التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
١٣٢
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
١٣٣
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
١٣٤
وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٣٥
قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
١٣٦
فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣٧
صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
١٣٨
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
١٣٩
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٠
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤١
-البقرة

البحر المحيط

الوصية: العهد، وصى بنيه: أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترناً بوعظ. ووصى وأوصى لغتان، إلا أنهم قالوا: إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير. يعقوب: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية، ويعقوب عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفاً. الحضور: الشهود، تقول منه: حضر بفتح العين، وفي المضارع: يحضر بضمهما، ويقال: حضر بكسر العين، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال: يحضر، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت: حضر يحضر بالضم، وهي ألفاظ شذت فيها العرب، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها، قالوا: نعم ينعم، وفضل يفضل، وحضر يحضر، ومت تموت، ودمت تدوم، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها. قالوا: ضللت بكسر العين، تضل بالكسر، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين.

إسحاق: اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر أسحق، ولو سميت به لكان مصروفاً، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبه ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسارلة. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضاً: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر: الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل. وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى. وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء، واستوفي النقل هنا. الحنف: لغة الميل، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى، قال الشاعر:

والله لولا حنف في رجله ما كان في صبيانكم من مثله

وقال ابن قتيبة: الحنف الاستقامة، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمي اللديغ سليماً. وقال القفال: الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات. وقال عمر:

حمدت الله حين هدى فؤادي إلى الإسلام والدين الحنيفي

وقال الزجاج: الحنيف: المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه، وأنشد:

ولكنا خلقنا إذ خلقنا حنيفاً ديننا عن كل دين

الأسباط: جمع سبط، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، وهم ولد يعقوب اثنا عشر، لكل واحد منهم أمة من الناس، وسيأتي ذكر أسمائهم. سموا بذلك من السبط: وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. ويقال: سبط عليه العطاء إذا تابعه. ويقال: هو مقلوب بسط، ومنه السباطة والساباط. ويقال للحسن والحسين: سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت، فيقال: سبط أبي عمر بن عبد البر، وسبط حسين بن منده، وسبط السلفي في أولاد بناتهم. وقيل: أصل الأسباط من السبط، وهو الشجر الملتف، والسبط: الجماعة الراجعون إلى أصل واحد. الشقاق: مصدر شاقه، كما تقول: ضارب ضراباً، وخالف خلافاً، ومعناه: المعاداة والمخالفة، وأصله من الشق، أي صار هذا في شق، وهذا في شق. والشق: الجانب، كما قال الشاعر:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحوّل

وقيل: هو من المشقة، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه. الكفاية: الأحساب. كفاني كذا: أي أحسبني، قال الشاعر:

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال

أي أغناني قليل من المال. الصبغة: فعلة من صبغ، كالجلسة من جلس، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ. والصبغ: المصبوغ به، والصبغ: المصدر، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان، وفعله على فعل بفتح العين، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق. وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن يوسف بن علي الفهري، عرف بالليلى، وهو شارح الفصيح، أنه ذكر فيه ضم الباء في المضارع والفتح والكسر.

{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين }: قرأ نافع وابن عامر: وأوصى، وقرأ الباقون: ووصى. قال ثعلب: أملى عليّ خلف بن هشام البزار، قال: اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً. كتب أهل المدينة: وأوصى، وسارعوا، يقول، الذين آمنوا من يرتدد، الذين اتخذوا، مسجداً خيراً منهما، فتوكل، وأن يظهر، بما كسبت أيديكم، ما تشتهيه الأنفس، فإن الله الغني، ولا يخاف عقباها. وكتب أهل العراق: ووصى، سارعوا، ويقول، من يرتد، والذين اتخذوا، خيراً منها، وتوكل، أن يظهر، فيما كسبت أيديكم، ما تشتهي، فإن الله هو، فلا يخاف. وبها متعلق بأوصى، والضمير عائد على الملة في قوله: { { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } [البقرة: 130]، وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكر المهدوي غيره، أو على الكلمة التي هي قوله: { { أسلمت لرب العالمين } [البقرة: 131]، ونظيره، وجعلها كلمة باقية في عقبه، حيث تقدم { أنني براء مما تعبدون }. وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال: هو أصوب، لأنه أقرب مذكور، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم. وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة، إذ الكلمة بعض الملة. ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة. وقيل: يعود على الكلمة المتأخرة، وهو قوله: { فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون }. وقيل: على كلمة الإخلاص وهي: لا إلٰه إلا الله، وإن لم يجر لها ذكر، فهي مشار إليها من حيث المعنى، إذ هي أعظم عمد الإسلام. وقيل: يعود على الوصية الدال عليها ووصى. وقيل: يعود على الطاعة.

بنيه: بنو إبراهيم، إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، ومدين: ومديان، ونقشان، وزمزان، ونشق، ونقش سورج، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية. هؤلاء الثمانية ولده لصلبه، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير. قرأ الجمهور: ويعقوب بالرفع، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على إبراهيم، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه، أي ووصى بها نافلته يعقوب، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. يا بني: من قرأ ويعقوب بالنصب، كان يا بني من مقولات إبراهيم، ومن رفع على العطف فكذلك، أو على الابتداء، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم، فعند البصريين هو على إضمار القول، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوصية في معنى القول، فكأنه قال: قال إبراهيم لبنيه يا بني، ونحوه قول الراجز:

رجلان من ضبة أخبرانا أنا رأينا رجلاً عريانا

بكسر الهمزة على إضمار القول، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين، وفي النداء لمن بحضرة المنادي. وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله، ولذلك صدر كلامه بقوله: { إن الله اصطفى لكم الدين }، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل. وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك: أن يا بني، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون. { إن الله اصطفى لكم الدين }، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان. والألف واللام في الدين للعهد، لأنهم كانوا قد عرفوه، وهو دين الإسلام.

{ فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون }: هذا استثناء من الأحوال، أي إلا على هذه الحالة، والمعنى: الثبوت على الإسلام، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام. إلا أن ذلك نهي عن الموت، ونظير ذلك في الأمر: مت وأنت شهيد، لا يكون أمراً بالموت، بل أمر بالشهادة، فكأنه قال: لتستشهد في سبيل الله، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة. وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه. فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها، كان متذكراً للموت دائماً، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً،. وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام، ونظير ذلك قولهم: لا أرينك هنا، لا ينهي نفسه عن الرؤية، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان، فيكون يراه، فكأنه قال: اذهب عن هذا المكان. ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.

وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف، منها: الوصية، ولا تكون إلا عند خوف الموت. ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين، حتى وصى به من كان ملتبساً به، إذ كان بنوه على دين الإسلام. ومنها اختصاصه ببنيه، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم. ومنها أنه عمم بنيه، ولم يخص أحداً منهم، كما "جاء في حديث النعمان بن بشير، حين نحله أبوه شيئاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ ورد نحله إياه وقال: لا أشهد على جور" . ومنها إطلاق الوصية، ولم يقيدها بزمان ولا مكان. ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين. ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم. قال المؤرخون: نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع، وقيل: ابن سنتين. وقيل: ابن أربع عشرة سنة، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وثلاثون سنة. وكان لإسماعيل، لما مات أبوه إبراهيم، تسع وثمانون سنة. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدّسة، ودفن عند أبيه إبراهيم. وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود تنقص من ذلك نحواً من أربعمائة سنة.

{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت }: نزلت في اليهود. قالوا: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ قال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك، فقال لهم: ما تعبدون من بعدي؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاماً لنبيه بما وصى به يعقوب، وتكذيباً لليهود. وأم هنا منقطعة، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار، والتقدير: بل أكنتم شهداء؟ فمعنى الإضراب: الانتقال من شيء إلى شيء، لا أن ذلك إبطال لما قبله. ومعنى الاستفهام هنا: التقريع والتوبيخ، وهو في معنى النفي، أي ما كنتم شهداء، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم. وقيل: أم هنا بمعنى: بل، والمعنى بل كنتم، أي كان أسلافكم، أو تنزلهم منزلة أسلافهم، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية. والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم. وقال ابن عطية: قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى، فتدّعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون. وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه. ومنه: { أم يقولون افتراه }. انتهى، وهذا أيضاً قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال: (المشهور) أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. (الثاني): أنها للإضراب فقط، بمعنى بل. (الثالث): بمعنى همزة الاستفهام فقط.

وقال الزمخشري: الخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه، ولو سمعوا ما قاله لبنيه، وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم: { أم كنتم شهداء }؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت }؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه: أنه جعل أم متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك، لا في شعر ولا غيره، فلا يجوز: أم زيد؟ وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد: أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف. إن الكلام في معنى: أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك: بلى وعمراً، جواباً لمن. قال: ألم تضرب زيداً؟ ونحو قوله تعالى: { { فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } [البقرة: 60]، أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو، نحو قوله:

فهـل لك أو مـن والـد لك قبلنـا

أراد: فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله:

فيـا عجبـاً حتى كليب تسبنـي

أي: يسبني الناس حتى كليب، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف، قال:

دعاني إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدرى أرشد طلابها

يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله: { { تقيكم الحر } [النحل: 81]، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت، وكنى بالموت عن مقدّماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئاً، ومنه: { { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } [إبراهيم: 17]، أي ويأتيه دواعيه وأسبابه، وقال الشاعر:

وقل لهم بادروا العذر والتمسوا قولاً يبرئكم إني أنا الموت

وفي قوله: حضر، كناية غريبة، إنه غائب لا بد أن يقدم، ولذلك يقال في الدعاء: واجعل الموت خير غائب ننتظره. وقرىء: حضر بكسر الضاد، وقد ذكرنا أن ذلك لغة، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء. { إذ قال لبنيه }، إذ: بدل من إذ في قوله: إذ حضر، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذ وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما.

{ ما تعبدون من بعدي } ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل، فقيل: هو سؤال عن صفة المعبود، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول: ما زيد، أفقيه أم شاعر؟ وقيل: سأل بما لأن المعبودات المتعارفة في ذلك الوقت كانت جمادات، كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل. وفهم عنه بنوه فأجابوه: بأنا لا نعبد شيئاً من هؤلاء. وقيل: استفهم بما عن المعبود تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرّق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه. وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون، أي العبادة المشروعة؟ وقال القفال: دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم. وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين، وهمتهم مصروفة إليهم. من بعدي: يريد من بعد موتي، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير، كما يخير الأنبياء، اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا القول.

{ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق }: هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلاً، فهو من البدل التفصيلي، ولو قرىء فيه بالقطع، لكان ذلك جائزاً. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار، أعني: وفيه دلالة على أن العم يطلق عليه أب. وقد جاء في العباس: هذا بقية آبائي، وردّوا عليّ أبي، وأنا ابن الذبيحين، على القول الشهير: أن الذبيح هو إسحاق، وفيه دلالة على أن الجدّ يسمى أباً لقوله: { وإله آبائك إبراهيم }، وإبراهيم جدّ ليعقوب. وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله: { { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } [يوسف: 38] على توريث الجدّ دون الإخوة، وإنزاله منزلة الأب في الميراث، عند فقد الأب، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث، إذا لم يكن أب، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، وهو قول أبي حنيفة. وقال زيد بن ثابت: هو بمنزلة الإخوة، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فيعطى الثلث، ولم ينقص منه شيئاً، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال علي: هو بمنزلة أحد الإخوة، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس، فيعطى السدس، ولم ينقص منه شيئاً، وبه قال ابن أبي ليلى، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وأما قراءة أبيّ فظاهرة، وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه، أو عطف بيان. وقيل: هو جمع سقطت منه النون للإضافة، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً، وأبون رفعاً، حكى ذلك سيبويه، وقال الشاعر:

فلما تبين أصواتنا بكين وفدّيننا بالأبينا

وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير. وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به، إذ كان يجوز أن يقال: قالوا إلهك، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال. وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظاً. وفي قوله: وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضاً من حيث اللفظ، وإنما كرر لفظ وإله، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره، إلا في الشعر، أو على مذهب من يرى ذلك، وهو عنده قليل. فلو كان المعطوف عليه ظاهراً، لكان حذف الجار، إذا كان اسماً، أولى من إثباته، لما يوهم إثباته من المغايرة. فإن حذفه يدل على الاتحاد. وبدأ أولاً بإضافة الإله إلى يعقوب، لأنه هو السائل، وقدم إبراهيم، لأنه الأصل، وقدم إسماعيل على إسحاق، لأنه أسنّ أو أفضل، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته، وهو في عمود نسبه. واقتصر على هؤلاء، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم، ولم يعم، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله.

{ إلهاً واحداً }: يجوز أن يكون بدلاً، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة، ويجوز أن يكون حالاً، ويكون حالاً موطئة نحو: رأيتك رجلاً صالحاً. فالمقصود إنما هو الوصف، وجيء باسم الذات توطئة للوصف. وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً. وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام. { ونحن له مسلمون }: أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد، لأن العبادة متجددة دائماً. ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائماً، وعنه تكون العبادة، فيكون قوله: { ونحن له مسلمون } أحد جملتي الجواب. فأجابوه بشيئين: أحدهما: الذي سأل عنه، والثاني: مؤكد لما أجابوا به، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال. وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد، والأول أبلغ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله: { نعبد }، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون. والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة، نحو قوله:

ماذا ولا عتب في المقدور رمت إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل

وقال:

ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً والحق يدفع ترهات الباطل

أو بين جزأي إسناد، نحو قوله:

وقد أدركتني والحوادث جمة أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

أو بين فعل شرط وجزائه، أو بين قسم وجوابه، أو بين منعوت ونعته، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا. وهذه الجملة التي هي قوله: { ونحن له مسلمون } ليست من هذا الباب، لأن قبلها كلاماً مستقلاً، وبعدها كلام مستقل، وهو قوله: { تلك أمّة قد خلت }. لا يقال: إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب، حكاه الله عنهم، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله: { ونحن له مسلمون } ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية: { ونحن له مسلمون } ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة، وهي قوله: كذلك كنا، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، مع صحة المعنى، كان أولى من حمله على الإضمار.

وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة، وقالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره هو عليهم، فدل على أن التقليد كاف، واستدل بها التعليمية، قالوا: لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام، فإنهم لم يقولوا: نعبد الإله الذي دل عليه العقل، بل قالوا: لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده، وهذا يدل على أن طريقة المعرفة التعلم. وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله. والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشىء عن تقليد، ولا تعليم، ولا أنه أيضاً ناشىء عن استدلال بالعقل، فبطل تمسكهم بالآية. وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي، لأنها لم تجيء في معرض ذلك، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه، وهو الله تعالى، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب، فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على طريقتك. وقد يقال: إن في قوله: { نعبد إلهك وإله آبائك } إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع، لأنه قد تقدّم في أول السورة: { { يا أيّها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21]، فمرادهم هنا بقولهم: { نعبد إلهك وإله آبائك } الإله الذي دل عليه وجود آبائك، وهذا إشارة إلى الاستدلال.

{ تلك أمّة قد خلت }، تلك: إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما. ومعنى خلت: ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء، وهو الأرض الذي لا أنيس به. والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية. والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمّة. { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم }: أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ، فلا ينفع أحداً كسب غيره. وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله: { ولكم ما كسبتم }. ويجوز أن تكون الجملة من قوله: { لها ما كسبت } استئنافاً، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقراً ثابتاً، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله: { ولكم ما كسبتم } على قوله: { لها ما كسبت }. ولا يصح أن يكون { ولكم ما كسبتم } عطفاً على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان. افتخروا بأسلافهم، فأخبروا أن أحداً لا ينفع أحداً، متقدّماً كان أو متأخراً. وروي: "يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم! يا فاطمة، لا أغني عنك من الله شيئاً" ! قال ابن عطية: وفي هذا الآية ردّ على الجبرية القائلين: لا اكتساب للعبد. انتهى.

وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين، وهي من المسائل المعضلة، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة. أحدها: قول الجبرية، وهو أن العبد مجبور على فعله، وأنه لا اختيار له في ذلك، بل هو ملجأ إليه، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه، إذا حركه محرك. والثاني: قول القدرية، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل. والثالث: قول المعتزلة، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه. والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله يخلق للعبد تمكيناً وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب. ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير: أحدها: قول أبي الحسن: أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور، بل القدرة والمقدور حصلاً بخلق الله، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله، وهو متعلق القدرة الحادثة، هو الكسب. والثاني: قول الباقلاني: أن ذات الفعل لم تحصل له صفة، كونه طاعة ومعصية، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة. والثالث: قول أبي إسحاق الإسفرايني: أن القدرتين، القديمة والحديثة، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما، فكان فعل العبد يوقع بإعانة، فهذا هو الكسب.

{ ولا تسألون عما كانوا يعملون }: جملة توكيدية لما قبلها، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير، وإذا كان كذلك، فلا يسأل أحد عن عمل أحد. فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها. { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام: 164]، كل شاة برجلها تناط. قالوا: وفي هذه الآية، وما قبلها، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله، إفحاماً له، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوّته بأمثال هذه الكلمات، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة. لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم. فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه، فقال: إن كان الدين بالاتباع، فالمتفق عليه أولى. وفي قوله: { لها ما كسبت } إلى آخره، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم. وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.

{ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا }: الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة، وعلى نصارى نجران، وفيهم نزلت. كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب، وأبيّ ياسر بن أخطب، والسيد، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فأخبر الله عنهم وردّ عليهم. وأو هنا للتفصيل، كأو في قوله: { { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [البقرة: 111]. والمعنى: وقالت اليهود كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فالمجموع قالوا للمجموع، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين. وقد تقدّم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله: { وقالوا لن يدخل الجنة }. { قل بل ملة إبراهيم }: قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. أما على المفعول، أي بل نتبع ملة، لأن معنى قوله: { كونوا هوداً أو نصارى }: اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وأما على أنه خبر كان، أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملة إبراهيم، كما قال عدي بن حاتم، إني من دين، أي من أهل دين، قاله الزجاح. وأما على أنه منصوب على الإعراء، أي الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد. وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي نقتدي ملة، أي بملة، وهو يحتمل أن يكون خطاباً للكفار، فيكون المضمر اتبعوا، أو كونوا. ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيقدر بنتبع، أو تكون، أو نقتدي على ما تقدم تقديره. وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: { بل ملة إبراهيم }، برفع ملة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي بل الهدى ملة، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته، أي أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا.

{ حنيفاً }: ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم، أي في حال حنيفيته، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري: كقولك رأيت وجه هند قائمة، وأنه منصوب بإضمار فعل، حكاه ابن عطية. وقال: لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفاً، وأنه منصوب على القطع، حكاه السجاوندي، وهو تخريج كوفي، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه، واختلاف الفراء والكسائي، فكان التقدير: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما نكره، لم يمكن اتباعه إياه، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة، فنحن لا نجيزه، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه، أو كالجزء، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا. وأما النصب على القطع، فقد ردّ هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف، وذكر حنيفاً ولم يؤنث لتأنيث ملة، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين، فكأنه قيل: نتبع دين إبراهيم حنيفاً. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال: قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة، وإن خالفها بالتذكير، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز: { ديناً قيماً ملة إبراهيم } [الأنعام: 161]؟ فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة، فالناصب له هو الناصب للملة، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالاً لازمة، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية. والحنيف: هو المائل عن الأديان كلها، قاله ابن عباس؛ أو المائل عما عليه العامّة، قاله الزجاج، أو المستقيم، قاله ابن قتيبة؛ أو الحاج، قاله ابن عباس أيضاً؛ وابن الحنفية، أو المتبع، قاله مجاهد؛ أو المخلص، قاله السدّي؛ أو المخالف للكل، قاله ابن بحر؛ أو المسلم، قاله الضحاك، قال: فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج، أو المختتن. أو الحنف: هو الاختتان، وإقامة المناسك، وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، عشرة أقوال متقاربة في المعنى. وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق، مستقيمي الطريقة حنفاء، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة، لما سنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، مما يقتدى به إلى قيام الساعة. وصارت الحنيفية علماً مميزاً بين المؤمن والكافر. وسمي بالحنيف: من اتبعه واستقام على هديه، وسمي المنكث على ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: يهودي ونصراني ومجوسي، وغير ذلك من ضروب النحل.

{ وما كان من المشركين }: أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثناً، ولا شمساً، ولا قمراً، ولا كوكباً، ولا شيئاً غير الله تعالى. وكان في قوله: { بل ملة إبراهيم } دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى، ولذلك أضرب ببل عنهما، فثبت أنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً. وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم، ثم كانت تشرك، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين. وقيل: في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم، وهو على الشرك، قاله الزمخشري. فإشراك اليهود بقولهم: عزير ابن الله، وإشراك النصارى بقولهم: { المسيح ابن الله }، وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان وغيرها.

{ قولوا آمنا بالله } الآية، خرج البخاري، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية، فإن كان حقاً لم تكذبوه وإن كان كذباً لم تصدّقوه" . والضمير في قوله: { قولوا }، عائد على الذين قالوا: { كونوا هوداً أو نصارى }. أمروا بأن يكونوا على الحق، ويصرحوا به. ويجوز أن يعود على المؤمنين، وهو أظهر. وارتبطت هذه الآية بما قبلها، لأنه لما ذكر في قوله: { بل ملة إبراهيم }، جواباً إلزامياً، وهو أنهم: وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد. هذا، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع ابراهيم، لأنهم، أعني الطائفتين المختلفتين، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم. والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه، إن كان الدين بالتقليد. فلما ذكر هنا جواباً إلزامياً، ذكر بعده برهاناً في هذه الآية، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات. وقد ظهرت على يد محمد صلى الله عليه وسلم، فوجب الإيمان بنبوّته. فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ، يوجب التناقض في الدليل، وهو ممتنع عقلاً.

{ وما أنزل إلينا }: إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين، فالمنزل إليهم هو القرآن، وصح نسبة إنزاله إليهم، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك، وتعدية أنزل بإلى، دليل على انتهاء المنزل إليهم. وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى، فالمنزل إلى اليهود: التوراة، والمنزل إلى النصارى: الإنجيل، ويلزم من الإيمان بهما، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. ويصح أن يراد بالمنزل إليهم: القرآن، لأنهم أمروا باتباعه، وبالإيمان به، وبمن جاء على يديه.

{ وما أنزل إلى إبراهيم }: الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف. قال: { { إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى } [الأعلى: 18 - 19]، وكرر الموصول، لأن المنزل إلينا، وهو القرآن، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم. فلو حذف الموصول، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى ابراهيم، قالوا: ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وعطفوا على إبراهيم، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم، كما أضيف في قوله: { وما أنزل إلينا }. والأسباط هم أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر سبطاً. قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة: وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم: يوسف النبي صلى الله عليه وسلم، صاحب مصر وعزيزها، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر، والأسباط سوى يوسف: كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء من سليمان عليه السلام النبي: مريم ابنة عمران، أمّ المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوي بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: والأسباط هم ولد يعقوب. وهم: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ورفالون، ويثجر، وذينة بنته، وأمّهم ليا، شم. خلف على أختها راحيل، فولدت له: يوسف، وبنيامين. وولد له من سريتين: داني، ونفتالي، وجاد، وآشر. انتهى كلامه، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء. وقيل: روبيل أكبر ولده. وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني: روبيل أصح وأثبت، يعني باللام، قال: وقبره في قرافة مصر، في لحف الجبل، في تربة أليسع عليهما السلام.

{ وما أوتي موسى وعيسى }: أي: وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات، وعيسى من الإنجيل والآيات. وموسى هنا: هو موسى بن عمران، كليم الله. وقال الحسين بن أحمد البيساني: وفي ولد ميشا بن يوسف، يعني الصديق: موسى بن ميشا بن يوسف. وزعم أهل التوراة أن الله نبأه، وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب، فشا في الأسباط الكهانة، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة، والله أعلم بصحة ذلك. انتهى كلامه، ونص على موسى وعيسى، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم، والكلام معهم، ولم يكرر الموصول في عيسى، لأن عيسى إنما جاء مصدقاً لما في التوراة، لم ينسخ منها إلا نزراً يسيراً. فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى، وإن كان قد خالف في نزر يسير. وجاء: { وما أنزل إلينا }، وجاء: { وما أوتي موسى وعيسى }، تنويعاً في الكلام وتصرفاً في ألفاظه، وإن كان المعنى واحداً، إذ لو كان كله بلفظ الإيتاء، أو بلفظ الإنزال، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ. ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب:

ونهب نفوس أهل النهب أولى بأهل النهب من نهب القماش

ولما ذكر في الإنزال أوّلاً خاصاً، عطف عليه جمعاً. كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصاً، عطف عليه جمعاً. ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف، أظهره في الإيتاء فقال: { وما أوتي النبيون من ربهم }، وهو تعميم بعد تخصيص. وظاهر قوله: { وما أوتي } يقتضي التعميم في الكتب والشرائع. وفي حديث لأبي سعيد الخدري، "قلت: يا رسول الله، كم أنزل الله؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، ثم أنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان" . وأما عدد الأنبياء، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه: أنهم مائة ألف نبي، ومائة وعشرون ألف نبي، كلهم من بني إسرائيل، إلا عشرين ألف نبي. وعدد الرسل: ثلاثمائة وثلاثة عشرة، كلهم من ولد يعقوب، إلا عشرين رسولاً، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين، نص على أسمائهم وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وأليسع، وإلياس، ويونس، وأيوب، وداود، وسليمان، وزكريا، وعزير، ويحيـى، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليه وسلم. وفي رواية عن ابن عباس: أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل، إلا عشرة: نوحاً، وهوداً، وشعيباً، وصالحاً، ولوطاً، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمداً، صلى الله عليه وسلم أجمعين. وابتدىء أولاً بالإيمان بالله، لأن ذلك أصل الشرائع، وقدم { ما أنزل إلينا }، وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده، لأنه أولى بالذكر، لأن الناس، بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً. وقدم { ما أنزل إلى إبراهيم } على { ما أوتي موسى وعيسى }، للتقدّم في الزمان، أو لأن المنزل على موسى، ومن ذكر معه، هو المنزل إلى إبراهيم، إذ هم داخلون تحت شريعته. { وما أوتي موسى }: ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان، وجوّزوا أن يكون: { وما أوتي موسى وعيسى } في موضع رفع بالابتداء، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي، فيكون في موضع رفع. والخبر في قوله { من ربهم }، أو لا نفرق، أو يكون: { وما أوتي موسى وعيسى } معطوفاً على المجرور قبله، { وما أوتي النبيون } رفع على الابتداء، { ومن ربهم } الخبر، أو لا نفرق هو الخبر. والظاهر أن من ربهم في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أوتي الأولى، وتكون الثانية توكيداً. ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله: { { وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } [آل عمران: 84]؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول، فتتعلق بمحذوف، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم..

{ لا نفرق بين أحد منهم }: ظاهره الاستئناف. والمعنى: أنا نؤمن بالجميع، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى. فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم، وكفروا بمحمد وعيسى، صلوات الله على الجميع. والنصارى آمنوا بالأنبياء، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات. وقيل: معناه لانشق عصاهم، كما يقال شق عصا المسلمين، إذا فارق جماعتهم. وأحد هنا، قيل: هو المستعمل في النفي، فأصوله: الهمزة والحاء والدال، وهو للعموم، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه، إذ هو اسم عام تحته أفراد، فيصح دخول بين عليه، كما تدخل على المجموع فتقول: المال بين الزيدين، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. وقيل: أحد هنا بمعنى: واحد، والهمزة بدل من الواو، إذ أصله: وحد، وحذف المعطوف لفهم السامع، والتقدير: بين أحد منهم وبين نظيره، فاختصر، أو بين أحد منهم والآخر، ويكون نظير قول الشاعر:

فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل

يريد: بين الخير وبيني، فحذف لدلالة المعنى عليه، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين، كما حذف المعطوف في قوله: { { سرابيل تقيكم الحرّ } [النحل: 81]. ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد، فحذف والبرد لفهم المعنى. ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية، والوجه الأول أرجح، لأنه لا حذف فيه.

{ ونحن له مسلمون }: هذا كله مندرج تحت قوله: { قولوا }. ولما ذكر أولاً الإيمان، وهو التصديق، وهو متعلق بالقلب، ختم بذكرالإسلام، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح. فجمع بين الإيمان والإسلام، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل. وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام حين سئل عنهما، وذلك في حديث جبريل عليه السلام. وقد فسروا قوله: { مسلمون } بأقوال متقاربة في المعنى، فقيل: خاضعون، وقيل: مطيعون، وقيل: مذعنون للعبودية، وقيل: مذعنون لأمره ونهيه عقلاً وفعلاً، وقيل: داخلون في حكم الإسلام، وقيل: منقادون، وقيل: مخلصون. وله متعلق بمسلمون، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله: { قولوا آمنا بالله } الآية، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال: «الله أمرني بهذا». فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا. وقالت النصارى: إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء، ولكنه ابن الله تعالى، فأنزل الله: { فإن آمنوا } الآية. والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله: { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى }. ويجوز أن يكون الخطاب خاصاً، والمراد به العموم، ويجوز أن يكون عائداً على كل كافر، فيفسره المعنى.

وقرأ الجمهور: { بمثل ما آمنتم به }. وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس: بما آمنتم به. وقرأ أُبيّ: بالذي آمنتم به، وقال ابن عباس: ليس لله مثل. وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله، وإطلاق على ما على الله تعالى. كما ذهب إليه بعضهم في قوله: { { والسماء وما بناها } [الشمس: 5]، يريد ومن بناها على قوله. وقراءة أبيّ ظاهرة، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون. وأما قراءة الجمهور، فخرجت الباء على الزيادة، والتقدير: إيماناً مثل إيمانكم، كما زيدت في قوله: { { وهزّي إليك بجذع النخلة } [مريم: 25].

وسـود المحـاجـر لا يقـرأن بالسـور

{ { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195]، وتكون ما مصدرية. وقيل: ليست بزائدة، وهي بمعنى على، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به، وكون الباء بمعنى على، قد قيل به، وممن قال به ابن مالك، قال ذلك في قوله تعالى: { { من إن تأمنه بقنطار } [آل عمران: 75]، أي على قنطار. وقيل: هي للاستعانة، كقولك: عملت بالقدوم، وكتبت بالقلم، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم، وذلك فرار من زيادة الباء، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً. والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف، التقدير: فإن آمنوا بالله، ويكون الضمير في به عائداً على ما عاد عليه قوله: { ونحن له }، وهو الله تعالى. وقيل: يعود على ما، وتكون إذ ذاك موصولة. وأما مثل، فقيل: زائدة، والتقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به، قالوا: كهي في قوله: { { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، أي ليس كهو شيء، وكقوله:

فصيروا مثل كعصف مأكول

وكقوله:

يا عاذلي دعني من عذلكا مثلي لا يقبل من مثلكا

وقيل: ليست بزائدة. والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم، أو متعلقة بالكتاب، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به. والمعنى: فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل، وعلى هذا التأويل، لا تكون الباء زائدة، بل هي مثلها في قوله: آمنت بالكتاب. وقالت فرقة: هذا من مجاز الكلام، يقول: هذا أمر لا يفعله مثلك، أي لا تفعله أنت. والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل، وزيادتها من حيث المعنى. وقال الزمخشري: بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد، لا مثل له، وهو دين الإسلام. { { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [آل عمران: 85]، فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له، كانوا مهتدين، فقيل: فإن آمنوا بكلمة الشك، على سبيل العرض، والتقدير: أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم، مساوياً له في الصحة والسداد.

{ فقد اهتدوا }: وفيه أن دينهم الذي هم عليه، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى، وما سواه باطل وضلال، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه، فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه. انتهى كلامه، وهو حسن. وجواب الشرط قوله: { فقد اهتدوا }، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله: { { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل } [فاطر: 4] لمعنى تكذيب الرسل قطعاً، واستقبال الهداية هنا، لأنها معلقة على مستقبل، ولم تكن واقعة قبل.

{ وإن تولوا }: أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان. { فإنما هم في شقاق }: أكد الجملة الواقعة شرطاً بأن، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفاً لهم، وهم مظروفون له. فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه. وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي، وهذا كقوله: { { إنا لنراك في ضلال مبين } [الأعراف: 60]، { { إنا لنراك في سفاهة } [الأعراف: 66]، هو أبلغ من قولك: زيد مشاق لعمرو، وزيد ضال، وبكر سفيه. والشقاق هنا: الخلاف، قاله ابن عباس، أو العداوة، أو الفراق، أو المنازعة، قاله زيد بن أسلم، أو المجادلة، أو الضلال والاختلاف، أو خلع الطاعة، قاله الكسائي؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة. وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى. وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين: إما من المشقة، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق، أي يقع بينهم خلاف. قال القاضي: ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه، وهذا وعيد لهم. انتهى.

{ فسيكفيكهم الله }: لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق، وهو العداوة العظيمة، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها، لأنه تعالى قد كفاه شرهم. وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله، كفايته ومنعه منهم، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه، وغلبته إياهم، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك، إذا لم يتوصل إلى ذلك، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه، وهذا نظير قوله تعالى: { والله يعصمك من الناس } [المائدة: 67]. وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع، والنفي في بني النضير، والجزية في نصارى نجران. وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف، والذوات ليست المكفية، فهو على حذف مضاف، أي فسيكفيك شقاقهم، والمكفى به محذوف، أي بمن يهديه الله من المؤمنين، أو بتفريق كلمة المشاقين، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية، كما بيناه.

{ وهو السميع العليم }، مناسبة هاتين الصفتين: أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختتم ذلك بهما، أي وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقادكم. ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن، قدّمت صفة السميع على العليم، ولأن العليم فاصلة أيضاً. وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد، لأن المعنى، وهو السميع العليم، فيجازيكم بما يصدر منكم.

{ صبغة الله }: أي دين الله، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه، كظهور أثر الصبغ على الثوب، ولأنه يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ في الثوب، أو فطرة الله، قاله مجاهد ومقاتل؛ أو خلقة الله، قاله الزجاج وأبو عبيد؛ أو سنة الله، قاله أبو عبيدة؛ أو الإسلام، قاله مجاهد أيضاً؛ أو جهة الله يعني القبلة، قاله ابن كيسان؛ أو حجة الله على عباده، قاله الأصم: أو الختان، لأنه يصبغ صاحبه بالدم. والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية، فيتطهر عندهم ويصير نصرانياً. استغنوا به عن الختان، فردّ الله عليهم بقوله: { صبغة الله }، أو الاغتسال للدّخول في الإسلام عوضاً عن ماء المعمودية، حكاه الماوردي؛ أو القربة إلى الله، حكاه ابن فارس في المجمل؛ أو التلقين، يقال: فلان يصبغ فلاناً في الشيء، أي يدخله فيه ويلزمه إياه، كما يجعل الصبغ لازماً للثوب. وهذه أقوال متقاربة، والأقرب منها هو الدين والملة، لأن قبله: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية. وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي، فكنى بالصبغة عنه، ومجازه ظهور الأثر، أو ملازمته لمن ينتحله. فهو كالصبغ في هذين الوصفين، كما قال. وكذلك الإيمان، حين تخالط بشاشة القلوب. والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء، واتصافه به صبغة. قال بعض شعراء ملوكهم:

وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ

وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة: أن عيسى حين قصد يحيـى بن زكريا فقال: جئت لأصبغ منك، وأغتسل في نهر الأردن. فلما خرج، نزل عليه روح القدس، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم، تشبيهاً بعيسى، ويقولون: الآن صار نصرانياً حقاً. وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ. ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم: المعمودية، بالدال، ويقال: المعمورية بالراء. قال: ويسمون ذلك الفعل التغميس، ومنهم من يسميه الصبغ، فردّ الله ذلك بقوله: { صبغة الله }. وقال الراغب: الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة. وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان، إذا اعتبرت، جرت مجرى الصبغة في المصبوغ، ولما كانت النصارى، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون: نصرناه، فقال: إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله.

وقرأ الجمهور: صبغة الله بالنصب، ومن قرأ برفع ملة، قرأ برفع صبغة، قاله الطبري. وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب، فوجه على أوجه، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: { قولوا آمنا بالله }. وقيل: عن قوله: { ونحن له مسلمون }. وقيل: عن قوله: { فقد اهتدوا } وقيل: هو نصب على الإغراء، أي الزموا صبغة الله. وقيل: بدل من قوله: { ملة إبراهيم }، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله: { ونحن له عابدون }، إلا إن قدر هناك قول، وهو إضمار، لا حاجة تدعو إليه، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل، فهو بعيد، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: { قولوا آمنا }، فإن كان الأمر للمؤمنين، كان المعنى: صبغنا الله بالإيمان صبغة، ولم يصبغ صبغتكم. وإن كان الأمر لليهود والنصارى، فالمعنى: صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا. ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله: { { صنع الله الذي أتقن كل شيء } [النمل: 88]، إذ قبله: { { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } [النمل: 88]، معناه: صنع الله ذلك صنعه، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة، كما تقول لرجل يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، يريد رجلاً يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع، فذلك خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك الإيمان صبغة الله.

{ ومن أحسن من الله صبغة }: هذا استفهام ومعناه: النفي، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة. وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن، أو يراد التفضيل، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسناً، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء. وانتصاب صبغة هنا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ، والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين، لا بين الصابغين.

{ ونحن له عابدون }: متصل بقوله: { آمنا بالله }، ومعطوف عليه. قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة، أو نصب على الإغراء، بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه. وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدر مؤكد، هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد، لأن الإغراء، إذ كان بالظرف والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله. وتقدم الكلام على العبادة في قوله: { { إياك نعبد } [الفاتحة: 5]، وأما هنا فقيل: عابدون موحدون، ومنه: { { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]، أي ليوحدون. وقيل: مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله. وقيل: خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم، غير مستكبرين، وهذه أقوال متقاربة.

{ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم }: سبب النزول، قيل: إن اليهود والنصارى قالوا: يا محمد! إن الأنبياء كانوا منا، وعلى ديننا، ولم تكن من العرب، ولو كنت نبياً، لكنت منا وعلى ديننا. وقيل: حاجوا المسلمين فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وأصحاب الكتاب الأول، وقبلتنا أقدم، فنحن أولى بالله منكم، فأنزلت. قرأ الجمهور: أتحاجوننا بنونين، إحداهما نون الرفع، والأخرى الضمير؟ وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، والأعمش، وابن محيصن: بإدغام النون في النون، وأجاز بعضهم حذف النون. أما قراءة الجمهور فظاهرة، وأما قراءة زيد ومن ذكر معه، فوجهها أنه لما التقى مثلان، وكان قبل الأول حرف مدّ ولين، جاز الإدغام كقولك: هذه دار راشد، لأن المد يقوم مقام الحركة في نحو: جعل لك. وأما جواز حذف النون الأولى، فوجهه من أجاز ذلك على قراءة من قرأ: فبم تبشرون، بكسر النون، وأنشدوا:

تراه كالثغام يعل مسكاً يسوء الفاليات إذا قليني

يريد: فلينني. والخطاب بقوله: قل للرسول، أو للسامع، والهمزة للاستفهام مصحوباً بالإنكار عليهم، والواو ضمير اليهود والنصارى. وقيل: مشركو العرب، إذ قالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. وقيل: ضمير اليهود والنصارى والمشركين. والمحاجة هنا: المجادلة. والمعنى: أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترونكم أحق بالنبوّ منا؟ { وهو ربنا وربكم }: جملة حالية، يعني أنه مالكهم كلهم، فهم مشتركون في العبودية، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة. والمعنى: أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك. وقيل المعنى: أتجادلوننا في دين الله، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان، وكتابكم أفضل الكتب؟ والظاهر إنكار المجادلة في الله، حيث زعمت النصارى أن الله هو المسيح، وحيث زعم بعضهم أن الله ثالث ثلاثة، وحيث زعمت اليهود أن الله له ولد، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص، تعالى الله عن ذلك، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك، والرب واحد لهم، فوجب أن يكون الاعتقاد فيه واحداً، وهو أن تثبت صفاته العلا، وينزه عن الحدوث والنقص.

{ ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم }، المعنى: ولنا جزاء أعمالنا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. والمعنى: أن الرب واحد، وهو المجازي على الأعمال، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة. { ونحن له مخلصون }: ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود، لأن من عبد موصوفاً بصفات الحدوث والنقص، فقد أشرك مع الله إلهاً آخر. والمعنى: أنا لم نشب عقائدنا وأفعالنا بشيء من الشرك، كما ادعت اليهود في العجل، والنصارى في عيسى. وهذه الجملة من باب التعريض بالذم، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك، ويناسب أن يكون استطراداً، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحاً لفاعله وذماً لتاركه، نحو قوله:

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول

وهي منبهة على أن من أخلص لله، كان حقيقاً أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص. فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي" . وقال سعيد بن جبير: الإخلاص: أن لا يشرك في دينه، ولا يرائي في عمله أحداً. وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال ابن معاذ: تمييز العمل من الذنوب، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم. وقال البوشنجي: هو معنى لا يكتبه الملكان، ولا يفسده الشيطان، ولا يطلع عليه الإنسان، أي لا يطلع عليه إلا الله. وقال رويم: هو ارتفاع عملك عن الرؤية. وقال حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقال أبو يعقوب المكفوف: أن يكتم العبد حسناته، كما يكتم سيئاته. وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل. وقال أبو سليمان الداراني: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه. وهذا القول الذي أمر به صلى الله عليه وسلم أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة، ولا هي مما ينبغي أن تكون. وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم، وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك، وأن تخلصوا كما أخلصنا، فنكون سواء في ذلك.

{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى }: قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: أم تقولون بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. فأما قراءة التاء، فيحتمل أم فيه وجهين. أحدهما: أن تكون فيه أم متصلة، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجة في الله، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه، أنهم كانوا يهوداً ونصارى، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ، لأن كلاً من المستفهم عنه ليس بصحيح. الوجه الثاني: أن تكون أم فيه منقطعة، فتقدّر ببل والهمزة، التقدير: بل أتقولون، فأضرب عن الجملة السابقة، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة، على سبيل الإنكار أيضاً، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه، ليست بصحيحة، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى: { { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } [آل عمران: 67]، وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان، فهو باطل. وأما قراءة الياء، فالظاهر أن أم فيها منقطعة. وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن بعض النحاة: أنها ليست بمنقطعة، لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى: أيكون هذا أم هذا؟ وقال ابن عطية: هذا المثال يعني: أتقوم أم يقوم عمرو؟ غير جيد، لأن القائل فيه واحد، والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين، والمخاطب اثنان غير أن، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي، كان معنى قل أتحاجوننا، أيحاجون يا محمد، أم يقولون؟ انتهى. ومعنى قوله: لأن القائل فيه واحد، يعني في المثال الذي هو: أيقوم أم يقوم عمرو؟ فالناطق بهاتين الجملتين هو واحد، وقوله والمخاطب واحد، يعني الذي خوطب بهذا الكلام، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو وقوله. والقول في الآية من اثنين، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك، وأتقولون بالتاء من قول الله تعالى. وقوله والمخاطب اثنان غير أن، أما الأول فقوله أتحاجوننا، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله: أم يقولون. وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء، لا تكون إلا منقطعة. انتهى. ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء، ويكون ذلك من الالتفات، إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين. والأحسن أن تكون أم في القراءتين معاً منقطعة، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: { { قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } [آل عمران: 65]. الآيات وإذا جعلناها متصلة، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك، إذ وقعا معاً. والقول في أو في قول: { هوداً أو نصارى }، قد تقدّم في قوله: { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى }. وقوله: { كونوا هوداً أو نصارى }، وأنها للتفضيل، أي قالت اليهود: هم يهود، وقالت النصارى: هم نصارى.

{ قل أأنتم أعلم أم الله }: القول في القراءات في أأنتم، كهو في قوله: { { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [البقرة: 6]، وقد توسط هنا المسؤول عنه، وهو أحسن من تقدمه وتأخره، إذ يجوز في العربية أن يقول: أأعلم أنتم أم الله؟ ويجوز: أأنتم أم الله أعلم؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل: أهم أزيد علماً أم الله؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء، وعلى تقدير أن يظن بهم علم، وهذا نظير قول حسان:

فشــركمــا لخيــركمــا الفــداء

وقد علم أن الذي هو خير كله، هو الرسول عليه السلام، وأن الذي هو شر كله، هو هاجيه. وفي هذا ردّ على اليهود والنصارى، لأن الله قد أخبر بقوله: { { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } [آل عمران: 67]، ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن اليهودية والنصرانية. وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه، لأن اتباع أحبارهم ربما توهموا، أو ظنوا، أن أولئك كانوا هوداً أو نصارى لسماعهم ذلك منهم، فيكون ذلك ردًّا من الله عليهم، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء، وردّ عليهم بقوله: أأنتم أعلم أم الله، لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول: الله أعلم، فكان ذلك أقطع للنزاع.

{ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله }: وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية، لكنهم كتموا ذلك. وقد تقدّم الكلام على هذا الاستفهام، وأنه يراد به النفي، فالمعنى: لا أحد أظلم ممن كتم. وتقدّم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله: { { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [البقرة: 114]، والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود، وقيل: المنافقون تابعوا اليهود على الكتم. والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين، قاله الحسن، ومجاهد، والربيع، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، والأمر بتصديقه، قاله قتادة، وابن زيد؛ أو الإسلام، وهم يعلمون أنه الحق. والقول الأول أشبه بسياق الآية.

من الله: يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم، ويكون على حذف مضاف، أي كتم من عباد الله شهادة عنده، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق. ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف، إذ الظرف في موضع الصفة، والتقدير: شهادة كائنة عنده من الله، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة، وحصلت عنده من قبل الله، واستودعه إياها، وهو قوله { { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [آل عمران: 187] الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه: فمن على هذا متعلقة بعنده، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز. وقال الزمخشري: أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ومن في قوله: شهادة من الله، مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان، إذا شهدت له، ومثله: { { براءة من الله ورسوله } [التوبة: 1]. انتهى. فظاهر كلامه: أن من الله في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه ثالث في العامل في من. والفرق بينه وبين ما قبله: أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد، وفي هذا الوجه اثنان، وكان جعل من معمولاً للعامل في الظرف، أو في موضع الصفة لشهادة، أحسن من تعلق من بكتم، لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها. وعلى التعلق بكتم، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية، لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم، قال الزمخشري: ويحتمل معنيين: أحدهما: أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة، وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة، لم يكن أحد أظلم منا، فلا نكتمها، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته. انتهى كلامه، والمعنى الأول هو الظاهر، لأن الآية إنما تقدّمها الإنكار، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه. فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب، لا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، لأنهم مقرون بما أخبر الله به، وعالمون بذلك العلم اليقين، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك.

وذكر في (ريّ الظمآن): أن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: ومن أظلم ممن كتم شهادة حصلت له؟ كقولك: ومن أظلم من زيد؟ من جملة الكاتمين للشهادة. والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً ونصارى. ثم إن الله كتم هذه الشهادة، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب، علمنا أن الأمر ليس كذلك. انتهى. وهذا الوجه متكلف جدًّا من حيث التركيب، ومن حيث المدلول. أما من حيث التركيب، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر. وأيضاً، فيبقى قوله: ممن كتم، متعلق: إما بأظلم، فيكون ذلك على طريقة البدلية، ويكون إذ ذاك بدل عام من خاص، وليس هذا النوع بثابت من لسان العرب، على قول الجمهور، وإن كان بعضهم قد زعم أنه وجد في لسان العرب بدل كل من بعض. وقد تأوّل الجمهور ما أدّى ظاهره إلى ثبوت ذلك، وجعلوه من وضع العام موضع الخاص، لندور ما ورد من ذلك، أو يكون من متعلقه بمحذوف، فيكون في موضع الحال، أي كائناً من الكاتمين الشهادة. وأما من حيث المدلول، فإن ثبوت الأظلمية لمن جرّ بمن يكون على تقدير: أي إن كتمها، فلا أحد أظلم منه. وهذا كله معنى لا يليق بالله تعالى، وينزه كتاب الله عن ذلك.

{ وما الله بغافل عما تعملون }: تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة عند قوله: { { وما الله بغافل عما تعملون، أفتطمعون } [البقرة: 74 - 75] ولا يأتي إلا عقب ارتكاب معصية، فتجيء متضمنة وعيداً، ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى، بل هو محصل لأعمالهم، مجاز عليها. { تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون }: تقدّم الكلام على شرح هذه الجمل، وتضمنت معنى التخويف والتهديد، وليس ذلك بتكرار، لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره. وإذا كان كذلك، فقد اختلف السياق، فلا تكرار. بيان ذلك أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء، فتلك إشارة إليهم، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى، فالمشار إليه هم. فقد اختلف المخبر عنه والسياق، والمعنى: أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدّمهم، يجازون بما كسبوا، فأنتم أحق بذلك. وقيل: الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن ذكر معه، واستبعد أن يراد بذلك أسلاف اليهود والنصارى، لأنه لم يجر لهم ذكر مصرّح بهم، وإذا كانت الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن معه، فالتكرار حسن لاختلاف الأقوال والسياق.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله تعالى، حتى جعلوا ذلك وصية يوصون بها واحداً بعد واحد. فأخبر تعالى عن إبراهيم أنه أوصى بملته الحنيفية بنيه، وأن يعقوب أوصى بذلك، وقدّم بين يدي وصيته اختيار الله لهم هذا الدين، ليسهل عليهم اتباع ما اختاره الله لهم، ويحضهم على ذلك، وأمرهم أنهم لا يموتون إلا عليه، لأن الأعمال بخواتيمها. ثم ذكر سؤال يعقوب لبنيه عما يعبدون بعد موته، فأجابوه بما قرّت به عينه من موافقته وموافقة آبائه الأنبياء من عبادة الله تعالى وحده، والانقياد لأحكامه. وحكمة هذا السؤال أنه لما وصاهم بالحنيفية، استفسرهم عما تكن صدورهم، وهل يقبلون الوصية؟ فأجابوه بقبولها وبموافقة ما أحبه منهم، ليسكن بذلك جأشه، ويعلم أنه قد خلف من يقوم مقامه في الدعاء إلى الله تعالى. وصدر سؤال يعقوب بتقريع اليهود والنصارى بأنهم ما كانوا شهدوا وصية يعقوب، إذ فاجأه مقدّمات الموت، فدعواهم اليهودية والنصرانية على إبراهيم ويعقوب وبنيهم باطلة، إذ لم يحضروا وقت الوصية، ولم تنبئهم بذلك توراتهم ولا إنجيلهم، فبطل قولهم، إذ لم يتحصل لا عن عيان ولا عن نقل، ولا ذلك من الأشياء التي يستدل عليها بالعقل.

ثم أخبر تعالى أن تلك الأمة قد مضت لسبيلها، وأنها رهينة بما كسبت، كما أنكم مرهونون بأعمالكم، وأنكم لا تسألون عنهم. ثم ذكر تعالى ما هم عليه من دعوى الباطل. والدعاء إليه، وزعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية. ثم أضرب عن كلامهم، وأخذ في اتباع ملة إبراهيم الحنيفية المباينة لليهودية والنصرانية والوثنية. ثم أمرهم بأن يفصحوا بأنهم آمنوا بما أنزل إليهم وإلى إبراهيم ومن ذكر معه، فإن الإيمان بذلك هو الدين الحنيف، وأنهم منقادون لله اعتقاداً وأفعالاً. ثم أخبر أن اليهود والنصارى، إن وافقوكم على ذلك الإيمان، فقد حصلت الهداية لهم، ورتب الهداية على ذلك الإيمان، فنبه بذلك على فساد ترتيب الهداية على اليهودية والنصرانية في قوله: { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا }.

ثم أخبر تعالى أنهم إن تولوا فهم الأعداء المشاقون لك، وأنك لا تبالي بشقاقهم، لأن الله تعالى هو كافيك أمرهم، ومن كان الله كافيه فهو الغالب، ففي ذلك إشارة إلى ظهوره عليهم. ثم ذكر أن صبغة الملة الحنيفية هي صبغة الله، وإذا كانت صبغة الله، فلا صبغة أحسن منها، وأن تأثير هذه الصبغة هو ظهورها عليهم بعبادة الله، تعالى، فقال: { ونحن له عابدون }. ثم استفهمهم أيضاً على طريق التوبيخ والتقريع عن مجادلتهم في الله ولا يحسن النزاع فيه، لأن الله هو ربنا كلنا، فالذي يقتضيه العقل أنه لا يجادل فيه. ثم ذكر أنه رب الجميع، وأشار إلى أنه يجازي الجميع بقوله: { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم }. ثم ذكر ما انفردوا به من الإخلاص له، لأن اليهود والنصارى غير مخلصين له في العبادة. ثم استفهمهم أيضاً على جهة التوبيخ والتقريع، عن مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه، من أنهم كانوا يهوداً ونصارى، وأن دأبهم المجادلة بغير حق، فتارة في الله وتارة في أنبياء الله. ثم بين أنهم لا علم عندهم بل الله هو أعلم به. ثم بين أن تلك المقالة لم تكن عن دليل ولا شبهة، بل مجرد عناد، وأنهم كاتمون للحق، دافعون له، فقال ما معناه: لا أحد أظلم من كاتم شهادة استودعه الله إياها، والمعنى: لا أحد أظلم منكم في المجادلة في الله، وفي نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه، إذ عندهم الشهادة من الله بأحوالهم. ثم هدّدهم بأن الله تعالى لا يغفل عما يعملون.

ثم ختم ذلك بأن تلك أمّة قد خلت منفردة بعملها، كما أنتم كذلك، وأنكم غير مسؤولين عما عملوه، وجاءت هذه الجمل من ابتداء ذكر إبراهيم إلى انتهاء الكلام فيه، على اختلاف معانيه وتعدّد مبانيه، كأنها جملة واحدة، في حسن مساقها ونظم اتساقها، مرتقية في الفصاحة إلى ذروة الإحسان، مفصحة أن بلاغتها خارجة عن طبع الإنسان، مذكرة قوله تعالى: { { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } [الإسراء: 88]. جعلنا الله ممن هدى إلى عمل به وفهم، ووقي من تدبره أوفر سهم، ووقى في تفكره من خطأ ووهم.