التفاسير

< >
عرض

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ
٥
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٦
-الرعد

البحر المحيط

ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل. وإن تعجب قال ابن عباس: وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين، فهذا أعجب. وقيل: وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد، فهذا أعجب. قال الزمخشري: وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة، ولم يعي بخلقهن، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى. وليس مدلول اللفظ ما ذكر، لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث، فاتحد الجزاء والشرط، إذ صار التقدير: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب، فليكن من قولهم: أءذا كنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه: هو إنكار البعث، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء. ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإعادة، كما قال تعالى: { { وهو الذي يَبدَؤُاْ الخلق ثم يعيده } [الروم: 27] وهو أهون عليه أي: هين عليه.

وقال ابن عطية: هذه الآية توبيخ للكفرة، أي: إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً. ويحتمل اللفظ منزعاً آخر: إن كنت تريد عجباً فهلم، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى. واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً، هنا موضع، وكذا في المؤمنين، وفي العنكبوت، وفي النمل، وفي السجدة، وفي الواقعة، وفي والنازعات، وفي بني إسرائيل موضعان، وكذا في والصافات. وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً، والثاني خبراً، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع. وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ: { إننا لمخرجون } وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً، والثاني استفهاماً، إلا في النمل والنازعات فعكس، وزاد في النمل نوناً كالكسائي. وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه. وقولهم: فعجب، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره ـ والله أعلم ـ: فعجب أي عجب، أو فعجب غريب. وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف، وقد وقعت موقع الابتداء، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك. كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام، وفي نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه، لمسوغ الابتداء أيضاً، وهو كونه عاملاً فيما بعده. وقال أبو البقاء: وقيل عجب بمعنى معجب، قال: فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى. وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه، فمعجب يعمل، وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلاً كذبح، وفعلاً كقبض، وفعلة كغرفة، هي بمعنى مفعول، ولا يعمل عمله، فلا تقول: مررت برجل ذبح كبشه، ولا برجل قبض ماله، ولا برجل غرف ماءه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه. وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول. وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل، والظاهر أن أءذا معمول لقولهم محكى به. وقال الزمخشري: أءذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى. هذا إعراب متكلف، وعدول عن الظاهر. وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره: أنبعث، أو أنحشر. أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء. ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم. والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، كما قال: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل. وقيل: يحتمل أن يكون مجازاً أي: هم مغلولون عن الإيمان، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى: { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } [يس: 8] وكما قال الشاعر:

لهـم عـن الرشـد أغـلال وأقيـاد

وقيل: الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر. ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا: { فأمطر علينا حجارة } [الأنفال: 32] وقالوا: { أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [الإسراء: 92] قال ابن عباس: السيئة العذاب، والحسنة العافية. وقال قتادة: بالشر قبل الخير. وقيل: بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، وهذه الأقوال متقاربة. وقد خلت من قبلهم المثلات أي: يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة، وهذا يدل على سخف عقولهم، هذ يستعجلون بالعذاب. والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزؤون. قال ابن عباس: المثلات العقوبات المستأصلات، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما. وقال السدي: النقمات. وقال قتادة: وقائع الله الفاضحة، كمسخ القردة والخنازير. وقال مجاهد: الأمثال المضروبة. وقرأ الجمهور: بفتح الميم، وضم التاء، ومجاهد والأعمش بفتحهما. وقرأ عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو بكر: بضمهما، وابن وثاب: بضم الميم وسكون الثاء، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء. ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى: أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم. باكتساب الذنوب أي: ظالمين أنفسهم. قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه. وقال الطبري: ليغفر لهم في الآخرة. وقال القاسم بن يحيـى وقوم: ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف. وقيل: ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر. وقيل: ليغفر لهم بستره وإمهاله، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية. قال ابن عطية: والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا، وإمهاله للكفرة. ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى: { { وإني لغفار لمن تاب } [طه: 82] ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار. ثم قال: ويستعجلونك، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى. ولشديد العقاب: تخويف وارتقاب بعد ترجية. وقال سعيد بن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش، ولولا عقابه لا تكل كل أحد" وفي حديث آخر: "إن العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله عز وجل" .