل: أراد بآل إبراهيم من كان على دينه { وآل عمران } واختلفوا في عمران هذا فقيل: هو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وهو والد موسى وهارون فيكون آل عمران موسى وهارون أو نفسه، وقيل: هو عمران بن آشيم بن آمون وقيل: ابن ماتان وهو من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وعمران هذا هو والد مريم وابنها عيسى فعلى هذا يكون المراد بآل عمران مريم وابنها عيسى عليه السلام، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم { على العالمين } أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم من النبوة والرسالة { ذرية } أي اصطفى ذرية وأصلها من ذرأ بمعنى خلق وقيل: من الذر لأن الله تعالى استخرجهم من ظهر آدم كالذر وإنما سمي الآباء والأبناء ذرية لآن الله خلق بعضهم من بعض، فالأبناء من ذرية الآباء والآباء من ذرية آدم وهو ممن ذرأه الله تعالى أي خلقه { بعضها من بعض } أي بعضها من ولد بعض وقيل: بعضها من بعض في التناصر والتعاضد وقيل: بعضها على دين بعض { والله سميع عليم } يعني أن الله تعالى سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم وإنما يصطفى لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولاً وفعلاً.
قوله عز وجل: { إذ قالت امرأة عمران } هي حنة بنت فاقوذا أم مريم وعمران هو عمران بن ماثان وقيل: ابن أشيم وليس بعمران أبي موسى لأن بينهما ألفاً وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل في ذلك الزمن وأحبارهم وملوكهم { رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً } أي جعلت الحمل الذي في بطني نذراً محرراً مني لك، والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمعنى محرراً أي عتيقاً خالصاً مفرغاً لعبادة الله وخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من أمور الدنيا. قيل: كان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة فيقوم عليها ويخدمها ولا يبرح مقيماً فيها حتى يبلغ الحلم ثم يخير فإن أحب أقام فيها، وإن أحب ذهب حيث يشاء، فإن اختار الخروج بعد أن اختار الإقامة في الكنيسة لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من أنبياء بني إسرائيل ومن علمائهم إلا ومن أولاده محرر لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يحرر إلاّ الغلمان ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى فحررت أم مريم ما في بطنها، وكانت القصة في ذلك على ما ذكره أصحاب السير والأخبار أن زكريا وعمران تزوجا أختين فكانت إيشاع بنت فاقوذا وهي أم يحيى عند زكريا، وكانت حنة بنت فاقوذا أخت إيشاع عند عمران وهي أم مريم، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وكبرت وكانوا أهل بيت صالحين وهم من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة إذ بصرت بطائر يطعم فرخاً فتحركت نفسها بذلك للولد، فدعت الله أن يهب لها ولداً وقالت: اللّهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمه فلما حملت بمريم حررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى فلا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في هم شديد من أجل ذلك. فمات عمران قبل أن تضع حنة حملها ثم قال تعالى حاكياً عنها { فتقبل مني } يعني فتقبل نذري، والتقبل أخذ الشيء على الرضا وأصله من المقابلة لأنه يقابل بالجزاء وهذا سؤال من لا يريد بما فعله إلاّ الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في دعائه وعبادته { إنك أنت السميع } يعني لتضرعي ودعائي { العليم } يعني بنيتي وما في ضميري.