التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
١٧٦
-الأعراف

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله تعالى: { ولو شئنا لرفعناه بها } يعني رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات التي أوتيها. وقال ابن عباس: لرفعناه، وقال ابن عباس: لرفعناه بعمله بها، وقال مجاهد وعطاء: معناه لو شئنا لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات { ولكنه أخلد إلى الأرض } يعنيك ولكنه سكن إلى الدنيا ومال إليها ورضي بها وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن الأرض عبارة عن المفاوز والقفار وفيها المدن والضياع والمعادن والنبات ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض { واتبع هواه } يعني أنه أعرض عن التمسك بما أتاه الله من الآيات واتبع الهوى فخسر دنياه وآخرته ووقع في هاوية الردى والهلاك وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى وذلك لأن الله عز وجل خص هذا الرجل بآياته وحكمته وعلمه اسمه العظم وجعل دعاءه مستجاباً ثم إنه اتبع هواه وركن إلى الدنيا ورضي بها عوضاً عن الآخرة نزع منه ما كان أعطيه وانسلخ من الدين فخسر الدنيا والآخرة ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع وثبته بالعلم وبصُّره بعيوب نفسه. عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسرف لدينه" أخرجه الترمذي ثم ضرب الله عز وجل مثلاً لهذا الرجل الذي أتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال تعالى { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه من العطش وشدة الحر وعند الإعياء والتعب وهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن أتاه آياته وحكمته فتركها وعدل عنها واتبع هواه وترك آخرته وآثر دنياه بأخس الحيوانات وهو الكلب في أخس أحواله وهو اللهث لأن الكلب في حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها كذلك العالم الذي يتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها في الآخرة لأن التمثيل به على أن يلهث على كل حال إن حملته عليه أو تركته كان لاهثاً وذلك عادة منه وطبيعة وهي مواظبته على اللهث دائماً فكذلك من أتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لحطام الدنيا الخسيسة، ثم إنه مال إليها وطلبها كانت حالته كحال الكلب اللاهث وقيل: إن العالم إذا توصل بعلمه إلى طلب الدنيا فإنه يظهر علومه عند أهلها ويدلع لسانه في تقرير تلك العلوم وبيانها وذلك لأجل ما يحصل عنده من حرارة الحرص الشديد وشدة العطش إلى الفوز بمطلوبه من الدنيا فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الذي أدلع لسانه من اللهث في غير حاجة ولا ضرورة. ومعنى أن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث أي إن شددت عليه وأهجته لهث وإن تركته على حاله لهث لأن اللهث طبيعة أصلية فيه فكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضاً بل هم ضلاّل في كل حال ثم قال سبحانه وتعالى { فاقصص القصص } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات الله { لعلهم يتفكرون } يعني فيتعظون، وقيل: هذا المثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وإلى طاعته وهم يعرفونه ويعرفون صدقه كذبوه ولم يقبلوا منه.