التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
٦١
ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ
٦٢
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
-الأنعام

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله تعالى: { وهو القاهر فوق عباده } يعني وهو العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعلٍ عليه بالقهر والقدرة. فهو كما يقال: أمرُ فلانٍ فوقَ أمرِ فلانٍ، يعني: أنه أقدر منه. وأغلب هذا مذهب أهل التأويل في معنى لفظة فوق في قوله: { وهو القاهر فوق عباده } وأما مذهب السلف. فيها: فإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا إطلاق على جهة والقاهر هو الغالب لغيره المذلل له والله تعالى هو القاهر لخلقه وقهر كل شيء بضده فقهر الحياة بالموت والإيجاد بالإعدام والغنى بالفقر والنور بالظلمة.
وقوله تعالى: { ويرسل عليكم حفظة } يعني أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم والمراد بالحفظة الملائكة الذي يحفظون أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وغير ذلك من الأقوال والأفعال قيل إن مع كل إنسان ملكين ملكاً عن يمينه وملكاً عن شماله فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر عليه لعله يتوب منها فإن لم يتب منها كتبها عليه صاحب الشمال. وفائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان أنه إذا علم أن له حافظاً من الملائكة موكلاً به يحفظ عليه أقواله وأفعاله في صحائف تنشر له وتقرأ عليه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد كان ذلك زاجراً له عن فعل القبيح وترك المعاصي. وقيل: المراد بقوله ويرسل عليكم حفظة، هم الملائكة الذين يحفظون بني آدم ويحفظون أجسادهم. قال قتادة: حَفَظَةُ يحفظون على ابن آدم رزقه وأجله وعمله { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } يعني أعوان ملك الموت الموكلين بقبض أرواح البشر.
فإن قلت قال الله تعالى في أية:
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر: 42] وقال في آية أخرى: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [السجده: 11] وقال هنا توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت وجه الجمع بين هذه الآيات أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه فحصل الجمع بين الآيات. وقيل: المراد من قوله توفته رسلنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له. وقال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت مثل اطشت يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم وقال أيضاً: ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين. وقيل: إن الأرواح إذا كثرت عليه يدعوها فتستجيب له وقوله: { وهم لا يفرطون } يعني الرسل لا يقصرون فيما أمروا به ولا يضيعونه.
قوله عز وجل: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } يعني ثم رد العباد بالموت إلى الله في الآخرة وإنما قال مولاهم الحق لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل والله مولاهم وسيدهم ومالكهم بالحق { ألا له الحكم } يعني لا حكم إلا له { وهو أسرع الحاسبين } يعني أنه تعالى أسرع من حسب لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض.
قوله تعالى: { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } يعني يا محمد، قل لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام من دون الله من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه وتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق ومن ذا الذي ينجيكم من ظلمات البحر إذا ركبتم فيه فأخطأتم الطريق وأظلمت عليكم السبل فلم تهتدوا وقيل: ظلمات البر والبحر مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال وقيل الحل على الحقيقة أولى. فظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك فالمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله سبحانه وتعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله: { تدعونه تضرعاً وخفية } يعني فإذا اشتد بكم الأمر تخلصون له الدعاء تضرعاً منكم إليه واستكانة. جهراً وخفية: يعني سراً وحالاً { لئن أنجانا من هذه } قائلين في حال الدعاء والتضرع لئن أنجيتنا من هذه الظلمات وخلصتنا من الهلاك { لنكونن من الشاكرين } يعني لك على هذه النعمة والشكر وهو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها.