التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
٧
إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
٨
لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١٠
-الفتح

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ ولله جنود السموات والأرض } تقدم تفسيره بقي ما فائدة التكرير ولم قدم ذكر جنود السموات والأرض على إدخال المؤمنين الجنة ولم أخر ذكر جنود السموات والأرض هنا بعد تعذيب المنافقين والكافرين، فنقول: فائدة التكرار للتأكيد وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة ومنهم من هو للعذاب فقدم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين جنود الرحمة فيثبتوهم على الصراط وعند الميزان فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه، فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء، وأخر ذكر جنود السموات والأرض بعد تعذيب الكافرين والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقوهم أبداً.
فإن قلت: قال في الآية الأولى: { وكان الله عليماً حكيماً }، وقال في هذه الآية { وكان الله عزيزاً حكيماً } فما معناه؟ قلت: لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله ضعف المؤمنين، ناسب أن تكون خاتمة الآية الأولى { وكان الله عليماً حكيماً }، ولما بالغ في وصف تعذيب الكافر والمنافق وشدته، ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية { وكان الله عزيزاً حكيماً } فهو كقوله:
{ { أليس الله بعزيز ذي انتقام } [الزمر: 37] وقوله { { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [القمر: 42] قوله تعالى: { إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الامتنان عليه حيث شرفه بالرسالة وبعثه إلى الكافة شاهداً على أعمال أمته ومبشراً يعني لمن آمن به وأطاعه بالثواب ونذيراً يعني لمن خالفه وعصى أمره بالعقاب ثم بين فائدة الإرسال فقال تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله } فالضمير فيه للناس المرسل إليهم { وتعزروه } يعني ويقووه وينصروه. والتعزير: نصر مع تعظيم { وتوقروه } يعني وتعظموه والتوقير: التعظيم والتبجيل { وتسبحوه } من التسبيح الذي هو التنزيه من جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة.
قال الزمخشري: والضمائر لله تعالى والمراد بتعزير الله تعالى. تعزير دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فرق الضمائر فقد أبعد وقال غيره: الكنايات في قوله ويعزروه ويوقروه راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعندها تم الكلام فالوقف عليّ ويوقروه وقف تام ثم يبتدئ بقوله ويسبحوه { بكرة وأصيلاً } على أن الكناية في ويسبحوه راجعة إلى الله تعالى يعني ويصلوا الله أو يسبحوا بالغداة والعشي.
قوله عز وجل: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } يعني إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا إنما يبايعون الله لأنهم باعوا أنفسهم من الله عز وجل بالجنة وأصل البيعة: العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام، والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان بالحديبية، وهي قرية ليست بكبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلتين سميت ببئر هناك. وقد جاء في الحديث أن الحديبية بئر. قال مالك: هي من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها من الحل. ويجوز في الحديبية التخفيف والتشديد والتخفيف أفصح وعامة المحدثنين يشددونها (ق) عن يزيد بن عبيدة، قال: قالت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على الموت (م) عن معقل بن يسار لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً عن أغصانها من رأسه ونحن أربعة عشرة مائة قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين ومعناهما صحيح بايعه جماعة منهم سلمة بن الأكوع على الموت فلا يزالون يقاتلون بين يديه حتى يقتلوا أو ينتصروا. وبايعه جماعة منهم معقل بن يسار على أن لا يفروا (خ). عن ابن عمر قال: إن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال يعني عمر: يا عبد الله انظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع. وقوله تعالى: { يد الله فوق أيديهم } قال ابن عباس: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم. وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبايعونه ويد الله فوق أيديهم كذا نقله البغوي عنه. وقال الكلبي: نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يد الله فوق أيديهم يحتمل وجوهاً، وذلك لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين.
فإن قلنا إنها بمعنى واحد ففيه وجهان: أحدهما: يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم كما قال
{ { بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17] وثانيهما: يد الله فوق أيديهم أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال: اليد لفلان، أي الغلبة والنصرة والقوة.
وإن قلنا: إنها بمعنيين، فنقول: اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة، فيكون المعنى: يد الله فوق أيديهم بالحفظ. وقال الزمخشري: لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيداً على طريقة التخيل، فقال: يد الله فوق أيديهم، يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله عز وجل من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى
{ { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء: 80] هذا مذهب أهل التأويل وكلامهم في هذه الآية ومذهب السف السكوت عن التأويل وإمرار آيات الصفات كما جاءت وتفسرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
وقوله تعالى: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } يعني فمن نقض العقد الذي عقده مع النبي صلى الله عليه وسلم ونكث البيعة فإن وبال ذلك وضره يرجع إليه ولا يضر إلا نفسه { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } يعني من البيعة { فسيؤتيه أجراً عظيماً } يعني في الآخرة وهو الجنة.