التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ
١٢٤
وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٣١
-البقرة

البحر المحيط

إبراهيم: اسم علم أعجمي. قيل: ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية: أب رحيم، وفيه لغى ست: إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة، وبألف مكان الياء، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء، أو فتحها، أو ضمها، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء، قال عبد المطلب:

نحن آل الله في كعبته لم نزل ذاك على عهد إبراهيم

وقال زيد بن عمرو بن نفيل:

عذت بما عاذ به إبراهم إذ قال وجهي لك عان راغم

الإتمام: الإكمال، والهمزة فيه للنقل. ثم الشيء يتم: كمل، وهو ضد النقص. الإمام: القدوة الذي يؤتم به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، وهو مفرد على فعال، كالإزار للذي يؤتزر به، ويكون جمع آم، اسم فاعل من أم يؤم، كجائع وجياع، وقائم وقيام، ونائم ونيام. الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسيّ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعلية من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقـردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسماً، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضاً، كخروبة. فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنيه، أو منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبه من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضاً، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فالأصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت. النيل: الإدراك. نلت الشيء أناله نيلاً، والنيل: العطاء. البيت: معروف، وصار علماً بالغلبة على الكعبة، كالنجم للثريا. الأمن: مصدر أمن يأمن، إذا لم يخف واطمأنت نفسه. المقام: مفعل من القيام، يحتمل المصدر والزمان والمكان. اسماعيل: اسم أعجمي علم، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون، قال:

قال جواري الحي لماجينا هذا ورب البيت اسماعينا

ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولداً ويقول: اسمع ايل، وايل هو الله تعالى. التطهير: مصدر طهر، والتضعيف فيه للتعدية. يقال: طهر الشيء طهارة: نطف. الطائف: اسم فاعل من طاف به إذا دار به، ويقال أطاف: بمعنى طاف، قال:

أطـافت بـه جيـلان عنـد فطامـه

والعاكف: اسم فاعل من عكف بالشيء: أقام به ولازمه، قال:

عليــه الطيــر تــرقبــه عكوفــا

وقال يعكفون على أصنام لهم: أي يقيمون على عبادتها. البلد: معروف، والبلد الصدر، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى. يقال: وضعت الناقة بلدتها إذا بركت. وقيل: سمي البلد بمعنى الأثر، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت، قال:

أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها

والبارك: البارك بالبلد. الاضطرار: هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه، وهو افتعل من الضر، أصله:اضترار، أبدلت التاء طاء بدلاً لازماً، وفعله متعد، وعلى ذلك استعماله في القرآن، وفي كلام العرب، قال:

اضطـرك الحـرز مـن سلمى إلى أجـأ

المصير: مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى. القواعد: قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: الأساس، قال:

في ذروة من بقاع أولهم زانت عواليها قواعدها

وبالأساس فسرها ابن عطية أولاً والزمخشري وقال: هي صفة غالبة، ومعناها الثانية، ومنه قعدك الله، أي أسأل الله أن يقعدك، أي يثبتك. انتهى كلامه. والقواعد من النساء جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه، إن شاء الله تعالى. الأمة: الجماعة، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة، والواحد المعظم المتبوع، والمنفرد في الأمر والدين والحين. والأم: هذه أمة زيد، أي أمه، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ، وأتباع الرسل، والطريقة المستقيمة، والجيل. المناسك: جمع منسك ومنسك، والكسر في سين منسك شاذ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك، والناسك: المتعبد. البعث: الإرسال، والإحياء، والهبوب من النوم. العزيز، يقال: عزيعز بضم العين، أي غلب، ومنه: { وعزني في الخطاب }، وعز يعز بفتحها، أي اشتد، ومنه: عز علىَّ هذا الأمر، أي شق، وتعزز لحم الناقة: اشتد. وعزيعز من النفاسة، أي لا نظير له، أو قل نظيره. الرغبة عن الشيء: الزهادة فيه، والرغبة فيه: الإيثار له والاختيار له، وأصل الرغبة: الطلب. الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازماً. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعدياً، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.

{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي }: مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس، كما قال: { { ما ولاهم عن قبلتهم } [البقرة: 142]، ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه، واقتفاء لآثاره. فكان تعظيم البيت لازماً لهم، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنهم، وإن كانوا من نسله، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف، وقدروه اذكر، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم، فيكون مفعولاً به، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: { { وإذ قال ربك للملائكة } [البقرة: 30]، والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به، وهو { قال إني جاعلك }. والابتلاء: الاختبار، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل: معناه أمر. قال الزمخشري: واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. انتهى كلامه، وفيه دسيسة الاعتزال. وفي ري الظمآن الابتلاء: إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما متلازمان.

وابراهيم هنا، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خليل الله، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود النبي عليه السلام، ومولده بأرض الأهواز. وقيل: بكوثي، وقيل: ببابل، وقيل: بنجران، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان. وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه. وقرأ الجمهور: إبراهيم بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين. زاد هشام أنه قرأ كذلك في: ابراهيم، والنحل، ومريم، والشورى، والذاريات، والنجم، والحديد، وأول الممتحنة، وثلاث آخر النساء، وأخرى التوبة، وآخر الأنعام، والعنكبوت. وقرأ المفضل: ابراهام بألفين، إلا في المودة والأعلى. وقرأ ابن الزبير: ابراهام، وقرأ أبو بكرة: إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه. وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة: برفع إبراهيم ونصب ربه. فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب، وتقدم معنى ابتلائه إياه. قال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي. وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيداً، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشرى في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية. وقال ابن عباس: معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء يتطلب فيها الإجابة، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان.

والكلمات لم تبين في القرآن ما هي، ولا في الحديث الصحيح، وللمفسرين فيها أقوال: الأول: روى طاوس، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، والاستطابة، والختان، وهذا قول قتادة. الثاني عشر: وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً. الثالث: ثلاثون سهماً في الإسلام، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم، وهي عشر في براءة { { التائبون } [التوبة: 112] الآية، وعشر في الأحزاب { { إن المسلمين } [الأحزاب: 35] الآية، وعشر في { قد أفلح } وفي المعارج. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً. الرابع: هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. وقيل: بدل الهجرة الذبح لولده، قاله الحسن. الخامس: مناسك الحج، رواه قتادة، عن ابن عباس. السادس: كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل:{ رب اجعل هذا البلد آمناً }، قاله مقاتل. السابع: هي قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقوله: ربنا تقبل منا، قاله ابن جبير. الثامن: هو قوله تعالى: { { وحاجَّه قومه } [الأنعام: 80]، قاله يمان. التاسع: هي قوله: { { الذي خلقني فهو يهدين } [الشعراء: 78] الآيات، قاله أبو روق. العاشر: هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه، فسلم ماله للضيفان، وولده للقربان، ونفسه للنيران، وقلبه للرحمن، فاتخذه الله خليلاً. الحادي عشر: هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. وفي البخاري، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم، وأوحى الله إليه { إني جاعلك للناس إماماً }، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فإن صحت تلك الرواية، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته، فيتفق التاريخان، والله أعلم. الثاني عشر: هي عشرة: شهادة أن لا إلٰه إلا الله، وهي الملة والصلاة، وهي الفطرة والزكاة، وهي الطهرة والصوم، وهو الجنة والحج، وهو الشعيرة والغزو، وهو النصرة والطاعة، وهي العصمة والجماعة، وهي الألفة والأمر بالمعروف، وهو الوفاء والنهي عن المنكر، وهو الحجة. الثالث عشر: هي: تجعلني إماماً، وتجعل البيت مثابة وأمناً، وترينا مناسكنا، وتتوب علينا، وهذا البلد آمناً، وترزق أهله من الثمرات. فأجابه الله في ذلك بما سأله، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.

وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم، إذ كلها ابتلاه بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد، ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات، إن كانت أقوالاً، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات، وإن كانت أفعالاً، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر، والأوامر كلمات. سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن. قال تعالى: { { وكلمته ألقاها إلى مريم } [النساء: 171]. وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، والسدل، والسواك، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان، والشيب وتغييره، والثريد، والضيافة. وهذا يبحث فيه في علم الفقه، وليس كتابنا موضوعاً لذلك، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.

فأتمهن: الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية. فأتمهن معطوف على ابتلى، فالمناسب التطابق في الضمير. وعلى هذا، فالمعنى: أي أكملهن له من غير نقص، أو بينهن، والبيان به يتم المعنى ويظهر، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن، أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، أقوال خمسة. ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم. فالمعنى على هذا أدامهن، أو أقام بهن، قاله الضحاك؛ أو عمل بهن، قاله يمان؛ أو وفى بهن، قاله الربيع، أو أدّاهن، قاله قتادة. خمسة أقوال تقرب من الترادف، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به. واختلفوا في هذا الابتلاء، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال االقاضي: كان قبل النبوة، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب، لأنه جعله إماماً، والسبب مقدم على المسبب، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً. وقال آخرون: إنه بعد النبوة، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك. أجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق.

{ قال إني جاعلك }: تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً، كانت قال استئنافاً، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: { قال إني جاعلك للناس إماماً }. وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: ابتلى، وتفسيراً له. للناس: يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماماً كائناً للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماماً. قيل: قال أهل التحقيق: والمراد بالإمام هنا: النبي، أي صاحب شرع متبع، لأنه لو كان تبعاً لرسول، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له. ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، ومن يكون كذلك، لا يكون إلا نبياً. ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة، قال تعالى: { { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا } [السجدة: 24]. والخلفاء أيضاً أئمة، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس، ومن يؤتم به في الباطل. قال تعالى: { { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } [القصص: 41]. فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها، لأنه ذكره في معرض الامتنان، فلا بد أن يكون أعظم نعمة، ولا شيء أعظم من النبوة.

قال ومن ذريتي، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعد، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماماً الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً. وقرأ زيد بن ثابت: ذريتي بالكسر في الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقرأ الجمهور بالضم، وذكرنا أنها لغات فيها، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.

{ قال لا ينال عهدي الظالمين }: والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم، وفي قال هذه عائد على الله تعالى. والعهد: الإمامة، قال مجاهد: أو النبوة، قاله السدي؛ أو الأمان، قاله قتادة. وروي عن السدي، واختاره الزجاج: أو الثواب قاله قتادة أيضاً؛ أو الرحمة، قاله عطاء؛ أو الدين، قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، قاله ابن عباس؛ أو الأمر من قوله: { { إن الله عهد إلينا } [آل عمران: 183]، { { ألم أعهد إليكم } [يس: 60]؛ أو إدخاله الجنة من قوله: كان له { عند الله عهداً } [البقرة: 80]، أن يدخله الجنة؛ أو طاعتي، قاله الضحاك أيضاً؛ أو الميثاق؛ أو الأمانة. والظاهر من هذه الأقوال: أن العهد هي الإمامة، لأنها هي المصدر بها، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله: { ومن ذريتي } هو استعلام، كأنه قيل: أتجعل من ذريتي إماماً: وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله، وسأل أن يجعل من ذريته إماماً، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله: { لا ينال عهدي الظالمين } أنه جواب لقول إبراهيم: { ومن ذريتي } على سبيل الجعل، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا، أو لا ينال عهدي ذريتك، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش: الظالمون بالرفع، لأن العهد ينال، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه. وقد فسر الظلم هنا بالكفر، وهو قول ابن جبير، وبظلم المعاصي غير الكفر، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، قال الحسن: لم يجعل الله لهم عهداً. قال ابن أبي الفضل: ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ، لأنه قال: ومن ذريتي، وهو محتمل، وجاعل من ذريتي، أو تجعل من ذريتي، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملاً غير منطوق به، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم: أجيب إلى ملتمسه، فاللفظ لا يدل على ذلك، بل يدل على ضده، لأن ظاهره: أن أولادك ظالمون. لكن دل الدليل على خلاف ذلك، وهو: { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب }، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال: لا ينال عهدي الظالمين منهم، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولاً بيناً. انتهى ما ذكره ملخصاً بعضه. وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال. أما من قدر: واجعل من ذريتي إماماً، فهو سؤال؛ وأما من قدر: وتجعل وجاعل، فهو استفهام على حذف الاستفهام، إذ معناه: وأجاعل أنت يا رب، أو أتجعل يا رب من ذريتي. والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم: وجاعل، أو تجعل من ذريتي إماماً خبراً، لأنه خبر من نبي. وإذا كان خبراً من نبي، كان صدقاً ضرورة. ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماماً. فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك. وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام. هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل؟ فأجابه الله: إلى أن من كان ظالماً لا يناله عهده. وأما قوله: إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون، فليس كذلك، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها. ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير، أي: ظالموهم، أو الضمير محذوف، أي منهم. ومن أغرب الانتزاعات في قوله: { لا ينال عهدي الظالمين } ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا، كون أبي بكر لا يكون إماماً قالوا: لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه، لأنه سجد للأصنام، فقد ظلم. وقد قال تعالى: { لا ينال عهدي الظالمين }، وذلك بخلاف عليّ، فإنه لم يسجد لصنم قط. قلت له: فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالماً، كسلمان، وأبي ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار. وهذا ما لا يذهب إليه أحد، فلم يحر جواباً.

وقال الزمخشري: وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد، ابني عبد الله بن الحسين، حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد، وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف المظلمة؟ فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه، فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب فقد ظلم. انتهى كلامه. وزيد بن عليّ الذي ذكره، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم. وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة، وإنما ذكره الزمخشري، لأنه كان بمكة مجاوراً للزيدية ومصاحباً لهم، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم. واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، الذي ذكره الزمخشري، هو هشام بن عبد الملك، خرج عليه زيد بن عليّ، وكان قد قال لأخيه الباقر: ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك؟ فأعرض عنه وقال له: لهذا وقت لا يتعداه. فدعا إلى نفسه وقال: إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته. فقال له الباقر: يا زيد! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه. فإذا فعل ذلك سقط، فأخذه الصبيان يتلاعبون به. فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غداً بالكناسة. فلم يلتفت زيد لكلام الباقر، وخرج على هشام، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة، وأحرقه بالنار، وكان كما حذره الباقر. وأما الدوانيقي، فهو المنصور أخو السفاح، سمي بذلك قيل لبخله. وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة. وأما إبراهيم ومحمد، اللذان ذكرهما الزمخشري، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كانا قد تغيبا أيام السفاح، وأول أيام المنصور، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر، فخطب حتى حضرت الصلاة، فنزل وصلى بالناس، وبويع بالمدينة طوعاً، واستعمل العمال، وغلب على المدينة والبصرة، وجبى الأموال. وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه. وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا.

وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى، وإن كان موضوعها أصول الدين، فهناك ذكرها، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال. فنقول: الذي عليه أصحاب الحديث والسنة، أن نصب الإمام فرض، خلافاً لفرقة من الخوارج، وهم أصحاب نجدة الحروري. زعموا أن الإمامة ليست بفرض، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاجون إلى إمام، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع. واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل، خلافاً للرافضة، إذ أوجبت ذلك عقلاً، ويكون الإمام من صميم قريش، خلافاً لفرقة من المعتزلة، إذ قالوا: إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي، وجب نصب النبطي دون القرشي، وسواء في ذلك بطون قريش كلها، خلافاً لمن خص ذلك بنسل عليّ، أو العباس، إما منصوصاً عليه، وإما باجتهاد، ويكون أفضل القوم، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل، خلافاً لأبي العباس القلانسي، فإنه يقول: ينعقد للمفضول، إذا كان بصفة الإمامة، مع وجود الفاضل، وشروطه: أن يكون عدلاً مجتهداً في أحكام الشريعة، شجاعاً، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق، فقال أبو الحسن: يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم. وقال أبو الحسن أيضاً، والقاضي أبو بكر بن الطيب: لا يجوز الخروج عليه، وإن أمن الناس ذلك، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين، ولا اعتبار في ذلك بعدد، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد، وجبت المبايعة على كلهم، خلافاً لمن خص أهل البيعة بأربعة. وقال: لا ينعقد بأقل من ذلك، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بأربعين، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بسبعين، ثم من خالف كان باغياً أو ناظراً أو غالطاً، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه. ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد، خلافاً للكرامية، إذ أجازوا ذلك، وزعموا أن علياً ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، والقول بالتقية باطل، خلافاً للإمامية، ومعناها: أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماماً مستوراً، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة. وليس من شرط الإمام العصمة، خلافاً للرّافضة، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرًّا وعلناً. وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها، خلافاً للإمامية، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده. وليس لأحد الخروج عليه بالسيف، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب، خلافاً لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم. وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي: الإمامة في الصلاة، وموضوعها علم الفقه.

{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }: لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم، كانوا أحق بتعظيمها، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها، وهو كونها مثابة للناس وأمناً، وأن فيها مقام إبراهيم، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها. والبيت هنا: الكعبة، على قول الجمهور. وقيل: المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة، لأنه وصفه بالأمن، وهذه صفة جميع الحرم، لا صفة الكعبة فقط. ويجوز إطلاق البيت، ويراد به كل الحرم. وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به، ولا تطلق على كل الحرم. والتاء في مثابة للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، قاله الأخفش، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، كما يقال مقام ومقامه، قال الشاعر:

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة فهل يعجزني بقعة من بقاعها

ذكر رحباً على مراعاة المكان، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة: مثابات على الجمع، وقال ورقة بن نوفل:

مثاباً لا فناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الطلائح

ويروى: الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس، لا يختص به واحد منهم، { سواء العاكف فيه والباد }. ومثابة، قال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب، أي يحجونه في كل عام، فهم يتفرّقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطراً، وقال الشاعر:

جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر

وقال ابن عباس: معاذاً وملجأ. وقال قتادة والخليل: مجمعاً. وقال بعض أهل اللغة، فيما حكاه الماوردي: أي مكان. إثابة: واحدة من الثواب، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالاً منه. والألف واللام في قوله للناس: أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والأمن: مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن، أو على حذف مضاف، أي ذا أمن، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازاً، أي آمنا، كما قال تعالى: { اجعل هذا البلد آمناً }، وجعله آمناً، اختلفوا، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال: إنه في الدنيا، فقيل معناه: أن الناس كانوا يقتتلون، ويغير بعضهم على بعض حول مكة، وهي آمنة من ذلك، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمناً للناس والطير والوحش، إلا الخمس الفواسق، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما من أحدث حدثاً خارج الحرم، ثم أتى الحرم، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه. وقيل معناه: إنه آمن من لأهله، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة، فلا يروعه أحد. وقيل: معناه: إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده. ومن قال هذا الأمن في الآخرة، قيل: من المكر عند الموت. وقيل: من عذاب النار. وقيل: من بخس ثواب من قصده، قال قوم: وهذا الأمن مختص بالبيت. وقيل: يشمل البيت والحرم. وقال في ريّ الظمآن معناه: ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب. والظاهر أن قوله: وأمناً، معطوف على قوله: مثابة، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمناً، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل، وكان البيت محرّماً بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ: واتخذوا على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.

{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور: واتخذوا، بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتحها، جعلوه فعلاً ماضياً. فأما قراءة: واتخذوا على الأمر، فاختلف من المواجه به، فقيل: إبراهيم وذريته، أي وقال الله لإبراهيم وذريته: اتخذوا. وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، أي: وقلنا اتخذوا. ويؤيده ما روي "عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، فذكر منها وقلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال:هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال:لم أومر بذلك" . فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولاً لقول محذوف. وقيل: المواجه به بنو إسرائيل، وهو معطوف على قوله: { اذكروا نعمتي } [البقرة: 40] وقيل: هو معطوف على قوله: { وإذ جعلنا البيت مثابة }، قالوا: لأن المعنى: ثوبوا إلى البيت، فهو معطوف على المعنى. وهذان القولان بعيدان. وأما قراءة: واتخذوا، بفتح الخاء، فمعطوف على ما قبله، فأما على مجموع، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ، وإما على نفس جعلنا، فلا يحتاج إلى تقديرها، بل يكون في صلة إذ. والمعنى: واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، قاله الزمخشري. من مقام: جوّزوا في من أن تكون تبعيضية، وبمعنى في، وزائدة على مذهب الأخفش، والأظهر الأول. وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقاً، وأعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام، يراد به المكان، أي مكان قيامه، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وخرجه البخاري، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم. وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال نعم، فأراه موضعه اليوم. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب، فاغتسل عليه، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، قاله الربيع بن أنس؛ أو مواقف الحج كلها، قاله ابن عباس أيضاً وعطاء ومجاهد، أو عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء والشعبي، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها؛ أو الحرم كله، قاله النخعي ومجاهد؛ أو المسجد الحرام، قاله قوم. واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ الحديث، وبقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف وأتى المقام: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره. فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى، ولأن المقام هو موضع القيام، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره. مصلى: قبلة، قاله الحسن. موضع صلاة، قاله قتادة. موضع دعاء، قاله مجاهد، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة. قال ابن عطية: موضع صلاة على قول من قال المقام: الحجر، ومن قال غيره قال: مصلى، مدعى على أصل الصلاة، يعني في اللغة. انتهى.

{ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرنا أو وصينا، أو أوحينا، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى. { أن طهرا }: يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيداً، ولا يعجبني أن أضرب زيداً، فتوصل بالأمر، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر. والتطهير: المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به. وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد، قاله السدّي، وهو بعيد، وبالتطهير من الأوثان. وذكروا أنه كان عامراً على عهد نوح، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد، فعبدت من دون الله، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل. والمعنى: أنه لا ينصب فيه وثن، ولا يعبد فيه غير الله. وقال يمان: معناه بخّراه ونظفاه وخلقاه. وقيل: من الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقيل: من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه. وقيل: معناه أخلصاه لهؤلاء، لا يغشاه غيرهم، والأولى حمله على التطهير مما لا يناسب بيوت الله، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس، وجميع الخبائث، وما يمنع منه شرعاً، كالحائض.

{ بيتي }: هذه إضافة تشريف، لا أن مكاناً محل لله تعالى، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه، صار له بذلك اختصاص، فحسنت إضافته إلى الله بذلك، وصار نظير قوله: { { ناقة الله } [الأعراف: 73] و { روح الله } [يوسف: 87]، من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره، فناسب الإضافة إليه تعالى. والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى. وقد تقدّم أنه كان مبنياً على عهد نوح. { للطائفين والعاكفين }: ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد، قاله عطاء وغيره. وقال ابن جبير: الغرباء الطارئون على مكة حجاجاً وزوّاراً، فيرحلون عن قريب، ويؤيده أنه ذكر بعده. والعاكفين، قال: وهم أهل البلد الحرام المقيمون، والمقيم مقابل المسافر. وقال عطاء: العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب. وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء. وقال ابن عباس: المصلون، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت، إنما يدخل لطواف أو صلاة. وقيل: هم المعتكفون. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالعاكفين: الواقفين، يعني القائمين، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود. والمعنى للطائفين والمصلين، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. انتهى. ولو قال: القائم هنا معناه: العاكف، من قوله: ما دمت عليه قائماً، لكان حسناً، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيـىء البيت له.

{ والركع السجود }: هو المصلون عند الكعبة، قاله عطاء وغيره. وقال الحسن: هم جميع المؤمنين، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي، لأنهما أقرب أحواله إلى الله، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً، وكان آخرهما على فعول، لا على فعل، لأجل كونها فاصلة، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود: المصلون، فناسب أن لا يعطف، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة، وليس كذلك. وفي قوله: { والركع السجود } دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً، إذ لم يخصص.

{ وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً }: ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى. وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته. واجعل هنا بمعنى: صير، وصورته أمر، وهو طلب ورغبة. وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه، وهو قوله: { { بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم } [إبراهيم: 37]، أو إلى المكان الذي صار بلداً، ولذلك نكره فقال: { بلداً آمناً }. وحين صار بلداً قال: { { رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني } [إبراهيم: 35]، وقَال { { لا أقسم بهذا البلد } [البلد: 1]، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين. وقيل: الآيتان سواء، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً، ويكون بلداً النكرة، توطئة لما يجيء بعده، كما تقول: كان هذا اليوم يوماً حاراً، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً. ويحتمل وجهاً آخر وهو: أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً، بل دعى له بذلك، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله: { هذا البلد }، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً. ووصف بلد بآمن، إما على معنى النسب، أي ذا أمن، كقولهم: { { عيشة راضية } [القارعة: 7]، أي ذات رضا، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم: نهارك صائم وليلك قائم. وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين، أو من أن يعود حرمه حلالاً، أو من أن يخلو من أهله، أو آمناً من القتل، أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال. ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة، فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم. وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً. وقال القفال: معناه مأموناً فيه، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم.

{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر }: لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبـى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. ولما سمع في الإمامة قوله تعالى: { لا ينال عهدي الظالمين }. قيد هنا من سأل له الرزق فقال: { من آمن منهم بالله واليوم الآخر }، والضمير في منهم عائد على أهله. دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى أن قريشاً لما طغت، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين، كسني يوسف" ، وكانت مكة إذ ذاك قفراً، لا ماء بها ولا نبات، كما قال: { بواد غير ذي زرع } فبارك الله فيما حولها، كالطائف وغيره، وأنبت الله فيه أنواعاً من الثمر. وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل فاقتلع فلسطين، وقيل: بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعاً، فأنزلها بِوَادّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف، وقال بعضهم:

كل الأماكن إعظاماً لحرمتها تسعى لها ولها في سعيها شرف

وذكر متعلق الإيمان، وهو الله تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه. ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم، ولا يختص ذلك بذريته، وإن كان ظاهر قوله: { وارزقهم من الثمرات } مختصاً بذريته لقوله: { إني أسكنت من ذريتي } لعود الضمير في وارزقهم عليه، فيحتمل أن يكونا سؤالين. ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم، وهو البدل، إذ ذكر مرتين.

{ قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير }: قرأ الجمهور من السبعة: فأمتعه، مشدّداً على الخبر. وقرأ ابن عامر: فأمتعه، مخففاً على الخبر. وقرأ هؤلاء: ثم اضطره خبراً. وقرأ يحيـى بن وثاب: فأمتعه مخففاً، ثم أضطره بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن: ثم أضطره، بإدغام الضاد في الطاء خبراً. وقرأ يزيد بن أبي حبيب: ثم اضطره بضم الطاء، خبراً. وقرأ أبي بن كعب: فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: { فأمتعه قليلاً ثم أضطره } على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على الله تعالى، ومن: يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: قال الله وارزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء، إما موصولاً، وإما شرطاً، والفاء جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط، لا الفعل الواقع جزاء، ولا إذا كانت موصولة، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. وأما إذا كان أمراً، أعني الخبر نحو: زيداً فاضربه، فيجوز أن يفسر، ولا يجوز أن تقول: زيداً فتضربه على الاشتغال، ولجواز: زيداً فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون من مبتدأ، وفأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفاً، وفأمتعه دليل على جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً. فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء، وقد جوّز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء، وإضمار الخبر، وإضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري: ومن كفر: عطف على من آمن، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. انتهى كلامه. وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في ومن كفر. وإذا قدرته أمراً، تنافى مع قوله: فأمتعه، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع وإلجائهم إليه تعالى، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى، وذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي قال إبراهيم: وارزق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال: فإن قلت: لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى. وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق، فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له. والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه. انتهى كلامه. فظاهر قوله والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، ومن كفر عائد على الله، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى، وهو يناقض ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن. وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء، لأنه لم يرد عليه، لأنه لا يدعي، ويرغب في أن يرزق الكافر، بل قوله تعالى: { قال ومن كفر }، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة، ولا تعريف الفرق بينهما، كما زعم.

وقد تقدم تفسير المتاع، وأنه كل ما انتفع به، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء، أو بتيسير المنافع، ومنه متاع الحياة الدنيا، أي منفعتها التي لا تدوم، أو بالتزويد، ومنه: فمتعوهن؛ أي زوّدوهنّ نفقة. والمتعة: ما يتبلغ به من الزاد، والجمع متع، ومنه: متاعاً لكم. وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه: أمتعت زيداً، جعلته صاحب متاع، كقولهم: أقبرته وأنعلته، وكذلك التضعيف في متع هو: يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم: عدلته. وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير، فينافي ظاهر ذلك القلة، فيحتاج إلى تأويل، كما ظنه بعضهم وتأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة. فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافيا. وانتصاب قليلاً على أنه صفة لظرف محذوف، أي زماناً قليلاً، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعاً قليلاً، على تقدير الجمهور، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف، الدال عليه الفعل، وذلك على مذهب سيبويه. والوصف بالقلة لسرعة انقضائه، إما لحلول الأجل، وإما بظهور محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله، أو يخرجه عن هذا البلد، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها، أو بالرزق، أو بالبقاء في الدنيا، أقوال للمفسرين. وقراءة يحيـى بن وثاب: ثم إضطره بكسر الهمزة. قال ابن عطية، على لغة قريش، في قولهم: لا إخال، يعني بكسر الهمزة. وظاهر هذا النقل في أن ذلك، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر، وهو ما أوله همزة وصل. وفي نحو إخال، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، أو ذا ياء مزيدة في أوله، وذلك نحو: علم يعلم، وانطلق ينطلق، وتعلم يتعلم، إلا إن كان حرف المضارعة ياء، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء، بل يفتحها. وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل، مذاهب تذكر في علم النحو، وإنما المقصود هنا: أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً.

وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله: { نستعين } أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل) من تأليفنا. وقراءة ابن محيصن: ثم اطره، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري: هي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب، فالأوجه البيان، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل: مضرب، كما قيل: مصبر في مصطبر. قال سيبويه: وقد قال بعضهم: مطجع، في مضطجع ومضجع أكثر، وجاز مطجع، وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، وإلى قوله: ومضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت، ولم يفعل ذلك بالصاد، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجواز. وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى: { { الأرض ذلولاً } [الملك: 15]، رواه اليزيدي، عن أبي عمرو، وهو ضعيف. وفي الشين في قوله تعالى: { { لبعض شأنهم } [النور: 62]، { { والأرض شيئاً } [النحل: 73]، وهو ضعيف أيضاً. وأما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى: { { إلى ذي العرش سبيلاً } [الإسراء: 42]، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو، وهو رأس من رؤوس البصريين. وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي: { { إن نشأ نخسف بهم } [سبأ: 9]، وهو إمام الكوفيين. وأما الراء، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها، ولا في النون. وأجاز ذلك في اللام: يعقوب، وأبو عمرو، والكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين، حكوه سماعاً عن العرب. وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها، وذكر الخلاف فيها، لئلا يتوهم من قول الزمخشري: لا تدغم فيما يجاورها، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين. فأوردت هذا الخلاف فيها، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع، إذ طلاقه يدل على المنع ألبتة. وقراءة ابن أبي حبيب: بضم الطاء، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء، وهو شاذ. وأما قراءة أبي بالنون فيهما، فهي مخالفة لرسم المصحف، فهي شاذة. وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد، أو ليكون ذلك جملتين، جملة بالدعاء لمن آمن، وجملة بالدعاء على من كفر، فلا يندرجان تحت معمول واحد، بل أفرد كلاً بقول. واضطره على هذه القراءة، هو بفتح الراء المشدّدة، كما تقول: عضه بالفتح، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك. ولو قرأ على لغة قومه، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله: ثم أضطره. ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره. ومفهوم الشرط هنا ملغي، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين. { وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى، أي وبئس المصير النار، إن كان المصير اسم مكان، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير: وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.

{ وإذ يرفع إبراهيم }: هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. ويرفع في معنى رفع، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. والرفع حالة الخطاب قد وقع. وقال الزمخشري: هي حكاية حال ماضية، وفي ذلك نظر. من البيت: هو الكعبة. ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجة آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على البناء، قصصاً كثيرة. واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور، وفي طول آدم، والصلع الذي عرض له ولولده، وفي الحجر الأسود، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح. وبعضها يناقض بعضاً، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج. ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت ونشاحه في قوله: أمر، إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك. { القواعد }: تقدّم تفسيرها في الكلام على المفردات، وهل هي الأساس أو الجدر؟ فإن كانت الأساس، فرفعها بأن يبني عليها، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتتطاول بعد التقاصر. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت، أي استوطىء، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.

{ من البيت }: يحتمل أن يكون متعلقاً بيرفع، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنة من البيت. ولم تضف القواعد إلى البيت، فكان يكون الكلام قواعد البيت، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين. { وإسماعيل }: معطوف على إبراهيم، فهما مشتركان في الرفع. قيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. وقال عبيد بن عمير: رفع إبراهيم وإسماعيل معاً، وهذا ظاهر القرآن. وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك، كان يناوله الحجارة. وروي عن علي: أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلاً صغيراً، ولا يصح ذلك عن عليّ. ومن جعل الواو في وإسماعيل واو الحال، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر، التقدير: وإسماعيل يقول: ربنا تقبل منا، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء، وإسماعيل مختصاً بالدعاء. ومن ذهب إلى العطف، جعل ربنا تقبل منا معمولاً لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معاً، في موضع نصب على الحال تقديره: وإذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا. ويؤيد هذا التأويل أن العطف في وإسماعيل أظهر من أن تكون الواو واو الحال. وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ، فلا يكون في موضع الحال، والمعنى: أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد، وفي ندائهما بلفظ ربنا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي.

{ ربنا تقبل منا }: أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك، وتقبل بمعنى: اقبل، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم: تعدّى الشيء وعداه، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل. والمراد بالتقبل: الإثابة، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر، لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه. فشبه الفعل من العبد بالعطية، والرضا من الله تعالى بالتقبل توسعاً. وحكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقاً بين القبول والتقبل، قال: التقبل تكلف القبول، وذلك حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل، قال: فهذا اعتراف من إبراهيم وإسماعيل بالتقصير في العمل. ولم يكن المقصود إعطاء الثواب، لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه، وسؤالهما التقبل بذلك، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجباً على الله تعالى، انتهى ملخصاً. ونقول: إن التقبل والقبول سواء بالنسبة إلى الله تعالى، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى. وقد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل.

{ إنك أنت السميع العليم }: يجوز في أنت الابتداء والفصل والتأكيد. وقد تقدّم الكلام في الفصل وفائدته، وهو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاماً دون استدلال. وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب، إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال، فهو السميع لضراعتهما وتسآلهما التقبل، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما. وتقدّمت صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورة نحو قوله: { { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت } [آل عمران: 106]. وتأخرت صفة العليم لكونها فاصلة ولعمومها، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات. { ربنا واجعلنا مسلمين لك }: أي منقادين، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله: من أسلم وجهه، أي أخلص عمله، والمعنى: أدم لنا ذلك، لأنهما كانا مسلمين، ولك تفيد جهة الإسلام، أي لك لا لغيرك. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي: مسلمين على الجمع، دعاء لهما وللموجود من أهلهما، كهاجر، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مراداً به التثنية، وقد قيل به هنا.

{ ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك }: لما تقدّم الجواب له بقوله: { لا ينال عهدي الظالمين }، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال: { ومن ذريتنا }، وخصّ ذريته بالدعاء للشفقة والحنوّ عليهم، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعاً كثيراً لمتبعهم، إذ يكونون سبباً لصلاح من وراءهم. والذرية هنا، قيل: أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله:{ وابعث فيهم }. وقيل: هم العرب، لأنهم من ذريتهما. قال القفال: لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة الأيادي. ويقال: عبد المطلب بن هاشم، جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن الظرب، كانا على دين الإسلام. وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله: ومن ذريتنا، للتبيين، قال كقوله: { { وعد الله الذين آمنوا منكم } [النور: 55]، وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك. وتقدّم شرح الأمة، والمراد به هنا: الجماعة، أو الجيل، والمعنى: على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله: واجعل، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير، فالمعنى: واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله: واجعل من ذريتنا بمعنى: أوجدوا خلق. وإن كان من جهة المعنى صحيحاً، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد. ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة، لأنه إن كان من باب عطف المفردات، فهو مشترك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد. وإن كان من باب عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق. والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد، فكذلك المحذوف. ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى: { { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } [الأحزاب: 43] أن يكون التقدير: وملائكته يصلون، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة، ومن ذريتنا حال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال، ومسلمة المفعول الثاني، وكان الأصل: اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك، قال: فالواو داخلة في الأصل على أمة، وقد فصل بينهما بقوله: من ذريتنا، وهو جائز، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف، وجعلوا قوله:

يوماً تراها كشبه أردية الــعصب ويومـاً أديمهـا نغـلا

من الضرورات، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، فصار نظير: ضربت الرجل، ومتجردة المرأة تريد: والمرأة متجردة، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة. { وأرنا مناسكنا }: قال قتادة: معالم الحج. وقال عطاء وابن جريج: مذابحنا، أي مواضع الذبح. وقيل: كل عبادة يتعبد بها الله تعالى. وقال تاج القراء الكرماني: إن كان المراد أعمال الحج، وما يفعل في المواقف، كالطواف، والسعي، والوقوف، والصلاة، فتكون المناسك جمع منسك: المصدر، جمع لاختلافها. وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج، كمنى، وعرفة، والمزدلفة، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة. وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة، بعث الله إليه جبريل عليه السلام، فحج به. وفي قراءة ابن مسعود: وأرهم مناسكهم، أعاد الضمير على الذرية، ومعنى أرنا: أي بصِّرنا. إن كانت من رأي البصرية. والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، نحو قوله:

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول

وقال الكميت:

بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب

فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى ثلاثة، وليس هنا إلا إثنان، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين. وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب، وشرحها بقوله: عرف، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر، وعن طائفة أنها من رؤية القلب. قال ابن عطية: وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود:

أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا

انتهى كلام ابن عطية وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى. إذا كانت قلبية، تعدت إلى اثنين، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة، وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة. وإذا كان كذلك، ثبت أن لرأي، إذا كانت قلبية، استعمالين: أحدهما: أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية، لا دليل فيه، بل الظاهر أنها بصرية، والمعنى على أبصريني جواداً. ألا ترى إلى قوله: مات هزلاً؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن مالك، وهو حاشد لغة، وحافظ نوادر: حين عدى ما يتعدى إلى اثنين، فقال في التسهيل، ورأى لا لإبصار، ولا رأي، ولا ضرب، فلو كانت رأي بمعنى عرف، لنفى ذلك، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين، كونها لا تكون لأبصار، ولا رأى، ولا ضرب. وقال بعض الناس: المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معاً، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً، وهذا ضعيف، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة، وهو لا يجوز عندنا. وقرأ ابن كثير: وأرنا، وأرني خمسة بإسكان الراء. وروي عن أبي عمرو: والإسكان والاختلاس. وروي عنه: الإشباع، كالباقين، إلا أن أبا عامر، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين. فالإشباع هو الأصل، والاختلاس حسن مشهور في العربية، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل، كما قالوا: فخذوا سهله، كون الحركة فيه ليست لإعراب. وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف، فيقبح حذفها، يعني أن الأصل كان أرء، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف. وهذا ليس بشيء، لأن هذا أصل مرفوض، وصارت الحركة كأنها حركة للراء. وقال الفارسي: ما قاله هذا القائل ليس بشيء. ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي، أي الأصل لكن، ثم نقلوا الحركة وحذفوا، ثم أدغموا؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام. وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصاً عن العرب، قال الشاعر:

أرنا أداوة عبد الله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

وأيضاً فهي قراءة متواترة، فإنكارها ليس بشيء. وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك، أقوالاً سبعة مضطربة النقل. وذكروا أيضاً من حج هذا البيت من الأنبياء، ومن مات بمكة منهم. وذكروا أنه مات بها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، وغيرهم، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك، فتركنا نقل ذلك على عادتنا.

{ وتب علينا }: قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب، والرجوع عن الذنب، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة، وكان الضمير في قوله: { وتب علينا } خاصاً بهما، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير. قالوا: ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل: { ربنا واجعلنا مسلمين لك }. وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية، كان الدعاء بالتوبة منصرفاً لمن هو من أهل التوبة. وإن كان الضمير قبله محذوفاً مقدراً، فالتقدير على عصاتنا، ويكون دعا بالتوبة للعصاة. ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرناه من الاحتمال، خلافاً لمن زعم ذلك وقال: التوبة مشروطة بتقدم الذنب، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة. والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى: { { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } [إبراهيم: 35]، إلى قوله: { { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [إبراهيم: 36]، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له، وقراءة عبد الله، وأرهم مناسكهم، وتب عليهم، واحتمال أن يكون: وأرنا مناسكنا على حذف مضاف، أي وأر ذريتنا مناسكنا، كقوله: ولقد خلقناكم، أي خلقنا أباكم. وقال الزمخشري: وتب علينا ما فرط منا من الصغائر، أو استتاباً لذريتهما. انتهى. فقوله: ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء. قال ابن عطية: وقد ذكر قولي التثبيت، أو كون ذلك دعاء للذرية، قال: وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك، وبنيا البيت، وأطاعا، أرادا أن يسنّا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري: ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن يكون أحسن مما هي. انتهى كلام ابن عطية، وفيه خروج قوله: وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد، أي إن الدعاء بقوله: وتب علينا، ليس معناه أنهما طلبا التوبة، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك، وهذا بعيد جداً. قال ابن عطية: وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر. انتهى كلامه. قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي، في (كتاب المحصول) له ما ملخصه: قالت الشيعة، لا يجوز أن يقع منهم ذنب، لا صغير ولا كبير، لا عمداً ولا سهواً، ولا من جهة التأويل. ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر، ولا التبديل في التبليغ، ولا الخطأ في الفتوى. وذكر خلافاً في أشياء، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد، لا كبير ولا صغير، وأما سهواً فقد يقع، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهواً.

{ إنك أنت التواب الرحيم }: يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما. فناسب ذكر التوبة عليهما، أو الرحمة لهما. وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله: { وتب علينا }. وتأخرت صفة الرحمة لعمومها، لأن من الرحمة التوبة، ولكنها فاصلة. والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا، لأن قبلها { إنك أنت السميع العليم }، وبعدها: { إنك أنت العزيز الحكيم }.

{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم }: لما دعا ربه بالأمن لمكة، وبالرزق لأهلها، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية. وقد تقدم معنى البعث في قوله: { ثم بعثناكم }، والمراد هنا: الإرسال إليهم. والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية، ويحتمل أن يعود على أمّة مسلمة، ويحتمل أن يعود على أهل مكة، ويؤيده قوله: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم }، ولا خلاف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عنه أنه قال: "أنا دعوة أبي إبراهيم" . ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو صلى الله عليه وسلم. وقرأ أبيّ: وابعث فيهم في آخرهم، قال ابن عباس: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ومحمد صلى الله عليه وسلم. ومنهم في موضع الصفة لرسولا، أي كائناً منهم لا من غيرهم، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته، كما قال: { لقد منّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم }، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم، لأنه يكون أشفق على قومه، ويكونون هم أعز به وأشرف وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته. قال الربيع: لما دعا إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان.

{ يتلوا عليهم آياتك } جملة في موضع الصفة لرسولاً. وقيل: في موضع الحال منه، لأنه قد وصف بقوله منهم، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله، أي يقرؤها، فكان كذلك، وأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، وهو أعظم المعجزات. وقبل الله دعاء إبراهيم، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم، والآيات هنا آيات القرآن. وقيل: خبر من مضى، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة، وقال الفضل: معناه يبين لهم دينهم.

{ ويعلمهم الكتاب }: هو القرآن، والمعنى: أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه. وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله. وأسند التعليم للرسول، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه، ويتسبب في ذلك. والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم، ولا يحصل به العلم، ولذلك يقبل النقيضين، تقول: علمته فتعلم، وعلمته فما تعلم، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم. قال الزمخشري: يتلو عليهم آياتك: يقرأ عليهم، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك، ويعلمهم الكتاب القرآن، { والحكمة }: الشريعة وبيان الأحكام. وقال قتادة: الحكمة: السنة، وبيان النبي: الشرائع. وقال مالك وأبو رزين: الحكمة، الفقه في الدين، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى. وقال مجاهد: الحكمة: فهم القرآن. وقال مقاتل: العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما. وقيل: الحكم والقضاء. وقيل: ما لا يعلم إلا من جهة الرسول. وقال ابن زيد: كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. وقال بعضهم: الحكمة هنا الكتاب، وكررها توكيداً. وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب: كل صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً فهو حكمة. وقال يحيـى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروّح عنها وهج الدنيا. وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها. وقيل: كل قول وجب فعله. وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة، ويجمع هذه الأقوال قولان: أحدهما، القرآن والآخر السنة، لأنها المبينة لما أنبهم من الكتاب، والمظهرة لوجوه الأحكام. ويكون المعنى، والله أعلم، في قوله: { يتلو عليهم آياتك }، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته، كما قال صلى الله عليه وسلم لأُبي: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن" ، وذلك لأن يتعلم أبي منه صلى الله عليه وسلم كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة. وفي قوله: { ويعلمهم الكتاب }، أي يبين لهم وجوه أحكامه: حلاله وحرامه، ومفروضه، ومسنونه، ومواعظه، وأمثاله، وترغيبه، وترهيبه، والحشر، والنشر، والعقاب، والثواب، والجنة والنار. وفي قوله: والحكمة، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل، وتوضح ما أنبهم من المشكل، وتفصح عن مقادير، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه، ويثبت أحكاماً لم يتضمنها الكتاب. { ويزكيهم } باطناً من أرجاس الشرك وأنجاس الشك، وظاهراً بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الإنعام. قال ابن عباس: التزكية: الطاعة والإخلاص. وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك. وقيل: يأخذ منهم الزكاة التي تكون سبباً لطهرتهم. وقيل: يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء. وقيل: يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية.

{ إنك أنت العزيز الحكيم }، العزيز: الغالب، أو المنيع الذي لا يرام، قاله المفضل بن سلمة، أو الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، أو الذي لا مثل له، قاله ابن عباس، أو المنتقم، قاله الكلبي، أو القوي، ومنه فعززنا بثالث، أو المعز ومنه: { { وتعز من تشاء } [آل عمران: 26]. الحكيم: قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله: { { إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } [البقرة: 32]. وأنت: يجوز فيها ما جاز في { أنت السميع العليم } قبل من الأعاريب. وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة، وهي الغلبة أو القوّة، أو عدم النظير، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وتقدّمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات، والحكيم من صفات الأفعال، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها. وفي المنتخب: يتلو عليهم آياتك: هي القرآن. وقيل: الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته. ومعنى التلاوة: تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها، وحكمة التلاوة: بقاء لفظها على الألسنة، فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف، وكون نظمها ولفظها معجزاً، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وقال القفال، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية، وقيل الحكمة المتشابهات. وقيل: الكتاب أحكام الشرائع، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها، وقيل: كلها صفات للقرآن، هو آيات، وهو كتاب وهو حكمة. انتهى ما لخص من المنتخب.

{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه }: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون]، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فأنزل الله هذه الآية. ومن: اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء، وهو استفهام معناه: الإنكار، ولذلك دخلت إلا بعده. والمعنى: لا أحد يرغب، فمعناه النفي العام. ومن سفه: في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء، والرفع أجود على البدل، لأنه استثناء من غير موجب، ومن في من سفه موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، وانتصاب نفسه على أنه تمييز، على قول بعض الكوفيين، وهو الفراء، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم، أو مفعول به، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى، أي جهل، وهو قول الزجاج وابن جني، أو أهلك، وهو قول أبي عبيدة، أو على إسقاط حرف الجر، وهو قول بعض البصريين، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه، حكاه مكي. أما التمييز فلا يجيزه البصريون، لأنه معرفة، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة، وأما كونه مشبهاً بالمفعول، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة، ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه، ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه. وأما إسقاط حرف الجر، وأصله من سفه في نفسه، فلا ينقاس، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف. وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني: أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد، وأما التضمين فلا ينقاس، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه، فهو الذي نختاره، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى، كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة. قال الزمخشري: سفه نفسه: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه، الخفة، ومنه زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو: غبن رأيه، وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:

ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام

وقيل: معناه سفه في نفسه فحذف لجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: "الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس" . انتهى كلامه. فأجاز نصبه على المفعول به، إلا أن قوله: ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:

ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام

ليس بصحيح، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة. والشعر جمع أشعر، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة، وأجب أفعل اسم وليس بفعل. وقبل النصف الأول قوله:

فما قومي بثعلبة بن سعدى

وقبل الآخر قوله:

ونأخذ بعده بذناب عيش

فليس نحوه، لأن نفسه انتصب بعد فعل، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم، وهما من باب الصفة المشبهة. ومعنى الآية: أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف، إلا من أذل نفسه وامتهنها. وقال ابن عباس: معنى سفه نفسه: خسر نفسه. وقال أبو روق: عجز رأيه عن نفسه. وقال يمان: حمق رأيه. وقال الكلبي: قتل نفسه. وقال ابن بحر: جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل. وحكي عن بعضهم أن معناه: سفه حق نفسه، فأما سفه بضم الفاء فمعناه: صار سفيهاً، مثل فقه إذا صار فقيهاً، قال:

فلا علم إذا جهل العليم ولا رشد إذا سفه الحليم

{ ولقد اصطفيناه في الدنيا }: أي جعلناه صافياً من الأدناس، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها، وبناء البيت، والإمامة، واتخاذ مقامه مصلى، وتطهير البيت، والنجاة من نار نمروذ، والنظر في النجوم، وأذانه بالحج، وإراءته مناسكه، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه، من خصائصه ووجوه اصطفائه. { وإنه في الآخرة لمن الصالحين }: ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين، بأن كان في الدنيا من صفوته، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته. وهاتان الجملتان مؤكدتان، أما الأولى فباللام، وأما الثانية فبأن وباللام. ولما كان إخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة، احتاجت إلى مزيد تأكيد، بخلاف حال الدنيا، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلاً بعد جيل. وأما كونه في الآخرة من الصالحين، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى، فأخبر الله به مبالغاً في التوكيد، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم: هو على إضمار، أعني: فهو للتبيين، كلك بعد سقيا، وإنما لم يتعلق بالصالحين، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً، قال: لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة، بل معرفة، كهي في الرجل، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك. وقيل: في الآخرة، أي في عمل الآخرة، فيكون على حذف مضاف، وقيل: الآخرة هنا البرزخ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا. وقيل: الآخرة يوم القيامة، وهو الأظهر. قال ابن عباس: لمن الصالحين، أي الأنبياء. وقيل: من الذين يستوجبون صالح الجزاء، قال معناه الحسن. وقيل: الواردين موارد قدسه، والحالين مواطن أنسه. وقال الحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير، ولقد اصطفيناه في الدنيا، وفي الآخرة، وأنه لمن الصالحين. وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه.

{ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين }: هذا من الالتفات، إذ لو جرى على الكلام السابق، لكان: إذ قلنا له أسلم، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله:

باتت تشكي إليّ النفس مجهشة وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا

والعامل في إذ: قال أسلمت. وقيل: ولقد اصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله: في الدنيا، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله: ولقد اصطفيناه، وجعل العامل في الحال اصطفيناه، وقيل: محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة، يبقى قوله: قال أسلمت، لا ينتظم مع ما قبله، إلا إن قدر، يقال: فحذف حرف العطف، أو جعل جواباً لكلام مقدّر، أي ما كان جوابه؟ قال: أسلمت. وهل القول هنا على بابه، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب؟ أم هذا كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام؟ فجعلت الدلالة قولاً على سبيل المجاز، وإذا حمل على القول حقيقة، فاختلفوا متى قيل له ذلك. فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوّة، وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية، وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه، قال تعالى له أسلم. وقيل: كان بعد النبوّة، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة، إذ هو متحل به وقت الأمر، ويكون الإسلام هنا على بابه، والمعنى: على شريعة الإسلام. وقيل: الإسلام هنا غير المعروف، وأول على وجوه، فقال عطاء: معناه سلم نفسك. وقال الكلبي وابن كيسان: أخلص دينك. وقيل: اخشع واخضع لله. وقيل: اعمل بالجوارح، لأن الإيمان هو صفة القلب، والإسلام هو صفة الجوارح، فلما كان مؤمناً بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح، وفي قوله: أسلم، تقدير محذوف، أي أسلم لربك. وأجاب بأنه أسلم الرب العالمين، فتضمن أنه أسلم لربه، لأنه فرد من أفراد العموم، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص، لذلك عدل عن أن يقول: أسلمت لربي، ومن كان رباً للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ابتداء قصص إبراهيم عليه السلام. فذكر أولاً ابتلاءه بالكلمات، وإتمامه إياهن، واستحقاقه الإمامة بذلك على الناس كلهم في زمانه، وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم، وإيثاراً أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة، وإجابة الله له بأن عهده لا يناله ظالم، وفي طيه أن من كان عادلاً قد ينال ذلك. وكان في ابتداء قصص إبراهيم بنيه وذريته من بني إسرائيل وغيرهم، على فضيلته وخصوصيته عند الله تعالى، ليكون ذلك حاملاً لهم على اتباعه، فإنه إذا كان للشخص والد متصف بصفات الكمال، أوشك ولده أن يتبعه وأن يسلك منهجه، لما في الطبع من اتباع الآباء والاقتفاء لآثارهم، ألا ترى إلى قوله: { { إنا وجدنا آباءنا على أمة } [الزخرف: 23]؟.

ثم ذكر تعالى شرف البيت الحرام، وجعله مقصداً للناس يؤمون إليه، وملجأ يأمنون فيه، وأمره تعالى للناس بالاتخاذ من مقام إبراهيم مصلى، فحصل لهم الاقتداء بأن جعل مقامه مكان عبادة ومحل إجابة. ثم ذكر عهده لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت، حيث صار محل عبادة لله تعالى، ومكان عبادة الله تعالى يجب أن يكون مطهراً من الأرجاس والأنجاس. وأشار بتطهير المحل إلى تطهير الحال فيه ظاهراً وباطناً، وإلى تطهير ما يقع فيه من العبادة، بالإخلاص لله تعالى، فلا ينجس بشيء من الرياء، بل يطهر بإخلاصها لله تعالى. ثم أشار إلى من طهر البيت لأجله، وهم الطائفون والعاكفون والمصلون، فنبه على هذه العبادات التي تكون في البيت، ودل على أن البيت لا يصلح بشيء من أمور الدنيا، كالبيع والشراء وعمل الصنائع والحرف والخصومات، وأنه إنما هيـىء لوقوع العبادات فيه. ثم ذكر دعاء إبراهيم ربه بجعل هذا البيت محل أمن، ودعاءه لهم بالخصب والرزق، وتخصيص ذلك الدعاء بالمؤمنين، إذ الأمن والخصب هما سببان لعمارة هذا البيت وقصد الناس له.

ثم أخبر الله تعالى أن من كفر فتمتيعه قليل ومآله إلى النار، ليكون التخويف حاملاً على التقيد بالإيمان والانقياد للطاعات، وليدل على أن الرزق في الدنيا ليس مختصاً بمن آمن، بل رزق الله يشترك فيه البر والفاجر. ثم ذكر رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت، وما دعوا به إذ ذاك من طلب تقبل ما يفعلانه، والثبات على الإسلام، والدعاء بأن يكون من ذريتهما مسلمون، وإراءة المناسك والتوبة، وبعثة رسول من أمته يهديهم إلى طريق الإسلام بما يوحى إليه من عند الله، ويطهرهم من الجرائم والآثام. فدل ذلك على مشروعية الأدعية الصالحة عند الالتباس بالعبادات، وأفعال الطاعات، وأن ذلك الوقت مظنة إجابة، وفي ذلك جواز الدعاء للملتبس بالطاعة، ولمن أحب أن يدعو له. وختم كل دعاء بما يناسبه مما قبله. ولم يكن في هذا الدعاء شيء متعلق بأحوال الدنيا، إنما كان كله دعاء بما يتعلق بأمور الدين، فدل ذلك على عدم اكتراث إبراهيم وابنه إسماعيل بأحوال الدنيا حالة بناء هذا البيت ورفع قواعده.

وقد تقدّم دعاؤه بالأمن والخصب، لكن كان ذلك بعد أن كمل البيت وفرغ من التعبد ببنائه ورفع قواعده. ثم ذكر شرف إبراهيم وطواعيته لربه، واختصاصه في زمانه بالإمامة، وصيرورته مقتدى به. ذكر أنه لا يرغب عن طريقته إلا خاسر الصفقة، لأنه المصطفى في الدنيا، الصالح في الآخرة. وختم ذلك بانقياده لأمر الله تعالى، فأول قصته إتمامه ما كلفه الله به، وآخرها التسليم لله، والانقياد إليه صلى الله على نبينا وعليه وسلم.