التفاسير

< >
عرض

وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
-النساء

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله تعالى: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } يعني أولاداً صغاراً { خافوا عليهم } يعني الفقر قيل هذا خطاب للذين يجلسون عند المريض وقد حضره الموت فيقول له انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً قدم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلا يزالون به حتى يأتي على عامة ماله فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بأن يأمروه بالنظر لولده ولا يزيد على الثلث في وصيته ولا يجحف. والمعنى كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الصغار من ماله وحاصل هذا الكلام كما أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم. وكما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالى يتكففون الناس مع ضعفهم وعجزهم. وقيل هو الرجل يحضره الموت ويريد أن يوصي بشيء فيقول له من حضره من الرجال اتق الله وأمسك أموالك لولدك فيمنعونه من الوصية لأقاربه المحتاجين وقيل الآية يحتمل أن تكون خطاباً لمن حضر أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته فقراء ضعافاً ضائعين بعد موته. ثم إن كانت هذه الآية نزلت قبل تقدير الثلث كان المراد منها أن لا يجعل الوصية مستغرقة للتركة وإن كانت قد نزلت بعد تقدير الثلث كان المراد منها أن يوصي بالثلث أو بأقل منه إذا خاف عل ورثته كما روى عن كثير من الصحابة أنهم أوصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس في الوصية أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. وقد ورد في الصحيح الثلث والثلث كثير لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس يعني يسألونهم بأكفهم وقيل هو خطاب لأولياء اليتامى والمعنى وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية أن من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليه أو وصيه وليفعل به ما يحب أن يفعل بأولاده من بعده { فليتقوا الله } يعني في الأمر الذي تقدم ذكره { وليقولوا قولاً سديداً } يعني عدلاً وصواباً فالقول السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث ويترك الباقي لولده ورثته وأن لا يحيف في وصيته. والقول السديد من الأوصياء وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم ولا يؤذوهم بقول ولا فعل قوله عز وجل: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } قال مقاتل وابن حبان نزلت في رجل من غطفان يقاله له مرثد بن زيد ولي مال يتيم وكان اليتيم ابن أخيه فأكله فأنزل الله هذه الآية { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } يعني حراماً بغير حق { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } يعني سيأكلون يوم القيامة فسمي الذين يأكلون ناراً بما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة. قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم. وفي حديث أبي سعيد الخدري قال حدثني النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال "نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار يخرج من أسافلهم قلت يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً" . وقيل إنما ذكر أكل النار على سبيل التمثيل والتوسع في الكلام والمراد أن أكل مال اليتيم ظلماً يفضي به إلى النار وإنما خص الأكل بالذكر وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال لأن الضرر يحصل بكل ذلك لليتيم. فعبر عن جميع ذلك بالأكل لأنه معظم المقصود وإنما ذكر البطون للتأكيد فهو كقولك رأيت بعيني وسمعت بأذني { وسيصلون سعيراً } يعني بأكلهم أموال اليتامى ظلماً والسعير النار الموقدة المسعرة. ولما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى وأموالهم بالكلية فشق ذلك على اليتامى فنزل قوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم } [البقرة: 220] وقد توهم بعضهم أن قوله وإن تخالطوهم ناسخ لهذه الآية وهذا غلط ممن توهمه لأن هذه الآية واردة في المنع من أكل أموال اليتامى ظلماً وهذا لا يصير منسوخاً لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو من أعظم القرب.