التفاسير

< >
عرض

قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٢٣
قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ
٢٤
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
٢٥
يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٢٦
-الأعراف

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } وهذا خبر من الله عز وجل عن آدم عليه الصلاة والسلام وحواء عليها السلام واعترافهما على أنفسهما بالذنب والندم على ذلك والمعنى: قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها { وإن لم تغفر لنا } يعني وأنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا { وترحمنا } يعني وتتفضل علينا برحمتك { لنكونن من الخاسرين } يعني من الهالكين.
قال قتادة: قال آدم يا رب أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك، قال: إذاً أدخلك الجنة.
وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل وقال الضحاك في قوله { ربنا ظلمنا أنفسنا } قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل.
(فصل)
وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية وأجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرفعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل مما حملهم على الخوف منه والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخَذ به غيرهم وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل والسهو فهم بسبب ذلك خائفون وجِلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله عز وجل، ذنوباً وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات وهي حسنات لغيرهم. وقد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ والخلاف فيه فأغنى عنه الإعادة والله أعلم.
قوله تعالى: { قال اهبطوا } قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله : إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. وقال الطبري: قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السديرحمه الله : قوله تعالى: { اهبطوا } يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية { بعضكم لبعض عدو } يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس { ولكم في الأرض مستقر } يعني موضع قرار تستقرون فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر } يعني القبور { ومتاع إلى حين } يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجالكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: { ومتاع إلى حين } يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا { قال فيها تحيون } يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم { وفيها تموتون } يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم { ومنها تخرجون } يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز وجل: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم } اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقراً لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباساً يواري سوءاتهم فقال تعالى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم } يعني لباساً تسترون به عوراتكم.
فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباساً.
قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً أحدهما: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباساً أو بمعنى رزقناكم لباساً.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى: وأنزلنا الحديد { وريشاً } الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى وأنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى
{ لتركبوها وزينة } [النحل: 8] وقال { ولكم فيها جمال } [النحل: 6] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله جميل يحب الجمال" واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشاً يعني مالاً، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به، ويقال: تريش الرجل إذا تمّول. وقال ابن زيد: الريش الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضاً، وقيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس أو يفرش والريش أيضاً المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضاً في الخصب ورفاهية العيش { ولباس التقوى } اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضاً في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخباراً أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير.
وقيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير. وقال زيد بن عليرحمه الله تعالى: لباس التقوى آلات الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك. وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يلبسها أهل الزهد والورع. وقيل: هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة والسدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى: { ذلك خير } يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى:

إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى عريت وإن وارى القميصَ قميصُ

وقوله تعالى: { ذلك من آيات الله } يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده { لعلهم يذكرون } يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.