التفاسير

< >
عرض

وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
٤٠
-هود

البحر المحيط

ويصنع الفلك حكاية حال ماضية، والفلك السفينة. ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: بلى، ذلك بعيني. فأخذ القدوم، وجعلت يده لا تخطىء، فكانوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً؟ وقيل: كانت الملائكة تعلمه، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه، والخشب من الساج قاله: قتادة، وعكرمة، والكلبي. قيل: وغرسه عشرين سنة. وقيل: ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس. وقال عمرو بن الحرث: لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان. وقال ابن عباس: من خشب الشمشار، وهو البقص قطعة من جبل لبنان. واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول، وفي مقدار مدة عملها، وفي المكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت، قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: ابني بيتاً يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله: مقاتل. وقيل: لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر، فكانوا يتضاحكون ويقولون: يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً. وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال: مستأنف على تقدير سؤال سائل. وجوزوا أن يكون العامل قال: وسخروا صفة لملا، أو بدل من مرّ، ويبعـد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه. قال ابن عطية: وسخروا منه استجهلوه، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط، ولا كانت، فوجه الاستجهال واضح، وبذلك تظاهرت التفاسير، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى، فأنا نسخر منكم في المستقبل كما تسخرون منا الآن أي: مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا، وأحرقتم في الآخرة، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال: قريباً من معناه الزجاج. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وقال ابن جريج: إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة. والسخرية استجهال مع استهزاء. وفي قوله: فسوف تعلمون، تهديد بالغ، والعذاب المخزي الغرق، والعذاب المقيم عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد. ومن يأتيه مفعول بتعلمون، وما موصولة، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد. وقال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحد انتهى. ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً، لأنّ أصله خبر مبتدأ، ولا اختصاراً هنا، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله: من يأتيه. وقيل: مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء، ويأتيه الخبر، والجملة في موضع نصب، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين. وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء، ويحل بكسرها بمعنى ويجب. قال الزمخشري: حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه، ومعنى يخزيه: يفضحه، أو يهلكه، أو يذله، وهو الغرق. أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام، وهي هنا غاية لقوله: ويصنع الفلك. ويصنع كما قلنا حكاية حال أي: وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود. والجملة من قوله: وكلما مرّ عليه حال، كأنه قيل: ويصنعها، والحال أنه كلما مر، وأمرنا واحد الأمور، أو مصدر أي: أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال، وللملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة. وفار: معناه انبعث بقوة، والتنور وجه الأرض، والعرب تسميه تنوراً قاله: ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة، أو التنور الذي يخبز فيه، وكان من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله: الحسن، ومجاهد، وروي أيضاً عن ابن عباس. وقيل: كان لآدم، وقيل: كان تنور، نوح، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله: قتادة، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة، أو من أقصى دار نوح قاله: مقاتل، أو موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن، أو طلوع الشمس وروي عن علي، أو نور الصبح من قولهم: نور الفجر تنويراً قاله: علي ومجاهد، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب: «حمي الوطيس» والوطيس أيضاً مستوقد النار، فلا فرق بين حمى وفار، إذ يستعملان في النار. قال الله تعالى: { سمعوا لها شهيقاً وهي تفور } [الملك: 7] ولا فرق بين الوطيس والتنور. والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص، ويحتمل أن تكون للجنس. ففار النار من التنانير، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران. ولا تنافي بين هذا وبين قوله: { وفجرنا الأرض عيوناً } [القمر: 12] إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير، والتفجير غير الفوران، فحصل الفوران للتنور، والتفجير للأرض. والضمير في فيها عائد على الفلك، وهو مذكر أنث على معنى السفينة، وكذلك قوله: وقال اركبوا فيها.

وقرأ حفص: من كل زوجين بتنوين، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول، واثنين نعت توكيد، وباقي السبعة بالإضافة، واثنين مفعول احمل، وزوجين بمعنى العموم أي: من كل ما له ازدواج، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره. قال ابن عطية: ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج، هذا وهما زوجان، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: { ثمانية أزواج } [الأنعام: 143] ثم فسرها وفي قوله { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } [النجم: 45] وقال الأخفش: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زووج، هكذا تأخذه العدديون. والزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله تعالى: { { وأنبتت من كل زوج بهيج } [الحج: 5] وقال تعالى: { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } [يس: 36] انتهى.

ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره الله أن يحمل من الزوجين اثنين، يعني: ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان. فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى، وكانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن. وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل، وعلى اثنين إن أضيف، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار. قال الزمخشري: سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة، وابنه كنعان. ومن آمن عطف على وأهلك، قيل: كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة، وقيل: كانوا ثلاثة وثمانين. وقال ابن عباس: آمن معه ثمانون رجلاً، وعنه ثمانون إنساناً، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل. وقيل: كانوا ثمانية وسبعين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح، وبنوه سام وحام ويافث، وستة ناس من كان آمن به وأزواجهم جميعاً. وعن ابن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال، وخمس نسوة. وقيل: كانوا تسعة ونوح، وثمانية أبناء له وزوجته. وقيل: كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم، وهو قول: قتادة، والحكم، وابن عيينة، وابن جريج، ومحمد بن كعب. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن، وثلاث بنين. وهذه أقوال متعارضة، والذي أخبر الله تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم الله عددهم إلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.