التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٤٤
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤٥
-الأنعام

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ من الإبل اثنين ومن البقر اثنين } وهذه أربعة أزواج أخر بقية الثمانية { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } وتفسير هذه الآية نحو ما تقدم وفي هاتين الآيتين تقريع وتوبيخ من الله تعالى لأهل الجاهلية بتحريمهم ما لم يحرمه الله وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء وبعضها على النساء دون الرجال كما أخبر الله عنهم في كتابه فلما جاء الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم "مالك بن عوف الجشمي فقال: يا محمد بلغنا إنك تحرم أشياء مما كان أباؤنا يفعلونه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حرمتم أصنافاً من النعم على غير أصل وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير ولم يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا مالك ألا تتكلم؟ فقال: بل أنت تتكلم وأسمع منك" ، قال المفسرون: فلو قال جاء التحريم من قبل الذكر بسبب الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يرحم الكل لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أثنى.
وأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو بالبعض دون البعض فمن أين ذلك التحريم؟ فاحتج الله على بطلان دعواهم بهاتين الآيتين وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن كل ما قالوه من ذلك وأضافوه إلى الله فهو كذب على الله وأنه لم يحرم شيئاً من ذلك وأنهم اتبعوا في ذلك أهواءهم وخالفوا أمر ربهم.
وذكر الإمام فخر الدين في معنى الآية وجهين آخرين ونسبهما إلى نفسه، فقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني إنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعترفون بشريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم.
والوجه الثاني: إنكم حكمتم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي مخصوصاً بالإبل فالله تعالى بيّن أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة وهي: الضأن والمعز والبقر والإبل فلم لم تحكموا بهذه الأحكام في هذه الأنواع الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم دون هذه الأنواع الثلاثة.
قوله تعالى: { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين يزعمون أنالله حرم عليهم ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث هل شاهدتم الله حرم هذا عليكم ووصاكم به فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله عز وجل. ولما احتج الله عليهم بهذه الحجة وبين أنه لا مستند لهم في ذلك قال تعالى: { فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم } يعني فمن أشد ظلماً وأبعد عن الحق ممن يكذب على الله ويضيف تحريم ما لم يحرمه الله إلى الله ليضل الناس بذلك ويصدهم عن سبيل الله جهلاً منه إذ ليس هو على بصيرة وعلم في ذلك الذي ابتدعه ونسبه إلى الله ويقول إن الله أمرنا بهذا، قيل: أراد به عمرو بن لحي لأنه أول من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدع شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس فيه فهو داخل في هذا الوعيد { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } يعني أن الله لا يرشده ولا يوفق من كذب على الله وأضاف إليه ما لم يشرعه لعباده.
قوله عز وجل: { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه } اعلم أنه لما بين الله تعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التضليل والتحريم من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبيَّن أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي، فقال تعالى: قل أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين الذي يحللون ويحرمون من عند أنفسهم لا أجد فيما أوحي إليّ، وقيل إنهم قالوا فما المحرم إذاً فنزل؟ { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } يعني شيئاً محرماً على طاعم يطعمه يعني على آكل يأكله { إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } يعني سائلاً مصبوباً { أو لحم خنزير فإنه رجس } أي نجس { أو فسقاً أهلّ لغير الله به } يعني ما ذبح على غير اسم الله تعالى فبين الله تعالى في هذه الآية أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي منه وأن المحرمات محصورة في الأربعة الأشياء المذكورة في هذه الآية وهي: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله، وهذا مبالغة في أن التحريم لا يخرج عن هذه الأربعة وذلك أنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات إلا بالوحي وثبت أن الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة الأشياء ولهذا اختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب بعضهم إلى ظاهرها وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوان إلا ما ذكر في هذه الآية؛ يروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وهو ظاهر مذهب مالك واحتجوا على ذلك بأن هذه الآية محكمة لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ واحتجوا بأن هذه الآية وإن كانت مكية لكن يعضدها آية مدنية وهي قوله تعالى في سورة البقرة:
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ به لغير الله } [البقرة: 173]، وكلمة إنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم، وذهب جمهور العلماء إلى أن هذا التحريم لا يختص بهذه الأشياء المنصوص عليها في هذه الآية فإن المحرم بنص الكتاب هو ما ذكر في هذه الآية.
وقد حرمت السنة أشياء فوجب القول بها: منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير. عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى" أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعفيهم بمثل قراه"
عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو معفو وتلا: { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } الآية أخرجه أبو داود (م) عن ابن عباس قال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" (م) عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية" (ق) عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل" وفي رواية: "أكلنا من خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي" عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنه" وقد استثنى الشارع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال وأباح أكل ذلك وقد تقدم دليله.
والأصل في ذلك عند الشافعي أن كل ما لم يرد فيه نص بتحريم أو تحليل فما كان أمر الشرع بقتله كام ورد في الصحيح
"خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور" وروي عن سعد بن أبي وقاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ" أخرجه البخاري ومسلم، وسماه فويسقاً. وعن ابن عباس قال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد" أخرجه أبو داود فهذا كله حرام لا يحل أكله وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادة العرب فما يستطيبه الأغلب منهم فهو حلال وما يستخبثه الأغلب منهم ولا يأكلونه فهو حرام لأن الله خاطبهم بقوله: { أحل لكم الطيبات } [المائدة: 4] فما استطابوه فهو حلال فهذا تقرير ما يحل ويحرم من المطعومات.
وأما الجواب عن هذه الآية الكريمة فمن وجوه:
أحدها: أن يكون المعنى لا أجد محرماً مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما أوحي إليّ في هذه الآية.
الوجه الثاني: أن يكون المراد وقت نزول هذه الآية لم يكن محرماً غير ما ذكر ونص عليه في هذه الآية ثم حرم بعد نزولها أشياء أخر.
الوجه الثالث: يحتمل أن هذا اللفظ العام خصص بدليل آخر، وهو ما ورد في السنة.
الوجه الرابع: أن ما ذكر في هذه الآية محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما ورد في السنة من المحرمات والله أعلم.
بقي في الآية أحكام في قوله تعالى: { أو دماً مسفوحاً } وهو ما سال من الحيوان في حال الحياة أو عند الذبح فإن ذلك الدم حرام نجس وما سوى ذلك كالكبد والطحال فإنهما حلال لأنهما دمان جامدان. وقد ورد الحديث بإباحتهما وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل، قال عمران بن جرير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يُرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس بذلك وإنما نهي عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح، وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود.
وقوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } لما بين الله المحرمات في هذه الآية أباح أكلها عند الاضطرار من غير بغي ولا عدوان، وفي قوله: { فإن ربك غفور رحيم } دليل على الرخصة والإباحة عند الاضطرار.