التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ
٨٣
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ
٨٤
فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٥
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ
٨٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
-المائدة

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } يعني: وإذا سمعوا القرآن الذي أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم { ترى أعينهم تفيض من الدمع } يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى يخرج منه ما فيه. وصفهم الله تعالى بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عن سماع القرآن. قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه لما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم. قال: فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة { مما عرفوا من الحق } يعني الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق { يقولون } يعني القسيسين والرهبان الذين سمعوا القرآن من جعفر عند النجاشي { ربنا آمنا } يعني بالقرآن وشهدنا أنه حق وصدق { فاكتبنا مع الشاهدين } يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق } قال ابن عباس: لما رجع الوفد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لامهم قومهم على ترك دينهم. وقيل: إن اليهود عيروهم وقالوا تركتم دينكم فأجابوا بهذا الجواب. ومعنى الآية: وما لنا لا نؤمن بوحدانية الله وما جاءنا من الحق من عنده على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم { ونطمع } يعني: ونرجو بذلك الإيمان { أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { فأثابهم الله بما قالوا } يعني بالتوحيد الذي قالوه وإنما علق الثواب وهو قوله تعالى: { جنات تجري من تحتها الأنهار } بمجرد القول لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب، لأن القول إذا اقترن بالمعرفة، فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب، وقال ابن عباس: بما قالوا يريد سألوا يعني قولهم فاكتبنا مع الشاهدين { خالدين فيها } يعني في الجنات { وذلك جزاء المحسنين } يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } لما ذكر الله عز وجل الوعد لمؤمني أهل الكتاب وما أعد لهم من الجنات ذكر الوعيد لمن أقام منهم على كفره وتكذيبه وأطلق القول بذلك ليكون هذا الوعيد لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر والتكذيب فقال والذين كفروا وكذبوا بآياتنا { أولئك أصحاب الجحيم } قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قال علماء التفسير: "إن النبي صلىالله عليه وسلم ذكر الناس يوماً ووصف القيامة فرقَّ الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم: أبو بكر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، وتشاوروا واتفقوا على أنهم يترهبون ويلبسون المسوح ويجبون مذاكيرهم ويصومون الدهر ويقومون الليل ولا ينامون على الفرش ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب ويسيحون في الأرض. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب وكرهت أن تبدي سر زوجها، فقالت يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا فقالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لم أؤمر بذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدو الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الديار والصوامع" فأنزل الله عز وجل هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } يعني الطيبات اللذيذات التي تشتهيها الأنفس وتميل إليها القلوب من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة فأعلم الله عز وجل بهذه الآية أن شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم غير ما عزموا عليه من ترك الطيبات وأنه لا ينبغي أن تجتنب الطيبات المباحات ومعنى: لا تحرموا، لا تعتقدوا تحريم الطيبات المباحات، فإن من اعتقد تحريم شيء أحله الله فقد كفر. أما ترك لذات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى الله والتفرغ لعبادته من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة لا مانع منها بل مأمور بها.
وقوله تعالى: { ولا تعتدوا } يعني: ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام. وقيل: معناه ولا تجبوا أنفسكم فسمى جب المذاكير اعتداء وقيل معناه ولا تعتدوا بالإسراف في الطيبات { إن الله لا يحب المعتدين } يعني المجاوزين الحلال إلى الحرام.