التفاسير

< >
عرض

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
-يوسف

البحر المحيط

قال الزمخشري: لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، ويجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح لهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة، وهو قول ابن جريج قال: أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن. وقال السدي وابن إسحاق، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام، وطماعية في أيمانهما، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته فقال لهما معلناً بعظيم علمه للتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي: بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروى أنهما قالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: ذلك مما علمني ربي. والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره، أنه في اليقظة، وأن قوله: مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبياً يوحى إليه. والظاهر أن قوله: إني تركت، استئناف إخبار بما هو عليه، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه. وفي الحديث: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها. ويجوز أن يكون إني تركت تعليلاً لما قبله أي: علمني ذلك، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك، واتبعت ملة الأنبياء، وهي الملة الحنيفية. وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر، ومن كان الفتيان على دينهم. ونبه على أصلين عظيمين وهما: الإيمان بالله، والإيمان بدار الجزاء، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل. وقال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأن غيرهم مؤمنون بها. ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى. وليست عندنا هم تدل على الخصوص، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة. ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي، بما ذكر من إخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله. وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون: آبائي بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو. ما كان لنا ما صح ولا استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء عموم في الملك والجني والإنسيّ، فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر؟ فشيء يراد به المشرك. ويجوز أن يراد به المصدر أي: من شيء من الإشراك، فيعم الإشراك، ويلزم عموم متعلقاته. ومن زائدة لأنها في حيز النفي، إذ المعنى: ما نشرك بالله شيئاً، والإشارة بذلك إلى شركهم وملتهم أي: ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك بالله، ومن فضل الله علينا أي: على الرسل، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين الله وعباده. وعلى الناس أي: على المرسل إليهم، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه. وقوله: لا يشكرون أي: لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا ينتبهون. وقيل: ذلك من فضل الله علينا، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها، وقد نصب مثل ذلك لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعاً لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.