التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
٧٧
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
٧٨
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
٧٩
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
٨٠
-هود

البحر المحيط

الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، مأخوذ من الذراع، ثم وضع موضع الطاقة فقيل: ضاق به ذرعاً. وقد يجعلون الذراع موضع الذرع قال:

إليك إليك ضـاق بهـا ذرعاً

وقيل: كنى بذلك عن ضيق الصدر. العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم، الشر الملتف بعضه ببعض قال:

وكنت لزاز خصمك لم أعدد وقد سلكوك في يوم عصيب

قال أبو عبيدة: سمى عصيباً لأنه يعصب الناس بالشر، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم، أو المجتمعون في النسب. وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي: مجتمع الخلق. الإهراع: قال شمر مشي بين الهرولة والجمز. وقال الهروي: هرع الرجل وأهرع استحث. الضيف: مصدر، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع، هذا المشهور. وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان. الركن: معروف وهو الناحية من البيت، أو الجبل. ويقال: ركن بضم الكاف، ويجمع على أركان وأركن. وركنت إلى فلان انضويت إليه.

{ ولما جآءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هـذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هـؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد. قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد }: خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبنيهما قيل: ثمانية أميال. وقيل: أربعة فراسخ، فأتوها عشاء. وقيل: نصف النهار، ووجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم، وهي أكبر حواضر قوم لوط، فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط وقالت لهم: مكانكم، وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم فقالوا: إنّا نريد أنْ تضيفنا الليلة فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله انهم شر قوم في الأرض. وقد كان الله قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل: هذه واحدة، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سيء بهم أي: لحقه سوء بسببهم، وضاق ذرعه بهم، وقال: هذا يوم عصيب أي شديد، لما كان يتخوفه من تعدى قومه على أضيافه. وجاءه قومه يهرعون إليه، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيته، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطاً قد أضاف الليلة فتية ما رؤي مثلهم جمالاً وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون أي: يسرعون، كما يدفعون دفعاً فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه. وقرأ الجمهور: يهرعون مبنياً للمفعول من أهرع أي يهرعهم الطمع. وقرأت فرقة: يهرعون بفتح الياء من هرع. وقال مهلهل:

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى يقودهم على رغم الانوف

ومن قبل كانوا يعملون السيآت أي: كان ذلك ديدنهم وعادتهم، أصروا على ذلك ومرنوا عليه، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية، جاؤا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها، والتقدير في ومن قبل أي: من قبل مجيئهم. إلى هؤلاء الاضياف وطلبهم إياهم. وقيل: ومن قبل بعث لوط رسولاً إليهم. وجمعت السيآت وإن كان المراد بها معصية اتيان الذكور، إما باعتبار فاعليها، أو باعتبار تكررها. وقيل: كانت سيآت كثيرة باختلاف أنواعها، منها اتيان الذكور، واتيان النساء في غير المأتي، وحذف الحصا، والحيق في المجالس والاسواق، والمكاء، والصفير، واللعب بالحمام، والقمار، والاستهزاء بالناس في الطرقات، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه، وإنْ أخذه صبي تابعوه وراودوه. هؤلاء بناتي: الاحسن أنْ تكون الإضافة مجازية، أي: بنات قومي، أي البنات أطهر لكم، إذ النبي يتنزل منزلة الاب لقومه. وفي قراءة ابن مسعود: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } [الأحزاب: 6] وهو أب لهم ويدل عليه أنَّه فيما قيل: لم يكن له الابنتان، وهذا بلفظ الجمع. وأيضاً فلا يمكن أنْ يزوج ابنتيه من جميع قومه. وقيل: أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح، إذْ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر. أو على أنَّ في ضمن كلامه أنْ يؤمنوا. وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فاراد أنْ يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا. وقيل: كنّ ثلاثاً.

ومعنى أطهر: أنظف فعلاً. وقيل: أحل وأطهر بيتاً ليس أفعل التفضيل، إذ لا طهارة في اتيان الذكور. وقرأ الجمهور: أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر. وجوز في بناتي أنْ يكون بدلاً، أو عطف بيان، وهن فصل وأطهر الخبر. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: أطهر بالنصب. وقال سيبويه: هو لحن. وقال أبو عمرو بن العلاء: احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني: تربع. ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخرجت هذه القراءة على أنَّ نصب أطهر على الحال. فقيل: هؤلاء مبتدا، وبناتي هنّ مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء، وروي هذا عن المبرد. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن مبتدأ ولكم خبره، والعامل قيل: المضمر. وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن فصل، وأطهر حال. ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال. وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب، لكنه قليل. ثم أمرهم بتقوى الله في أنْ يؤثروا البنات على الاضياف. ولا تخزون: يحتمل أنْ يكون من الخزي وهو الفضيحة، أو من الخزاية وهو الاستحياء، لأنّه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة. أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء؟ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم، حيث لم يكن منهم رشيد البتة. قال ابن عباس: رشيد مؤمن. وقال أبو مالك: ناه عن المنكر. ورشيد ذو رشد، أو مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والظاهر أنَّ معنى من حق من نصيب، ولا من غرض ولا من شهوة، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة. وقيل: من حق، لأنك لا ترى منا كحتنا، لأنّهم كانوا خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أنَّ من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبداً. وقيل: لما اتخذوا اتيان الذكران مذهباً كان عندهم أنّه هو الحق، وإن نكاح الاناث من الباطل. وقيل: لأنّ عادتهم كانت أنْ لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة، وكانوا كلهم متزوجين. وإنك لتعلم ما نريد يعني: من اتيان الذكور، ومالهم فيه من الشهوة. قال: لو أنّ لي بكم قوة، قال ذلك على سبيل التفجع. وجواب لو محذوف كما حذف في: { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } [الرعد: 31] وتقديره: لفعلت بكم وصنعت. والمعنى في إلى ركن شديد: من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه. وقال الحوفي، وأبو البقاء: أو آوي عطف على المعنى تقديره: أو أني آوي. والظاهر أن أو عطف جملة فعلية، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي: لو ثبت أن لي بكم قوة، أو آوي. ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعاً موقع الماضي، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ ومعمولاها. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون أو آوي مستأنفاً انتهى. ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد، وكنى به عن جناب الله تعالى. وقرأ شيبة، وأبو جعفر: أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد، أو فتتقدر بالمصدر عطفاً على قوله: قوة. ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر:

ولولا رجال من رزام أعزة وآل سبيع أو يسوؤك علقما

أي أو ومساءتك علقماً.