التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
١
أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
٢
وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
٣
إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤
-هود

البحر المحيط

قال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجابر بن زيد: هذه السورة مكية كلها، وعن ابن عباس: مكية كلها إلا قوله: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } [هود: 12] الآية. وقال مقاتل: مكية إلا قوله: فلعلك تارك الآية. وقوله: { { أولئك يؤمنون به } [هود: 17] نزلت في ابن سلام وأصحابه. وقوله: { إن الحسنات يذهبن السيئات } [هود: 114] نزلت في نبهان التمار.

وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله: الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له. ومعنى الإحكام: نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم. وهو الموثق في الترصيف، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً، فالمعنى: جعلت حكيمة كقولك: تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله: { الكتاب الحكيم } [يونس: 1] وقيل: من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها، فالمعنى: منعت من النساء كما قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة: أحكمت من الباطل. قال ابن قتيبة: أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلم فثم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل. إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب أجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى، ولكن لا يقتضيه اللفظ. وقيل: فصلت معناه فسرت، وقال الزمخشري: ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص. وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري، وزيد بن علي، وابن كثير في رواية: ثم فصلت بفتحتين، خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب اللوامح: يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية: فصلت بين المحق والمبطل من الناس، أو نزلت إلى الناس كما تقول: فصل فلان بسفره.

قال الزمخشري: وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي: أحكمتها أنا، ثم فصلتها. (فإن قلت): ما معنى؟ ثم (قلت): ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى. يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة. ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر. قال الزمخشري: أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي: من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي: بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى. ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى. وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل: التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولاً من أجله، ووصلت أنْ بالنهي. وقيل: أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي. وقيل: أنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير: من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي: إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي: كائن من جهته. أو تعلق بنذير أي: أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. وقيل: يعود على الكتابة أي: نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا، نهي أو نفي أي: لا يعبد إلا الله. وأمر بالاستغفار من الذنوب، ثم بالتوبة، وهما معنيان متباينان، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى: أنه لا يبقى لها تبعة. والتوبة الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها. ومن قال: الاستغفار توبة، جعل قوله: ثم توبوا، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. قال ابن عطية: وثم مرتبة، لأن الكافر أول ما ينيب، فإنه في طلب مغفرة ربه، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.

وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى ثمّ في قوله: ثم توبوا إليه؟ (قلت): معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقرأ الحسن، وابن هرمز، وزيد بن علي، وابن محيصن: يمتعكم بالتخفيف من أمتع، وانتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل، أو على أنه مفعول به. لأنك تقول: متعت زيداً ثوباً، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور، أو حسن العمل وقطع الأمل، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال. وقال الزمخشري: يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، وعيشة واسعة، ونعمة متتابعة. قال ابن عطية: وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها، وهذا ضعيف. لأنّ الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة، وربما زادوا على المسلمين في ذلك. قال: ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته، والسرور بمواعيده، والكافر ليس في شيء من هذا، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله: ابن عباس والحسن. وقال ابن جبير: يوم القيامة، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي: يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده. ويحتمل أن يعود على كل أي: جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء، كما قال: { { نوف إليهم أعمالهم } [هود: 15] أي جزاءها. والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات، وتقدم أمران بينهما تراخ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا، كما قال: { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً } [آل عمران: 10 - 11]ٍ الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة، وناسب كل جواب لما وقع جواباً له، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار، والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي: وإنْ تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين، والتقدير قيل لهم: إني أخاف عليكم. وقرأ اليماني، وعيسى بن عمر: وإن تولوا بضم التاء واللام، وفتح الواو، مضارع وليّ، والأولى مضارع أولى. وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة: وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به، وهو ضد التبري. وقرأ الأعرج: تولوا بضم التاء واللام. وسكون الواو، مضارع أولى، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال. وقيل: هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب، وخفض على الجوار. وباقي الآية تضمنت تهديداً عظيماً وصرحت بالبعث، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء، ومن ذلك البعث، فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم.