التفاسير

< >
عرض

أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً
٧٨
وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
٧٩
وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً
٨٠
وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
٨١
وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً
٨٢
-الإسراء

البحر المحيط

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة، واستدل الفراء بقول الشاعر:

هذا مقام قدمي رباح غدوة حتى دلكت براح

أي حتى غابت الشمس، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة:

مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك

وقيل: الدلوك زوال الشمس نصف النهار. قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها. وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب. الغسق سواد الليل وظلمته. قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين. وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله. قال الشاعر:

إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا

وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم. قال الشاعر:

ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق؟ قال: الليل بظلمته، ويقال غسقت العين امتلأت دماً. وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي. وقال ابن الأعرابي: هجد الرجل صلى من الليل، وهجد نام بالليل. وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة. وقال ابن برزح هجدته أيقظته، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجوداً نام. قال الشاعر:

ألا زارت وأهل منى هجود وليت خيالنا منا يعود

وقال آخر:

ألا طرقتنا والرفاق هجود

وقال آخر:

وبرك هجود قد أثارت مخافتي

زهقت نفسه تزهق زهوقاً ذهبت، وزهق الباطل زال واضمحل، ولم يثبت. قال الشاعر:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها إقدامه مزالة لم تزهق

ناء ينوء: نهض. الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي، والشكل المثل والنظير، والشِكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل. الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء. الكسف القطع واحدها كسفة، تقول العرب: كسفت الثوب ونحوه قطعته، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة. الرُقِّي والرقى الصعود يقال: رقيت في السلم أرقى قال الشاعر:

أنت الذي كلفتني رقي الدرج على الكلال والمشيب والعرج

خبت النار تخبو: سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة. قال الشاعر:

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب

وقال آخر:

وسطه كاليراع أو سرج المجدلطوراً يخبو وطوراً ينير

الثبور: الهلاك يقال: ثبر الله العدوّ ثبوراً أهلكه. وقال ابن الزبعرى:

إذا جارى الشيطان في سنن الغي ومن مال مثله مثبور

اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض. وقال بعض اللغويين: هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه. وقال الطبري: هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً ولفيفاً. المكث: التطاول في المدّة، يقال: مكث ومكث أطال الإقامة. الذقن مجتمع اللحيين. قال الشاعر:

فخرّوا لأذقان الوجوه تنوشهم سباع من الطير العوادي وتنتف

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس.

{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً. وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً }.

ومناسبة { أقم الصلاة } لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. واللام في { لدلوك } قالوا: بمعنى بعد أي بعد دلوك { الشمس } كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً:

فلما تفرّقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا. وقال الواحدي: اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس. قال ابن عطية: { أقم الصلاة } الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور: دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء { وقرآن الفجر } أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات. وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر" . "وروى جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال: أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس" . وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم: دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب و{ غسق الليل } ظلمته فالإشارة إلى العتمة { وقرآن الفجر } صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى. وعن عليّ أنه الغروب، وتتعلق اللام وإلى بأقم، فتكون إلى غاية للإقامة. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال: أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها، وانتصب { وقرآن الفجر } عطفاً على { الصلاة }.

وقال الأخفش: انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر { قرآن الفجر } أو عليك { قرآن الفجر } انتهى. وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها. وقال الزمخشري: سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ بن أبي علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى. وقيل: إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل، ويكون الغسق وقتاً مشتركاً بين المغرب والعشاء، ويكون المذكور ثلاثة أوقات: أول وقت الزوال، وأول وقت المغرب، وأول وقت الفجر انتهى، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق، وبقرآن الفجر، وإما من الغروب إلى الغسق وبقرآن الفجر، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه.

وقال أبو عبد الله الرازي في قوله { وقرآن الفجر } دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى { وقرآن الفجر } صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل، ولأن في نسق التلاوة { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلاً. والهاء في { به } كناية عن { قرآن الفجر } المذكور قبله، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى. وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد { قرآن الفجر } في قوله { إن قرآن الفجر } ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى { مشهوداً } تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث: "إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر" . وهذا قول الجمهور. وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة. وقيل: من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون { وقرآن الفجر } حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى. ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك { قرآن الفجر } أو والزم.

وقال محمد بن سهل بن عسكر: { مشهوداً } يشهده الله وملائكته، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله { مشهوداً } على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله فيه: "يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار" . وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح.

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع. فقال: { ومن الليل فتهجد به } أي بالقرآن في الصلاة { نافلة } زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك، كقولهم: تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث، وشرح بلازمه وهو التعبد { ومن } للتبعيض. وقال الحوفي: { من } متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن، قال: ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل. وقال ابن عطية { ومن } للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاً من الليل. وقال الزمخشري: { ومن الليل } وعليك بعض الليل { فتهجد به } والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى. فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفاً، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائل بذلك، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع، والظاهر أن الضمير في { به } يعود على القرآن لتقدّمه في الذكر، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير { فتهجد } بالقرآن في الصلاة. وقال ابن عطية: والضمير في { به } عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى. فتكون الباء ظرفية أي { فتهجد } فيه وانتصب { نافلة }. قال الحوفي: على المصدر أي نفلناك نافلة قال: ويجوز أن ينتصب { نافلة } بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك.

وقال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلاً و{ نافلة } هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى. وهو حال من الضمير في { به } ويكون عائداً على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية. وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو: التهجد بعد نومة. وقال الحسن: ما كان بعد العشاء الآخرة. وقال ابن عباس: { نافلة } زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضاً عليه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد هو وأمته كخطابه في { أقم الصلاة }. وقال مجاهد والسدّي: إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم، وإما أن يحط بها خطيئاتهم. وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد الله الرازي. وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك. وقيل: كانت فرضاً ثم رخص في تركها. ومن حديث زيد بن خالد الجهني: رمق صلاته عليه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة: أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.

و{ عسى } مدلولها في المحبوبات الترجي. فقيل: هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من { أن يبعثك }. وقيل هي بمعنى كي، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله: { فتهجد } { وعسى } هنا تامة وفاعلها { أن يبعثك }، و{ ربك } فاعل بيبعثك و{ مقاماً } الظاهر أنه معمول ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره. وقال ابن عطية: منصوب على الظرف أي في مقام محمود. وقيل: منصوب على الحال أي ذا مقام. وقيل: هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم { مقاماً } ولا يجوز أن تكون { عسى } هنا ناقصة، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون { ربك } مرفوعاً اسم { عسى } و{ أن يبعثك } الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير. وأما في قبله فلا يجوز لأن { مقاماً } منصوب بيبعثك و{ ربك } مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معموله. وهو لا يجوز.

وفي تفسير المقام المحمود أقوال:

أحدهما: أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيح وهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور: "وابعثه المقام المحمود الذي وعدته" واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة.

الثاني: أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار، وهذه الشفاعة لا تكون إلاّ بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره: "حتى لا يبقى في النار إلاّ من حبسه القرآن" أي وجب عليه الخلود. قال: ثم تلا هذه الآية { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي" فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود.

الثالث: عن حذيفة: يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: "لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا ملجأ إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت" . قال: فهذا قوله { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }.

الرابع قال الزمخشري: معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى. وهذا قول حسن ولذلك نكر { مقاماً محموداً } فلم يتناول مقاماً مخصوصاً بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.

الخامس: ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه الله معه على العرش. وذكر الطبري في ذلك حديثاً وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا. قال ابن عطية: يعني من أنكر جوازه على تأويله. وقال أبو عمرو ومجاهد: إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل { { إلى ربها ناظرة } [القيامة: 23] قال: تنتظر الثواب ليس من النظر، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله { { إن الذين عند ربك } [الأعراف: 206] وقوله { ابنِ لي عندك بيتاً } [التحريم: 11] و { إن الله لمع المحسنين } [العنكبوت: 69] كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان.

وقال الواحدي: هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه.

الأول: أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره، فتفسيره البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد.

الثاني: لو كان جالساً تعالى على العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً.

الثالث: أنه قال { مقاماً } ولم يقل مقعداً { محموداً }، والمقام موضع القيام لا موضع القعود.

الرابع: أن الحمقى والجهّال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه.

الخامس: أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى. وفيه بعض تلخيص.

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه { مقاماً محموداً } وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية، فقال { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول: رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء. وقال ابن عباس والحسن وقتادة: هو إدخال خاص وهو في المدينة، وإخراج خاص وهو من مكة. فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به. وقال مجاهد وأبو صالح: ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّياً لما كلفه من غير تفريط. وقال الزمخشري: أدخلني القبر { مدخل صدق } إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من السخط، يدل عليه ذكره على ذكر البعث. وقيل: إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح، وإخراجه منها آمناً من المشركين. وقال محمد بن المنكدر: إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل: الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح. وقيل: الإدخال في الصلاة والإخراج منها. وقيل: الإدخال في الجنة والإخراج من مكة. وقيل: الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه. وقيل: { أدخلني } في بحار دلائل التوحيد والتنزيه، { وأخرجني } من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد. وقال أبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون: { { ليخرجنّ الأعز منها الأذل } [المنافقون: 8] يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر.

وقرأ الجمهور: { مدخل } و{ مخرج } بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر، نحو أكرمته مكرماً أي إكراماً. وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما. وقال صاحب اللوامح: وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى { أدخلني } { وأخرجني } المتقدمين دون لفظهما ومثلهما { { أنبتكم من الأرض نباتاً } [نوح: 17] ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف، وقال غيره: منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي { أدخلني } فأدخل { مدخل صدق } { وأخرجني } فأخرج { مخرج صدق }.

والسلطان هنا قال الحسن: التسليط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود. وقال قتادة: ملكاً عزيزاً تنصرني به على كل من ناواني. وقال مجاهد: حجة بينة. وقيل: كتاباً يحوي الحدود والأحكام. وقيل: فتح مكة. وقيل: في كل عصر { سلطاناً } ينصر دينك و{ نصيراً } مبالغة في ناصر. وقيل: فعيل بمعنى مفعول، أي منصوراً، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله { سلطاناً نصيراً } وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته. قال قتادة: و{ الحق } القرآن و{ الباطل } الشيطان. وقال ابن جريج: الجهاد و{ الباطل } الشرك. وقيل: الإيمان والكفر. وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير. و{ زهوقاً } صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت مّا.

و{ من } في { من القرآن } لابتداء الغاية. وقيل للتبعيض قاله الحوفي: وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض. وقيل: لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه. وقرأ الجمهور: و{ ننزل } بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص. وقرأ زيد بن عليّ: { شفاءً ورحمةً } بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله { للمؤمنين } والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ { والسماوات مطويات بيمينه } [الزمر: 67] بنصب مطويات. وقول الشاعر:

رهط ابن كوز محقي أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلاً للريب كاشفاً عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام. وقيل: شفاء بالرقى والعَوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب. واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد. وعن عائشة: كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال أبو عبد الله المازني: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل، ومنعها الحسن والنخعي."وروى أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وقد سئل عن النشرة: "هي من عمل الشيطان" . ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل.

وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها. وقال ابن المسيب: يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.

وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيماناً.