التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
١٨٦
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٨٧
وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٨
-البقرة

البحر المحيط

الصيام والصوم مصدران لصامَ، والعرب تسمي كل ممسك صائماً، ومنه الصوم في الكلام { إني نذرت للرحمن صوماً } [مريم: 26] أي سكوتاً في الكلام، وصامت الريح: أمسكت عن الهبوب، والدابة: أمسكت عن الأكل والجري، وقال النابغة الذبياني:

خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي: ممسكة عن الجري. وتسمى الدابة التي لا تدور: الصائمة، قال الراجز.

والبكــرات شــرهــن الصــائمــة

وقالوا: صام النهار: ثبت حره في وقت الظهيرة واشتد، وقال.

ذمـول إذا صـام النهـار وهجـرا

وقال:

حتى إذا صام النهار واعتدل ومال للشمس لعابٌ فنزل

ومصام النجوم، إمساكها عن السير ومنه.

كأن الثريـا عـلقت في مصامهـا

فهذا مدلول الصوم من اللغة. وأما الحقيقة الشرعية فهو: إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص ويبين في الفقه. الطاقة، والطوق: القدرة والاستطاعة، ويقال: طاق وأطاق كذا، أي: استطاعه وقدر عليه، قال أبو ذئب.

فقلت له احمل فوق طوقك إنها مطبعة من يأتها لا يضيرها

الشهر مصدر: شهر الشيء يشهره، أظهره ومنه الشهرة، وبه سمي الشهر، وهو: المدة الزمانية التي يكون مبدأ الهلال فيها خافياً إلى أن يستسر، ثم يطلع خافياً. سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات وغيرها من أمورهم وقال الزجاج: الشهر الهلال. قال:

والشهــر مــثل قــلامــة الظفــر

سمي بذلك لبيانه، وقيل: سمي الشهر شهراً باسم الهلال إذا أهل سمي شهراً، وتقول العرب: رأيت الشهر أي: هلاله. قال ذو الرمة (شعر).

ترى الشهر قبل الناس وهو نحيل

ويقال: أشهرنا، أي:أتى علينا شهر، وقال الفراء: لم أسمع منه فعلاً إلاَّ هذا، وقال الثعلبي: يقال شَهَرَ الهلال إذا طلع، ويجمع الشهر قلة على: أفعل، وكثرة على: فعول، وهما مقيسان فيه.

رمضان علم على شهر الصوم، وهو علم جنس، ويجمع على: رمضانات وأرمضة، وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى، وهو: شدة الحرة، كما سمي الشهر ربيعاً من مدّة الربيع، وجمادى من مدّة الجمود، ويقال: رمض الصائم يرمض: احترق جوفه من شدة العطش، ورمضت الفِصال: أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدّة الحر، وانزوت إلى ظلّ أمهاتها، ويقال: أرمضته الرمضاء: أحرقته، وأرمضني الأمر.

وقيل: سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، وقيل: لأن القلوب تحترمَنَّ الموعظة فيه والفكرة في أمر الآخرة، وقيل: من رمضت النصل: رققته بين حجرين ليرق، ومنه: نصل رميض ومرموض، عن ابن السكيت. وكانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرام، وكان هذا الشهر في الجاهلية يسمى: ناتقاً أنشد المفضل.

وفي ناتق أحلت لدى حرمة الوغى وولت على الأدبار فرسان خثعما

وقال الزمخشري: الرمضان، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. انتهى. ويحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلاناً ليس مصدر فعل اللازم، بل إن جاء فيه ذلك كان شاذاً، والأولى أن يكون مرتجلاً لا منقولاً.

وقيل: هو مشتق من الرمض، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار.

القرآن: مصدر قرأ قرآنا. قال حسان، رضي الله عنه.

محوا بإسمك عنوان السجود به يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً

أي: وقراءة وأطلق على ما بين الدفتين من كلام الله عزّ وجلّ، وصار علماً على ذلك، وهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل، ومعنى: قرآن، بالهمز: الجمع لأنه يجمع السور، كما قيل في القرء، وهو: إجماع الدّم في الرحم أولاً، لأن القارىء يلقيه عند القراءة من قول العرب: ما قرأت هذه الناقة سلا قط: أي: ما رمت به، ومن لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل والحذف، أو تكون النون أصلية من: قرنت الشيء إلى الشيء: ضممته، لأن ما فيه من السور والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض. أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع كذلك، أو ما فيه من الدلائل ومن القرائن، لأن آياته يصدّق بعضها بعضاً، ومن زعم من: قريت الماء في الحوض، أي: جمعته، فقوله فاسد لاختلاف المادتين.

السفر: مأخوذ من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها، والمصدر السفور. قال الشاعر.

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت فقد رابني منها الغداة سفورها

وتقول: سفر الرجل ألقى عمامته، وأسفر الوجه، والصبح أضاء. الأزهري سمي مسافراً لكشف قناع الكنّ عن وجهه، وبروزه للأرض الفضاء، والسفْر، بسكون الفاء: المسافرون، وهو اسم جمع: كالصحْب والركْب، والسِفر من الكتب: واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة.

اليسر: السهولة، يسَّر: سهّل، ويسُر: سهُل، وأيسر: استغنى، ويسر، من الميسر، وهو: قمار، معروف. وقال علقمة:.

لا ييسرون بخيل قد يسرت بها وكل ما يسر الأقوام مغروم

وسميت اليد اليسرى تفاؤلاً، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى.

العسر: الصعوبة والضيق، ومنه أعسر اعساراً، وذو عسرة، أي: ضيق.

الإكمال: الإتمام.

والإجابة: قد يراد بها السماع، وفي الحديث أن أعرابياً قال: يا محمد. قال: قد أجبتك. وقالوا: دعاء من لا يجيب، أي: من لا يسمع، كما أن السماع قد يراد به الإجابة، ومنه: سمع الله لمن حمده. وأنشد ابن الاعرابي حيث قال:

دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول

وجهة المجاز بينهما ظاهرة لأن الإجابة مترتبة على السماع، والإجابة حقيقة إبلاغ السائل ما دعا به، وأجاب واستجاب بمعنى، وألفه منقلبة عن واو، يقال: جاب يجوب: قطع، فكأن المجيب اقتطع للسائل ما سأل أن يعطاه، ويقال: أجابت السماء بالمطر، وأجابت الأرض بالنبات، كأن كلاَّ منهما سأل صاحبه فأجابه بما سأل.

قال زهير.

وغيث من الوسمي حلو بلاغه أجابت روابيه النجا وهواطل

الرشد. ضد الغي، يقال: رشد بالفتح، رشداً، ورشِد بالكسر رِشداً، وأرشدت فلاناً: هديته، وطريق أرشد، أي: قاصد، والمراشد: مقاصد الطريق، وهو لرشدة، أي: هو لحلال، وهو خلاف هو لزنية، وأم راشد: المفازة، وبنو رشدان: بطن من العرب، وبنو راشد قبيلة كبيرة من البربر.

الرفث: مصدر رفث، ويقال: أرفث: تكلم بالفحش. قال العجاج:

وربّ أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وقال ابن عباس، والزجاج، وغيرهما: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وأنشد ابن عباس:

وهنّ يمشين بنا هميساً إن تصدق الطيرننك لميسا

فقيل له: أترفث وأنت محرم، فقال: إنما الرفث عند النساء، وفي الحديث: "من حج هذا البنية فلم يرفث ولم يفسق خرج منها كيوم ولدته أمه" . وقيل: الرفث: الجماع، واستدل على ذلك بقول الشاعر:

ويرين من أنس الحديث زوانيا ولهنّ عن رفث الرجال نفار

وبقول الآخر.

فباتوا يرفثون وباتِ منّا رجال في سلاحهم ركوبا

وبقول الآخر:

فظلنا هناك في نعمة وكل اللذاذة غير الرفث

ولا دلالة في ذلك، إذ يحتمل أن يكون أراد المقدمات: كالقبلة والنظرة والملاعبة.

أختان: من الخيانة، يقال: خان خوناً وخيانةً، إذا لم يف، وذلك ضد الأمانة، وتخونت الشيء: نقصته، ومنه الخيانة، وهو ينقص المؤتمن. وقال زهير:

بارزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء

وتخوّنه وتخوّله: تعهده.

الخيط: معروف، ويجمع على فعول وهو فيه مقيس، أعني في فعل الاسم الياء العين نحو: بيت وبيوت، وجيب وجيوب، وغيب وغيوب، وعين وعيون، والخيط، بكسر الخاء: الجماعة من النعام، قال الشاعر:

فقال ألا هذا صوار وعانة وخِيطُ نعام يرتقي متفرق

البياض والسوداء: لونان معروفان، يقال منهما: بيض وسود. فهو أبيض وأسود، ولم يعل العين بالنقل والقلب لأنها في معنى ما يصح وهما: أبيض وأسود.

العكوف: الإقامة، عكف بالمكان: أقام به، قال تعالى: { يعكفون على أصنام لهم } [الأعراف: 138] وقال الفرزدق يصف الجفان:

ترى حولهنّ المعتفين كأنهم على صنم في الجاهلية عكّف

وقال الطرماح:

باتت بنات الليل حولي عكّفا عكوف البواكي بينهن صريع

وفي الشرع عبارة عن عكوف مخصوف، وقد بين في كتب الفقه.

الحد، قال الليث: حدّ الشيء: منتهاه ومنقطعه، والمراد بحدود الله مقدّراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.

الإدلاء: الإرسال للدلو، اشتق منه فعل، فقالوا: أدلى دلوه، أي: أرسلها ليملأها، وقيل: أدلى فلان بماله إلى الحاكم: رفعه. قال:

وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت بباب دارك أدلوها بأقوامِ

ويقال: أدلى فلان بحجته: قام بها، وتدلى من كذا أي: هبط. قال:

كتيس الظباء الأعفر انضرجت له عقاب تدلت من شماريخ ثهلان

{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام }: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى: أولاً: بكتب القصاص وهو: إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانياً بكتب الوصية وهو: إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثاً إلى كتب الصيام، وهو: منهك للبدن، مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة: الإيمان، والصلاة، والزكاة، فأتى بهذا الركن الرابع، وهو: الصوم.

وبناء { كُتب } للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل، كما قال تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة } [الأنعام: 54] { { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21] { { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [المجادلة: 22] وهذا من لطيف علم البيان.

أما بناء الفعل للفاعل في قوله: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [المائدة: 54] فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد، وهو: حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك، نحو: ضُرب زيد بسوط، لأن ما أحتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي، فتعلم نفسه أولاً أن المنادى هو المكلف، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به.

والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق.

وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو فعل الواوي العين، الصحيح الآخر، والبناآن هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفؤور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور.

{ كما كتب } الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتباً مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.

وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبهاً الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم.

وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوماً كما، وهذا فيه بُعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلاَّ على تأويل بعيد.

وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلاَّ النكرات، فهي بمنزلة: { كتب عليكم الصيام } انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [يس: 37] ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى. الذي.

{ على الذين من قبلكم }: ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا. وقال عليّ: أولهم آدم، فلم يفترضها عليكم، يعني: أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، فلم يفترضها عليكم خاصة، وقيل: الذين من قبلنا هم النصارى.

قال الشعبي وغيره: والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحر، فنقلوه إلى الفصل الشمسي.

قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل، والحسن، والسدي.

وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم، فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.

وقيل: كان النصارى أولاً يصومون، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا، ثم انتبهوا في الليل، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بسبب عمر، وقيس بن صرمة. قال السدي أيضاً، والربيع وأبو العالية.

قيل: وكذا كان صوم اليهود، فيكون المراد: بالذين من قبلنا، اليهود والنصارى، وقيل: الذين من قبلنا: هم اليهود خاصة، فرض علينا كما فرض عليهم، ثم نسخه الله بصوم رمضان.

قال الراغب: للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. انتهى. وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة، فإذا ذكر أنه كان مفروضاً على من تقدّم من الأمم سهلت هذه العبادة.

{ تتقون } الظاهر: تعلق، لعل بكتب، أي: سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم، فقيل: المعنى تدخلون في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم، وقيل: تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها، كما قال عليه السلام "فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء" .

وقيل: تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم، قاله السدي.

وقيل: تتقون المعاصي، لأن الصوم يكف عن كثير مما تتشوق إليه النفس، قاله الزجاج.

وقيل: تتقون محظورات الصوم، وهذا راجع لقول السدي.

{ أياماً معدودات } إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان، فيكون قوله أياماً معدودات عنى به رمضان، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين، ووصفها بقوله: معدودات، تسهيلاً على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوّت العد، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل، كقوله: { في أيام معدودات } [البقرة: 203] { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [البقرة: 80] { { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } [يوسف: 20].

وإن كان ما فرض صومه هو ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة ويوم عاشوراء، كما كان ذلك مفروضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: { أياماً معدودات } عنى بها هذه الأيام، وإلى هذا ذهب ابن عباس، وعطاء.

قال ابن عباس، وعطاء، وقتادة: هي الأيام البيض، وقيل: وهي: الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، وقيل: الثالث عشر ويومان بعده، وروي في ذلك حديث. "إن البيض هي الثالث عشر ويومان بعده" فإن صح لم يمكن خلافه.

وروى المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً، وصوم يوم عاشوراء، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهراً، ثم نسخ بصوم رمضان.

قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة، والصوم، ويقال: نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام، وقيل: كان صوم تلك الأيام تطوعاً، ثم فرض، ثم نسخ.

قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن): احتج من قال إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: "صوم رمضان نسخ كل صوم" ، فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمها في الآية الآتية بعده، فإن كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى: { فدية } يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، فكان غيره، وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله: { كتب عليكم الصيام } يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله: { شهر رمضان } وإذا أمكن حمله على رمضان فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ؛ وأما الخبر فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الامة، وأما ما ذكر من التكرار فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض في رمضان في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن نظن أن حكم الصوم، لما انتقل إلى التخيير عن التضييق، يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم من حيث تغير الحكم في الصوم، لما بين أن حال المريض والمسافر في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم: لأن قوله تعالى: { فدية } يدل على التخيير إلى آخره، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً. وعلى كلا القولين لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، فكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول. انتهى كلامه.

وانتصاب قوله: { أياماً } على إضمار فعل يدل عليه ما قبله، وتقديره: صوموا أياماً معدودات، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله: الصيام، وهو اختيار الزمخشري، إذ لم يذكره غيره، قال: وانتصاب أياماً بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة ـ انتهى كلامه ـ وهو خطأ، لأن معمول المصدر من صلته، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله: { كما كتب } فكما كتب ليس لمعمول المصدر، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف، أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير: أن تعريف الصيام جنس، فيوصف بالنكرة، لم يجز أيضاً، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وضعَّفناه قبل، فيكون التقدير: صوماً كما كتب، جاز أن يعمل في: أياماً، الصيام، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً، هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما، بما ليس لمعمول للمصدر، وأجازوا أيضاً انتصاب: أياماً، على الظرف، والعامل فيه كتب، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً، والعامل فيه كتب، وإلى هذا ذهب الفراء، والحوفي، وكلا القولين خطأ.

أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني، لأن، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب، وقد بينا أن ذلك خطأ.

والصوم: نفل وواجب، والواجب معين الزمان، وهو: صوم رمضان والنذر المعين، وما هو في الذمة، وهو: قضاء رمضان، والنذر غير المعين، وصوم الكفارة. وأجمعوا على اشتراط النية في الصوم، واختلفوا في زمانها.

فمذهب أبي حنيفة: أن رمضان، والنذر المعين، والنفل يصح بنية من الليل، وبنية إلى الزوال، وقضاء رمضان، وصوم الكفارة، ولا يصح إلاَّ بنية من الليل خاصة.

ومذهب مالك على المشهور: أن الفرض والنفل لا يصح إلاَّ بنية من الليل.

ومذهب الشافعي: أنه لا يصح واجب إلاَّ بنية من الليل.

ومذهب مالك: أن نية واحدة تكفي عن شهر رمضان.

وروي عن زفر أنه إذا كان صحيحاً مقيماً فأمسك فهو صائم، وإن لم ينو.

ومن صام رمضان بمطلق نية الصوم أو بنية واجب آخر، فقال أبو حنيفة: ما تعين زمانه يصح بمطلق النية، وقال مالك، والشافعي: لا يصح إلاَّ بنية الفرض، والمسافر إذا نوى واجباً آخر وقع عما نوى، وقال أبو يوسف، ومحمد: يقع عن رمضان، فلو نوى هو أو المريض التطوع فعن أبي حنيفة: يقع عن الفرض، وعنه أيضاً: يقع التطوع، وإذا صام المسافر بنية قبل الزوال جاز، قال زفر: لا يجوز النفل بنية بعد الزوال، وقال الشافعي: يجوز ولو أوجب صوم وقت معين فصام عن التطوع، فقال أبو يوسف: يقع على المنذور، ولو صام عن واجب آخر في وقت الصوم الذي أوجبه وقع عن ما نوى، ولو نوى التطوع وقضاء رمضان، فقال أبو يوسف: يقع عن القضاء، ومحمد قال: عن التطوع، ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان على القضاء في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع على النفل، ولو نوى الصائم الفطر فصومه تام، وقال الشافعي: يبطل صومه.

ودلائل هذه المسائل تذكر في كتب الفقه.

{ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } ظاهر اللفظ اعتبار مطلق المرض بحيث يصدق عليه الأسم، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين، وعطاء، والبخاري. وقال الجمهور: هو الذي يؤلم، ويؤذي، ويخاف تماديه، وتزيده؛ وسمع من لفظ مالك: أنه المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به التلف إذا صام، وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه؛ وقال الحسن، والنخعي: إذا لم يقدر من المرض على الصيام أفطر. وقال الشافعي: لا يفطر إلاَّ من دعته ضرورة المرض إليه، ومتى احتمل الصوم مع المرض لم يفطر. وقال أبو حنيفة: إن خاف أن تزداد عينه وجعاً أو حمى شديدة أفطر.

وظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زماناً وقصداً.

وقد اختلفوا في المسافة التي تبيح الفطر، فقال ابن عمر، وابن عباس، والثوري وأبو حنيفة: ثلاثة أيام. وروى البخاري أن ابن عمر، وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وقد روي عن ابن أبي حنيفة: يومان وأكثر ثلاث، والمعتبر السير الوسط لا غيره من الإسراع والإبطاء.

وقال مالك: مسافة الفطر مسافة القصر، وهي يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلاً، وقال مرة: اثنان وأربعون، ومرة ستة وأربعون؛ وفي المذهب: ثلاثون ميلاً، وفي غير المذهب ثلاثة أميال.

وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح.

فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف، وقال ابن عطية: والقول بالإجازة أظهر، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضاً، والقول بالمنع أرجح. انتهى كلامه.

واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، قالوا: ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج، فان أفطر فقال أشهب: لا يلزمه شيء سافر، أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر، أو لم يسافر، وقال عيسى، عن ابن القاسم: لا يلزمه إلاَّ قضاء يومه، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر، ولبس ثياب السفر، ورجل دابته، فأكل ثم ركب. وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج، وقال أحمد: إذا برز عن البيوت، وقال إسحاق: لا بل حتى يضع رجله في الرحل.

ومن أصبح صحيحاً ثم اعتل أفطر بقية يومه، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن يفطر، وهو قول ابن عمر، والشعبي، وأحمد، وإسحاق، وقيل: لا يفطر يومه ذلك، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري، ويحيـى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي.

واختلفوا إن أفطر، فكل هؤلاء قال: يقضي ولا يكفر. وقال ابن كنانة: يقضي ويكفر، وحكاه الباجي عن الشافعي، وقال به ابن العربي واختاره، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس بشيء، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله.

وظاهر قوله: { أو على سفر } إباحة الفطر للمسافر، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، ولا كفارة عليه، قاله الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة.

وقال مالك: عليه القضاء والكفارة، وروي عنه أيضاً أنه: لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه.

وموضع { أو على السفر }، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو، هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه.

{ فعدة من أيام أخر } قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة.

وقرئ: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظير في الحذف: { أن أضرب بعصاك البحر فانفلق } [الشعراء: 63] أي: فضرب فانفلق. ونكر { عدة } ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة هي المعدود، فكان التنكير أخصر و { من أيام } في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة. فمن الأول: { { إلا أياماً معدودة } [البقرة: 80] ومن الثاني: { إلا أياماً معدودات } [آل عمران: 24] فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله { فعدة }، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً، بخلاف: { أخر } فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة، مقابلة الآخر المقابل للأول، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكماً ومدلولاً. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة، وأما اختلاف المدلول: فلأن مدلول أخرى، التي جمعها أخر التي لا تتصرف، مدلول: غير، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول: متأخرة، وهي قابلة الأولى. قال تعالى: { قالت أولاهم لأخراهم } [الأعراف: 39] فهي بمعنى: الآخرة، كما قال تعالى: { وإن لنا للآخرة والأولى } [الليل: 13] وأخر الذي مؤنثه: أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى: غير، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلاَّ مِن جنس ما قبله، تقول: مررت بك وبرجل آخر، ولا يجوز: اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر، لأن الحمار ليس من جنس الفرس، فأما قوله:

صلى على عزة الرحمن وابنتها ليلى، وصلى على جاراتها الأُخر

فإنه جعل: ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا (التكميل).

قالوا: واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر، وأنه لا قضاء عليه إذا صام، لأنهم، كما ذكرنا، قدروا حذفاً في الآية، والأصل: أن لا حذف، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر، فلو صاما لم يجزهما، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما.

قالوا: وروي عن أبي هريرة أنه قال: من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر، وابنه عبد الله، وعن ابن عباس: أن الفطر في السفر عزيمة، ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وقال به قوم من أهل الظاهر، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر فقال، فيما لخصناه في كتابنا المسمى بـ (الأنور الأجلى في اختصار المحلى) ما نصه: ويجب على من سافر ولو عاصياً ميلاً فصاعداً الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان، وليفطر المريض ويقضي بعد، ويكره صومه ويجزى، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وثبت بالخبر المستفيض "أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر" ، وروى ذلك عنه أبو الدرداء، وسلمة بن المحبق، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر، بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال: أصوم في السفر؟ قال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" وعلى قول الجمهور: أن ثم محذوفاً، وتقديره: فأفطر، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم.

واختلفوا في الأفضل، فذهب أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والشافعي في بعض ما روي عنهما: إلى أن الصوم أفضل، وبه قال من الصحابة: عثمان بن أبي العاص الثقفي، وأنس بن مالك.

قال ابن عطية: وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن الفطر أفضل، وبه قال من الصحابة ابن عمر، وابن عباس. ومن التابعين: ابن المسيب، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة.

قال ابن عطية: وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: أيسرهما أفضلهما.

وكره ابن حنبل الصوم في السفر، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط، قاله الأوزاعي، وأبو حنيفة، وزاد الليث: والكفارة. وعن مالك القولان.

ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار، فقال جابر بن يزيد، والشافعي، ومالك فيما رواه ابن القاسم: يأكلان ولا يمسكان.

وقال أبو حنيفة، والأوزاعي والحسن بن صالح، وعبد الله بن الحسن: يمسكان بقية يومهما عن ما يمسك عنه الصائم.

وقال ابن شبرمة في المسافر: يمسك ويقضي، وفي الحائض: إن طهرت تأكل.

والظاهر من قوله: فعدة، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوماً، قضى تسعة وعشرين يوماً، وبه قال جمهور العلماء، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الإيام. وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة، وروي عن الثوري أنه يقضي شهراً تسعة وعشرين يوماً وإن كان رمضان ثلاثين، وهو خلاف الظاهر، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه: إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان، فإنه يجب القضاء بالعدد، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد.

وظاهر قوله تعالى: { فعدة من أيام أخر } أنه لا يلزم التتابع، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وروي عن علي ومجاهد وعروة: أنه لا يفرق، وفي قراءة أبيّ: فعدة من أيام أخر متتابعات، وظاهر الآية: أنه لا يتعين الزمان، بل تستحب المبادرة إلى القضاء. وقال داود: يجب عليه القضاء ثاني شوّال، فلو لم يصمه ثم مات أثِمَ، وهو محجوج بظاهر الآية، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت: كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه، إلاَّ في شعبان لشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر الآية أنه: من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، أنه لا يجب عليه إلاَّ القضاء فقط عن الأول، ويصوم الثاني. وبه قال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة، وداود، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، يجب عليه الفدية مع القضاء.

وقال يحيـى بن أكثم القاضي روى وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفاً. وروي عن ابن عمر أنه: لا قضاء عليه إذا فرّط في رمضان الأوّل، ويطعم عن كل يوم منه مدّا من بر، ويصوم رمضان الثاني.

ومن أخر قضاء رمضان حتى مات فقال مالك، والثوري، والشافعي: لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره. وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأهل الظاهر: يصام عنه، وخصصوه بالنذر. وقال أحمد، وإسحاق: يطعم عنه في قضاء رمضان.

{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } قرأ الجمهور: يطيقونه مضارع أطاق، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق، كقولهم أطول في أطال، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء، والمسموع منه: أجود، وأعول، وأطول. وأغيمت السماء، وأخيلت، وأغيلت المرأة وأطيب، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين، إلاَّ أبا زيد الأنصاري فانه يرى التصحيح في ذلك مقيساً اعتباراً بهذه الإلفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس.

وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه: يطوّقونه، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع.

وقرأت عائشة، ومجاهد، وطاووس، وعمرو بن دينار: يطوّقونه من أطوّق، وأصله تطوّق على وزن تفعل، ثم أدغموا التاء في الطاء، فاجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل. قال بعض الناس: هو تفسير لا قراءة، خلافاً لمن أثبتها قراءة، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل، وأوردها قراءة.

وقرأت فرقة، منهم عكرمة: يطيقونه، وهي مروية عن مجاهد، وابن عباس، وقرىء أيضاً هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول، ورد بعضهم هذه القراءة، وقال: هي باطلة لأنه مأخوذ من الطوق. قالوا: ولازمة فيه، ولا مدخل للياء في هذا المثال.

وقال ابن عطية: تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف. انتهى. وإنما ضعف هذا، أو امتنع عند هؤلاء، لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل، فأشكل ذلك عليهم، وليس كما ذهبوا إليه، بل هو على وزن: تفعيل من الطوق، كقولهم: تدير المكان وما بها دّيار، فأصله: تطيوقون، اجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء، فقيل: تطيق يتطيق، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح.

فهذه ست قرآت يرجع معناها إلى الاستطاعة والقدرة، فالمبني منها للفاعل ظاهر، والمبني منها للمفعول معناه: يجعل مطيقاً لذلك، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف، أي: يتكلفونه أو يكلفونه، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة، فكأنه قيل: مقلدون ذلك، أي: يجعل في أعناقهم، ويكون كناية عن التكليف، أي: يشق عليهم الصوم. وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه } والضمير عائد على الصوم، فاختلفوا، فقال معاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع، والحسن البصري، والشعبي، وعكرمة، وابن شهاب، والضحاك: كان الصيام على المقيمين القادرين مخيراً فيه، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، ثم نسخ ذلك { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وهذا قول أكثر المفسرين، وقيل: ثم محذوف معطوف تقديره: يطيقونه، أو الصوم، لكونهم كانوا شباباً ثم عجزوا عنه بالشيخوخة، قاله سعيد بن المسيب والسدي.

وقيل: المعنى: وعلى الذين يطيقون الصوم، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي، ثم نسخ ذلك بقوله: { فليصمه } فزالت الرخصة إلاَّ لمن عجز منهم، قاله ابن عباس. وجوّز بعضهم أن تكون: لا، محذوفة، فيكون الفعل منفياً، وقدره: وعلى الذين لا يطيقونه، قال: حذف: لا، وهي مرادة. قال ابن أحمد.

آليت أمدح مقرفاً أبدا يبقى المديح ويذهب الرفد

وقال الآخر:

فخالف، فلا والله تهبط تلعة من الأرض إلاَّ أنت للذل عارف

وقال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

وتقدير: لا، خطأ لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم، هو: أن الفعل مثبت، ولا يجوز حذف: لا، وإرادتها إلاَّ في القسم، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم، وعلة ذلك مذكورة في النحو.

وقيل: { الذين يطيقونه } المراد: الشيخ الهرم، والعجوز، أي: يطيقونه بتكلف شديد، فأباح الله لهم الفطر والفدية، والآية على هذا محكمة، ويؤيده توجيه من وجه: يطوقونه، على معنى: يتكلفون صومه ويتجشمونه، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة وزيد عن علي: والمريض الذي لا يرجى برؤه، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فتركه، فعليه الفدية.

وقال الأصم: يرجع ذلك إلى المريض والمسافر لأن لهما حالين: حال لا يطيقان فيه الصوم، وقد بين الله حكمها في قوله: { فعدّة من أيام أخر }. وحال يطيقان، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما، فخيرّ بين أن يفطر ويفدي، فكأنه قيل: وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه.

والظاهر من هذه الأقوال القول الأوّل، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين: متصف بمظنة المشقة، وهو المريض والمسافر، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ومطيق للصوم، فإن صام قضى ما عليه، وإن أفطر فدى: ثم نسخ هذا الثاني، وتقدم أن هذا كان، ثم نسخ.

والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز، تكون الآية محكمة على قولهم، واختلفوا، فقيل: يختص هذا الحكم بهؤلاء، وقيل: يتناول الحامل والمرضع، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية، هكذا نقل بعضهم، وليس هذا الإجماع بصحيح، لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال: لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، ويستحب لمن قوي عليها. وتقدم قول مالك ورأيه في الآية.

وقال الشافعي: على الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما، الفدية، لتناول الآية لهما، وقياساً على الشيخ الهرم، والقضاء.

وروي في البويطي: لا إطعام عليهما. وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية، وأبطل القياس على الشيخ الهرم، لأنه لا يجب عليه القضاء، ويجب عليهما. قال: فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعاً بين البدلين، وهو غير جائز، وبه قال ابن عمر، والحسن، وأبو يوسف ومحمد وزفر.

وقال علي: الفدية بلا قضاء، وذهب ابن عمر، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها، وذهب الحسن، وعطاء، والضحاك، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي، ولا فدية عليها وذهب مجاهد، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي. وتقدم أن هذا مذهب الشافعي، وأما المرضع فتقدّم قول الشافعي، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت. وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: لا إطعام على المرضع.

واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام، فقال إبراهيم، والقاسم بن محمد، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني. يطعم عن كل يوم مداً؛ وقال الثوري: نصف صاع من بر، وصاع من تمر أو زبيب، وقال قوم: عشاء وسحور، وقال قوم: قوت يوم، وقال أبو حنيفة وجماعة، يطعم عن كل يوم نصف صاع، من بر، وروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وقيس بن الكاتب ـ الذي كان شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ـ وعائشة، وسعيد بن المسيب، في الشيخ الكبير: أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع.

وظاهر الآية: أنه يجب مطلق طعام، ويحتاج التقييد إلى دليل.

ولو جنّ في رمضان جميعه أو في شيء منه، فقال الشافعي: لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل، وقال مالك وعبيد الله العنبري: يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة؛ وقال أبو حنيفة، والثوري ومحمد، وأبو يوسف، وزفر: إذا جنّ في رمضان كله فلا قضاء عليه، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله.

وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي (المنتخب) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاماً ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.

أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً، فلا تقول: في مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [النور: 4] أي: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وتبين من أفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع.

{ فمن تطوّع خيراً فهو خير له } أي: من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين، قاله مجاهد، وعلى عدد من يلزمه إطعامه، فيطعم مسكينين فصاعداً قاله ابن عباس، وطاووس، وعطاء، والسدي. أو جمع بين الإطعام والصوم، قاله ابن شهاب.

وانتصاب { خيراً } على أنه مفعول على إسقاط الحرف، أي: بخير، لأنه تطوّع لا يتعدى بنفسه، ويحتمل أن يكون ضمّن، تطوّع معنى فعل متعد، فانتصب خيراً، على أنه مفعول به، وتقديره، ومن فعل متطوعاً خيراً، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: تطوعاً خيراً، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع، فجعله مضارع أطوع، وأصله تطوع فأدغم، واجتلبت همزة الوصل. ويلزم في هذه القراءة أن تكون: مَن شرطية، ويجوز ذلك في قراءة مَن جعله فعلاً ماضياً، والضمير في فهو، عائد على المصدر المفهوم من تطوع، أي: فالتطوع خير له، نحو قوله: { { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [المائدة: 8] أي: العدل، وخير: خبر: لهو، وهو، هنا أفعل التفضيل، والمعنى: أن الزيادة على الواجب، إذا كان يقبل الزيادة، خير من الاقتصار عليه، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم، وظاهر التطوع: التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك، وأن الفعل أفضل. ولا خلاف في ذلك، فلو شرع فيه ثم أفسده، لزمه القضاء عند أبي حنيفة، ولا قضاء عليه عند الشافعي.

{ وأن تصوموا خير لكم } وقرأ أُبيُّ: والصوم خير لكم. هكذا نقل عن ابن عطية. ونقل الزمخشري: أن قراءته: والصيام خير لكم، والخطاب للمقيمين المطيقين الصوم، أي: خير لكم من الفطر والفدية، أو للمريض والمسافر، أي: خير لكم من الفطر والقضاء، أو: لمن أبيح له الفطر من الجميع. أقوال ثلاثة.

وأبعد من ذهب إلى أنه متعلق بأول الآية، وهو { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } أي: وأن تصوموا ذلك المكتوب خير لكم، والظاهر الأول، وفيه حض على الصوم.

{ إن كنتم تعلمون } من ذوي العلم والتمييز، ويجوز أن يحذف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي: ما شرعته وبينته لكم من أمر دينكم، أو فضل أعمالكم وثوابها، أو كنى بالعلم عن الخشية أي: تخشون الله، لأن العلم يقتضي خشيته { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء } [فاطر: 28] .

{ شهر رمضان } قرأ الجمهور برفع شهر، وقرأه بالنصب مجاهد، وشهر بن حوشب وهارون الأعور: عن أبي عمرو، وأبو عمارة: عن حفص عن عاصم. وإعراب شهر يتبين على المراد بقوله: { أياماً معدودات } فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع شهر على أنه مبتدأ، وخبره قوله: { الذي أنزل فيه القرآن } ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه، وجوزوا أن يكون: الذي أنزل، صفة. إما للشهر فيكون مرفوعاً، وإما لرمضان فيكون مجروراً.

وخبر المبتدأ والجملة بعد الصفة من قوله: { فمن شهد منكم الشهر } وتكون الفاء في: فمن، زائدة على مذهب أبي الحسن، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط، لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط، قالوا: ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي، ومثله: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } [الجمعة: 8] وهذا الذي قالوه ليس بشيء، لأن الذي، صفة لعلم، أو لمضاف لعلم، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم، ولمعنى الفعل الذي هو { أنزل فيه القرآن } لفظاً ومعنى، فليس كقوله: { { قل إن الموت الذي تفرون منه } [الجمعة: 8] لأن الموت هنا ليس معيناً، بل فيه عموم. وصلة الذي مستقبلة، وهي: تفرون، وعلى القول، بأن الجملة من قوله { فمن شهد } هي الخبر، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه، أي: فمن شهده منكم فليصمه، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير، وحصل به الربط كما في قوله:

لا أرى المـوت يسبـق المـوت شيء

وذلك لتفخيمه وتعظيمه وإن كان المراد بقوله: { أياماً معدودات } أيام رمضان، فجوزوا في إعراب شهر وجهين.

أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو: شهر رمضان، أي: المكتوب شهر رمضان، قاله الأخفش، وقدره الفراء: ذلكم شهر وهو قريب.

الثاني: أن يكون بدلاً من قوله: الصيام أي: كتب عليكم شهر رمضان، قاله الكسائي، وفيه بعد لوجهين: أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه، والثاني: أنه لا يكون إذ ذاك إلاَّ مِن بدل الإشتمال، لا، وهو عكس بدل الاشتمال، لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [البقرة: 217] وقول الأعشى:

لقد كان في حول ثواء ثويته تقضي لبانات ويسأم سائم

وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس، فلو كان هذا التركيب: كتب عليكم شهر رمضان صيامه، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً. وعكس: ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره: صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة، وهو بعيد، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات، على قراءة عبد الله، فإنه قرأ: أيامٌ معدودات، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب (البديع) له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قرأ ذلك على إضمار فعل تقديره: صوموا شهر رمضان، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله: { أياماً معدودات } قاله الأخفش، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان، قاله أبو عبيدة والحوفي، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله: { وأن تصوموا } حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال: وقرىء بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من: { أياماً معدودات }، أو على أنه مفعول، وأن تصوموا. انتهى كلامه؛ وهذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير، لأن تصوموا في موضع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، ولو قلت: أن يضرب زيداً شديد، وأن تضرب شديد زيداً، لم يجز.

وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية: وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم، نحو: هذا ثوب بكر، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين، ولا على ما اختاروه، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه..

{ الذي أنزل فيه القرآن }: تقدّم اعرابه، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن، والقرآن يعم الجميع ظاهراً، ولم يبين محل الإنزال، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً.

وقيل: الإنزال هنا هو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون القرآن مما عبر بكله عن بعضه، والمعنى بدئ بإنزاله فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في الرابع والعشرين من رمضان.

أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية، كما تقول: أكلت اللحم، لا تريد استغراق الأفراد، إنما تريد تعريف الماهية. وقيل معنى: { أنزل فيه القرآن } أن جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بما أنزل الله عليه، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قاله الشعبي؛ فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة.

وقيل: أنزل في فرضية صومه القرآن، وفي شأنه القرآن، كما تقول: أنزل في عائشة قرآن. والقرآن الذي نزل هو قوله: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } قاله مجاهد، والضحاك. وقال سفيان بن عيينة: في فضله، وقيل: المعنى. { أنزل فيه القرآن } أي أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهراً، ونزل به جبريل في عشرين سنة. قاله مقاتل.

وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، والتوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين" . وفي رواية أبي ذر: "نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر" ، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول.

وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة، إلى الراء، وحذف الهمزة، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام، أو بالإضافة، وهذا المختار من توجيه قراءته، وقد تقدّم قول من قال: إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته.

{ هدى للناس وبينات } انتصاب: هدىً، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل، أي: هادياً للناس، فيكون: للناس، متعلقاً بلفظ. هدىً، لما وقع موقع هادٍ، وذو الحال القرآن، والعامل: أنزل، وهي حال لازمة، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له، وعطف قوله: وبينات، على: هدىً، فهو حال أيضاً، وهي لازمة، لأن كون القرآن آياتٍ جليات واضحات وصف ثابت له، وهو من عطف الخاص على العام، لأن الهدى: منه خفي ومنه جلي، فنص بالبينات على الجلي من الهدى، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، فذكر عليه أشرف أنواعه، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة.

{ من الهدى والفرقان } هذا في موضع الصفة لقوله: هدى وبينات، أي: أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية، فهذا القرآن بعضها، وعبر عن البينات بالفرقان، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل، فمتى كان الشيء جلياً واضحاً حصل به الفرق، ولأن في لفظ: الفرقان، مؤاخاة للفاصلة قبله، وهو قوله: { شهر رمضان } ثم قال: { الذي أنزل فيه القرآن }، ثم قال: { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، كما قررناه.

ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه، وفي (المنتخب) أنه يحتمل أن يحمل: هدىً الأول على أصول الدين، والثاني على فروعه.

وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني: أنه أتى به منكراً أولاً، ثم أتى به معرفاً ثانياً، فدل على أنه الأول كقوله تعالى: { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [المزمل: 15 - 16] فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه، ومن ذلك قولهم: لقيت رجلاً فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني، فيصح المعنى، لأنه لو أتى فعصاه فرعون، أو: لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً، ولا يتأتي هذا الذي قاله ابن عطية هنا، لأنه ذكر هو والمعربون: أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال، وعطف عليه وبينات، فلا يخلو قوله: من الهدى، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله: هدى، أو لقوله: وبينات، أو لهما، أو متعلق بلفظ بينات، لا جائز أن يكون صفة لهدى، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً. كلاً بالنسبة لماهيته، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط، لأن وبينات معطوف على هدى، وهدى حال، والمعطوف على الحال حال، والحال وصف في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى، خصصها به، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محال، ولا جائز أن يتعلق بلفظ: وبينات، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به، فهو كالوصف، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف.

وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: وبينات منه أي: من ذلك الهدى، لم يصح، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما..

{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه } الألف واللام في الشهر للعهد، ويعني به شهر رمضان، ولذلك ينوب عنه الضمير، ولو جاء: فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية.

ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف، والمعنى: أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم، إذ الأمر يقتضي الوجوب، وهو قوله: فليصمه، وقالوا على انتصاب الشهر: أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد.

وقيل: انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم، وقالوا: يتم الصوم من دخل عليه رمضان وهو مقيم، أقام أم سافر، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، وإلى هذا ذهب علي، وابن عباس، وعبيدة السلماني، والنخعي، والسدي.

والجمهور على أن من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيماً.

وقال الزمخشري: الشهر منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في: فليصمه، ولا يكون مفعولاً به، كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه.

وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره: فمن شهد منكم دخول الشهر، أي: من حضر. وقيل: التقدير هلال الشهر، وهذا ضعيف، لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك.

ومنكم، في موضع الحال، ومن الضمير المستكن في شهد، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم.

وقال أبو البقاء، منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، فتناقض، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً، فتناقض. ومَنْ، من قوله فمن شهد، الظاهر أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد مر نظائره.

وقرأ الجمهور بسكون اللام في: فليصمه، أجروا ذلك مجرى: فعل، فخففوا، وأصلها الكسر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وأبو حيوة، وعيسى الثقفي، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن نحو: { { فليكتب وليملل } [البقرة: 282] بالكسر، وكسر لام الأمر، وهو مشهور لغة العرب، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب (التسهيل) أن فتح لام الأمر لغة، وعن ابنه ان تلك لغة بني سليم. وقال: حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة، ونقل صاحب كتاب (الإعراب)، وهو: أبو الحكم بن عذرة الخضراوي، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، قال: فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو: لينبذن، ولتكرم زيداً، وليكرم عمراً وخالداً، وقوموا فلأصل لكم.

{ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر } تقدّم تفسير هذه الجملة، وذكر فائدة تكرارها على تقدير: أن شهر رمضان هو قوله: { أياماً معدودات }، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تقدّم الكلام في الإرادة في قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [البقرة: 26] والإرادة هنا إما أن تبقى على بابها، فتحتاج إلى حذف، ولذلك قدره صاحب (المنتخب): يريد الله أن يأمركم بما فيه يسر، وإما أن يتجوز بها عن الطلب، أي: يطلب الله منكم اليسر، والطلب عندنا غير الإرادة، وإنما احتيج إلى هذين التأوّيلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة، على مذهب أهل السنة، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر وهو واقع، وأما على مذهب المعتزلة فتكون الآية على ظاهرها، وأراد: يتعدّى إلى الإجرام بالباء، وإلى المصادر بنفسه، كالآية. ويأتي أيضاً متعدّياً إلى الإجرام بنفسه وإلى المصادر بالباء. قال:

أرادت عرار بالهوان ومن يرد عراراً، لعمري بالهوان فقد ظلم

قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائماً، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.

وفي الحديث. "دين الله يُسر يَسِّر ولا تعسر" . "وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما" ، وفي القرآن: { ما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78] { { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [الأعراف: 157] فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير.

وروي عن علي، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك: أن اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه، ويحمل تفسيرهم على التمثيل بفرد من أفراد العموم، وناسب أن مثلوا بذلك، لأن الآية جاءت في سياق ما قبلها، فدخل فيها ما قبلها دخولاً لا يمكن أن يخرج منها، وفي (المنتخب) { يريد الله بكم اليسر } كاف عن قوله: { ولا يريد بكم العسر } وإنما كرر توكيداً. انتهى.

وقرأ أبو جعفر، ويحيـى بن وثاب، وابن هرمذ، وعيسى بن عمر: اليسر والعسر، بضم السين فيهما، والباقون بالإسكان.

{ ولتكملوا العدة }: قرأ أبو بكر، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وروي: مشدد الميم مفتوح الكاف، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف، وفي اللام أقوال.

الأول: قال ابن عطية: هي اللام الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكلموا العدة، هذا قول البصريين، ونحوه، قول أبي صخر.

أريد لأنسى ذكرها فكأنما تخيل لي ليلى بكل طريق

انتهى كلامه. وهو كما جوّزه الزمخشري. قال: كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد لتكملوا، لقوله: { يريدون ليطفئوا } [الصف: 8] وفي كلامه أنه معطوف على اليسر، وملخص هذا القول: أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل، وهو مما نصوا على أنه قليل، أو ضرورة، لكن يحسن ذلك هنا، بعده عن الفعل بالفصل، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله، وهو: اليسر، وفصل بينهما بجملة وهي: ولا يريد بكم العسر، بعد الفعل عن اقتضائه، فقوي باللام، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت، لأنه بالتقدم وتأخرُ العامل ضعف العامل عن الوصول إليه، فقوي باللام، اذ أصل العامل أن يتقدم، وأصل المعمول أن يتأخر عنه، لكن في هذا القول إضمار أن بعد اللام الزائدة، وفيه بعُد. وفي كلام ابن عطية تتبع، وهو في قوله: وهي، يعني باللام مع الفعل، يعني تكملوا مقدرة بأن، وليس كذلك، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر، ويبين ذلك أنه قال: كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا العدة، فأظهر أن بعد اللام، فتصحيح لفظه أن تقول: وهي مع الفعل مقدران بعدها، وقوله: هذا قول البصريين ونحوه، قول أبي صخر:

أريد لانسى ذكرها...

ليس كما ذكر، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى: { { يريد الله ليبين لكم } [النساء: 26] { { يريدون ليطفئوا } [الصف: 8] { أن يطفئوا } [التوبة: 32] { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } [الأحزاب: 33] وقال الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها...

وقال تعالى: { وأمرنا لنسلم } [الأنعام: 71] { أن أسلم } [غافر: 66] وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر، كأنه قال: الإرادة للتبيين، وإرادتي لهذا، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب (التكميل في شرح التسهيل) فتطالع هناك.

وتلخص مما ذكرناه أن ما قال: من أنه قول البصريين ليس كما قال: إنما يتمشى قوله: وهي، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال: هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة. ثم قال: وهي مع الفعل مقدرة بأن، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل، فهي جزء له، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له، فتناقض.

وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: اليسر، فلا يمكن إلاَّ بزيادة اللام وإضمار: أن، بعدها، أو يجعل اللام لمعنى: أن، فلا تكون أن مضمرة بعدها، وكلاهما ضعيف.

القول الثاني: أن تكون اللام في { ولتكملوا العدة } لام الأمر قال ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. انتهى كلامه. ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا: أمر الفاعل المخاطب فيه التفات، قالوا: أحدهما لغة رديئة قليلة، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأمر قبلها، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة، وهو، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام، فلو كانت لام الأمر لكتاب كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر، وقول ابن عطية: والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام، يعني: أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل، وإذا كانت كاللام في: ضربت لزيد، كانت من قبل عطف المفردات.

القول الثالث: أن تكون اللام للتعليل، واختلف قائلو هذا القول على أقوال. أحدها: أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة، التقدير: لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول: إرادة اليسر. الثاني: أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل، التقدير: وفعل هذا لتكملوا العدة، قاله الفراء. الثالث: أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها، التقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا، قاله الزجاج. الرابع: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، قال ابن عطية: وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس: أن الواو زائدة، التقدير: يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة، وهذا قول ضعيف. السادس: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله؛ { ولعلكم تشكرون } وتقديره: شرع ذلك. قاله الزمخشري، قال ما نصه: شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا، علة الأمر بمراعاة العدة، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، ولعلكم تشكرون، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلاَّ النقاد المحذق من علماء البيان. انتهى كلامه.

والألف واللام في قوله: { ولتكملوا العدة } الظاهر أنها للعهد، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله: { فعدة من أيام أخر } أي: وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها، وقيل: عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه.

{ ولتكبروا الله على ما هداكم } معطوف على: ولتكملوا العدة، والكلام في اللام كالكلام في لام: ولتكملوا ومعنى التكبير هنا تعظيم الله والثناء عليه، فلا يختص ذلك بلفظ التكبير، بل يعظم الله ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم، وقيل: هو التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان.

وروي عن ابن عباس أنه قال: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبروا، وقيل: هو التكبير المسنون في العيد، وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر.

واختلف في مدته وفي كيفيته، فعن ابن عباس: يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره، وقيل: وهو قول الشافعي: من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وقال زيد بن أسلم، ومالك: من حين يخرج من منزله إلى أن يخرج الإمام. وروى ابن القاسم، وعلي بن زياد: إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا في جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام.

واختلف عن أحمد، فنقل الأثر عنه أنه إذا جاء إلى المصلى يقطع؛ قال أبو يعلى: يعني: وخرج الإمام، ونقل حنبل عنه أنه يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة.

واختلفوا في الأضحى، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: الفطر والأضحى سواء في ذلك، وبه قال ابن المسيب، وأبو سلمة، وعروة، وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر.

وكيفيته عند الجمهور: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثاً، وهو مروي عن جابر، وقيل: يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. وكان ابن المبارك يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. وقال ابن المنذر: كان مالك لا يجد فيه حدّاً، وقال ابن العربي: اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب، وقال أحمد: كل واسع، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه.

ورجح في (المنتخب) أن إكمال العدة هو في صوم رمضان، وأن تكبير الله هو عند الانقضاء على ما هدى إلى هذه الطاعة، وليس بمعنى التعظيم. قال: لأن تكبير الله بمعنى تعظيمه هو واجب في جميع الأوقات وفي كل الطاعات، فلا معنى للتخصيص انتهى. و: على، تتعلق: بتكبروا، وفيها إشعار بالعلية، كما تقول: أشكرك على ما أسديت إليّ.

قال الزمخشري: وإنما عدى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. انتهى كلامه.

وقوله: كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن: على، متعلقاً، بتكبروا المضمنة معنى الحمد، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها، والتقدير الإعرابي هو، أن تقول: كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم، كما قدّر الناس في قولهم: قتل الله زياداً عني أي: صرف الله زياداً عني بالقتل، وفي. قول الشاعر:

ويركب يوم الروع فينا فوارس بصيرون في طعن الأباهر والكلى

أي: تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر، والظاهر في: ما، أنها مصدرية أي: على هدايتكم، وجوّزوا أن تكون: ما، بمعنى الذي، وفيه بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما: حذف العائد على: ما، أي: على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.

والظاهر أن معنى: هداكم، حصول الهداية لكم من غير تقييد، وقيل: المعنى، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وإذا كانت بمعنى: الذي، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام.

{ ولعلكم تشكرون } هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية، قاله ابن عطية: فيكون الشكر على الهداية، وقيل: المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم.

وقال الزمخشري: ومعنى { ولعلكم تشكرون } وإرادة أن تشكروا، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله، فلذلك أوَّله الزمخشري بالإرداة، وجعله ابن عطية من البشر، والقولان متكافئان، وإذا كان التكليف شاقاً ناسب أن يعقب بترجي التقوى، وإذا كان تيسيراً ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله: { لعلكم تشكرون } لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر، وقوله: { يريد الله بكم اليسر } وجاء عقيب قوله: { كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون } وقبله { ولكم في القصاص حياة } ثم قال: { لعلكم تتقون } لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان.

{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } سبب النزول فيما قال الحسن: أن قوماً، قيل: اليهود، وقيل: المؤمنون، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه. وقال عطاء: لما نزل. { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعو؟ فنزل { وإذا سألك } ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله: { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } طلب تكبيره وشكره بيَّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبته، تنبيهاً على أن يكون ولا بد مسبوقاً بالثناء الجميل.

والكاف في: سألك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله { الذي أنزل فيه القرآن } أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل: أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف. و: عبادي، ظاهره العموم، وقيل: أريد به الخصوص: إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب، وأما عبادي. و: عني، فالضمير فيه لله تعالى، وهو من باب الالتفات، لأنه سبق و: لتكبروا لله، فهو خروج من غائب إلى متكلم، و: عني، متعلق بسألك، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله: فإني قريب، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قرباً بالمكان، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعاً لدعائه، مسرعاً في إنجاح طلبه من سأله، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه. ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ق: 16] وما روي من قوله عليه السلام: "هو بينكم وبين أعناق رواحلكم" .

والفاء في قوله: فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب، لإنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب.

{ أجيب دعوة الداعي إذا دعان } أجيب: إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في: فإني، فلذلك جاء أجيب، ولم يراع الخبر فيجيء: يجيب، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب: أشهرهما: مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا، وكقولهم: { بل أنتم قوم تفتنون } [النمل: 47] { بل أنتم قوم تجهلون } [النمل: 55] وكقول الشاعر:

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة

والطريق الثاني: مراعاة الخبر كقولك: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ يريد الخير، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم بـ (منهج السالك) والعامل في: إذا، قوله أجيب.

وروي أنه نزل قوله: { أجيب دعوة الداع إذا دعان } لما نزل: { فإني قريب } وقال المشركون: كيف يكون قريباً من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ، سمك كل سماء خمسمائة عام، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك، فبين بقوله: { أجيب }: أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة، وظاهر قوله: { أجيب دعوة الداع } عموم الدعوات، إذ لا يريد دعوة واحدة، والهاء في: دعوة، هنّا ليست للمرة، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو. رحمة، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داعٍ مخصوص، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد، وإنما هي للعموم. والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله.

وذكروا قيوداً في هذا الكلام، وتخصيصات، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى. التقدير: إن شئت، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء، وقيل: بوفق القضاء أي: أجيب إن وافق قضائي، وهو راجع لمعنى المشيئة، وقيل: يكون المسؤول خير السائل، أي: إن كان خيراً. وقيل: يكون المسؤول غير محال، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل، ولا يبلغه المقصود مما طلب، فخصصوا الداعي بأن يكون: مطيعاً مجتنباً لمعاصيه.

وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يطيل السفر: "أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟" .

قالوا: ومن شرطه أن لا يمل، ففي (الصحيح): "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي" .

وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم، ولا قطيعة رحم، ولا معصية، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها" . وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور، وأن لا يقصد فيه السجع، سجع الجاهلية، وأن يكون غير ملحون.

وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر، وفي الثلث الأخير من الليل، ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار، وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر، والصف في سبيل الله، والعيدين، والساعة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة: وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة: كذا ورد مفسراً في الحديث، وقيل: بعد عصر الجمعة، وعندما تزول الشمس.

ومن الأماكن: في الكعبة، وتحت ميزابها، وفي الحرم، وفي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والجامع الأقصى.

وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله، ولا يقطع رجاءه من فضله، فإن الله تعالى قال: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [الزمر: 53] وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس: { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } [الحجر: 36، ص: 79] .

وقالت المعتزلة: الإجابة مختصة بالمؤمنين { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [الأنعام: 82] لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم، والفاسق لا يستحق التعظيم، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة.

قيل: والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى الله تعالى، والشرع قد ورد بالأمر به، وقد دعت الأنبياء والرسل، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه، وذكر شبهاً له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة، وقالوا: الأَوْلى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء، والحث عليه، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس، إنهم علماء الحقيقة: يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل، فلا حاجة إليها.

وقال قوم منهم. إن كان في حالة الدعاء أصلح، وقلبه أطيب، وسره أصفى، ونفسه أزكى، فليدع؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به.

وقال قوم منهم: ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة بالله، وعدم الاعتراض، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار.

وقال قوم منهم: ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه، قال تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3] .

وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه. أحدها: أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله، لأنك دعوته ووجدته، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاءً سمي القبول إجابة، لتجانس اللفظ.

الوجه الثاني: أن الإجابة هو السماع فكأنه قال: أسمع.

الوجه الثالث: أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة، والإجابة قبول التوبة.

الوجه الرابع: أن يكون الدعاء هو العبادة، وفي الحديث: "الدعاء العبادة" قال تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } [غافر: 60] ثم قال: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [غافر: 60] والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب.

الوجه الخامس: الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه، فالمعنى: إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد.

وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر.

{ فليستجيبوا لي } أي: فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني، قاله ثعلب، فيكون: استفعل، قد جاءت بمعنى الطلب، كاستغفر، وهو الكثير فيها: أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، قاله مجاهد، وأبو عبيدة، وغيرهما. ويكون: استفعل، فيه بمعنى أفعل، وهو كثير في القرآن { { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع } [آل عمران: 195] { { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } [الأنبياء: 90] إلا أن تعديته في القرآن باللام، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النداء فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي: فلم يجبه، ومثل ذلك، أعني كون استفعل موافق أفعل، قولهم: استبل بمعنى أبل، واستحصد الزرع واحصد، واستعجل الشيء وأعجل، واستثاره وأثاره، ويكون استفعل موافقة أفعل متعدياً ولازماً، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله: { وإياك نستعين } [الفاتحة: 5]. وقال أبو رجاء الخراساني: معناه فليدعوا لي، وقال الأخفش: فليذعنوا الإجابة، وقال مجاهد أيضاً، والربيع: فليطيعوا، وقيل: الإستجابة هنا التلبية، وهو: لبيك اللهم لبيك، واللام لام الأمر، وهي ساكنة، ولا نعلم أحداً قرأها بالكسر.

{ وليؤمنوا بي } معطوف على: فليجيبوا لي، ومعناه الأمر بالإيمان بالله، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بُعدٌ لأن صدر الآية يقتضي أنهم مؤمنون، فلذلك يؤول على الديمومة، أو على إخلاص الدين، والدعوة، والعمل، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه، أو بالإيمان في: أني أجيب دعاءهم، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني.

{ لعلهم يرشدون } قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين، وقرأ قوم: يرشدون مبنياً للمفعول، وروي عن أبي حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة: يرشدون بفتح الياء وكسر الشين، وذلك باختلاف عنهما، وقرئ أيضاً يرشدون بفتحهما، والمعنى: أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له، وبالإيمان به، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلاَّ وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه، وإنما ذلك مختص بك.

ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن، ناسب ذكر الرشاد وهو: الهداية، كما قال تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52] { وهديناهما الصراط المستقيم }

[الصافات: 118] { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري، عن البراء: لما نزل صوم رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فنزلت، وقيل: كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة، وأن عمر، وكعباً الأنصاري، وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائماً فغشي عليه عند انتصاف النهار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت.

وقال بعض العلماء: نزلت الآية في زلة ندرت، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة، هذا أحكام العناية.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه: كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة، وفي العدد، وفي الشرائط، وسائر تكاليف الصوم. وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا، وقيل: بعد العشاء، وكان المسلمون كذلك، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول، أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر، لطفاً بهم. وناسب أيضاً قوله تعالى: في آخر آية الصوم: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهذا من التيسير.

وقوله: أحل، يقتضي أنه كان حراماً قبل ذلك، وقد تقدّم نقل ذلك في سبب النزول، لكنه لم يكن حراماً في جميع الليلة، ألا ترى أن ذلك كان حلالاً، لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء؟.

وقرأ الجمهور: أحل، مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وقرئ، أحل مبنياً للفاعل، ونصب: الرفث به، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله، وأما أن يكون من باب الالتفات، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله: { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي } ولكم، متعلق بأحل، وهو التفات، لأن قبله ضمير غائب، وانتصاب: ليلة، على الظرف، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس، قالوا: والناصب لهذا الظرف: أحل، وليس بشيء، لأن: ليلة، ليس بظرف لأحل، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا، فلا يتقدّم معموله، لكن يقدّر له ناصب، وتقديره: الرفث ليلة الصيام، فحذف، وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله:

وبعض الحلم عند الجهْـ ل للذلة إذعان

أن تقديره: إذعان للذلة إذعان، وكما خرّجوا قوله: { إني لكما لمن الناصحين } [الأعراف: 21] { إني لعملكم من القالين } [الشعراء: 168] أي ناصح لكما، وقال: لعملكم، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر، وأضيفت: الليلة، إلى الصيام على سبيل الاتساع، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة.

وقرأ الجمهور: الرفث، وقرأ عبد الله: الرُّفُوْثُ، وكنى به هنا عن الجماع، والرفث قالوا: هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ: النيك، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجيناً لما وجد منهم، إذ كان ذلك حراماً عليهم، فوقعوا فيه كما قال فيه: { تختانون أنفسكم } فجعل ذلك خيانة، وعدى بإلى، وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء، وحسن اللفظ به هذا التضمين، فصار ذلك قريباً من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله: { { فلما تغشاها } [الأعراف: 189] { ولا تقربوهن } [البقرة: 222] { { فأتوا حرثكم } [البقرة: 223] { فالآن باشروهن } .

والنساء جمع الجمع، وهو نسوة، أو جمع امرأة على غير اللفظ، وأضاف: النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص، إذ لا يحل الإفضاء إلاَّ لمن اختصت بالمفضي: إما بتزويج أو ملك.

{ هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ } اللباس، أصله في الثوب، ثم يستعمل في المرأة.

قال أبو عبيدة: يقال للمرأة هي لباسك، وفراشك، وإزارك لما بينهما من الممازجة. ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه في العناق، شُبِّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان.

قال الربيع: هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ، وقال مجاهد، والسدي: هن سكن لكم، أي: يسكن بعضكم إلى بعض، كقوله: { { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً } [الفرقان: 47] وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال، وهو عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس، وقدّم: هنّ لباس لكم، على قوله: وأنتم لباس لهنّ، لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها، والرجل هو البادئ بطلب ذلك الفعل، ولا تكاد المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل.

جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان: الطباق المعنوي، بقوله: { أحل لكم }، فإنه يقتضي تحريماً سابقاً، فكأنه أحل لكم ما حرّم عليكم، أو ما حرّم على من قبلكم، والكناية بقوله: الرفث، وهو كناية عن الجماع، والاستعارة البديعة بقوله: { هنّ لباس لكم }، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر، تقول: لابست ملابسةً ولباساً.

{ علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم }: إن كانت: عَلِم، معداة تعدية عرف، فسدت أن مسد المفعول، أو التعدية التي هي لها في الأصل، فسدّت مسدّ المفعولين، على مذهب سيبويه، وقد تقدم لنا نظير هذا. وتختاتون: هو من الخيانة، وافتعل هنا بمعنى فعل، فاختان. بمعنى: خان، كاقتدر بمعنى: قدر.

قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى، والاختيان هنا معبر به عما وقعوا فيه من المعصية بالجماع، وبالأكل بعد النوم، وكان ذلك خيانة لأنفسهم، لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم، فكأنه قيل: تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير، وقيل: معناه، تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه، وقيل: معناه: تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم.

يقال: تخوّن، وتخوّل، بمعنى: تعهد، فتكون النون بدلاً من اللام لأنه باللام أشهر. وقال أبو مسلم: هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس، ولذلك قال: أنفسكم، ولم يقل: الله، وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك، وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره، وقيل: ذلك على تقدير ولم يقع بعد، والمعنى: تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة، وهذا فيه ضعف لوجود: كان، ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل، ولمنافاة ظاهر قوله: { فتاب عليكم وعفا عنكم }.

{ فتاب عليكم } أي: قَبِل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور، وقيل: معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله: { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } [المزمل: 20] { فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } [النساء: 92] { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } [التوبة: 117] معناه كله التخفيف، وقيل: معناه أسقط عنكم ما افترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء، أو بعد النوم على الخلاف، وهذا القول راجع لمعنى القول الثاني: { وعفا عنكم } أي: عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم، وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال صلى الله عليه وسلم: "التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب" فهما راجعان إلى معنى واحد، وعاقب بينهما للمبالغة، وقيل: المعنى، سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف، أي: ترك لكم التحريم، كما تقول: هذا شيء معفو عنه، أي: متروك، ويقال: أعطاه عفواً أي سهلاً لم يكلفه إلى سؤال، وجرى الفرس شأوين عفواً، أي: من ذاته غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط، أو نخس بمهماز.

{ فالآن باشروهن } تقدم الكلام على، الآن، في قوله: { قالوا الآن جئت بالحق } [البقرة: 71] أي: فهذا الزمان، أي: ليلة الصيام باشروهن، وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي، ولأن الإجماع انعقد عليه، والمباشرة في قول الجمهور: الجماع، وقيل: الجماع فما دونه، وهو مشتق من تلاصق البشرتين، فيدخل فيه المعانقة والملامسة. وإن قلنا: المراد به هنا الجماع، لقوله: الرفث، ولسبب النزول، فإباحته تتضمن إباحة ما دونه.

{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي: اطلبوا، وفي تفسير: ما كتب الله، أقوال.

أحدهما: أنه الولد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والربيع، والسدي، والحكم بن عتيبة: لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم الله لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد، وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط، لكن لابتغاء ما شرع الله النكاح له من التناسل: "تناكحوا تناسلوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة" .

الثاني: هو محل الوطء أي: ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله: { فأتوهن من حيث أمركم الله } [البقرة: 222] .

الثالث: هو ما أباحه بعد الحظر، أي: ابتغوا الرخصة والإباحة، قاله قتادة: وابن زيد.

الرابع: وابتغوا ليلة القدر، قاله معاذ بن جبل، وروي عن ابن عباس. قال الزمخشري: وهو قريب من بدع التفاسير.

الخامس: هو القرآن، قاله ابن عباس، والزجاج. أي: ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به، ويرجحه قراءة الحسن، ومعاوية بن قرة: واتبعوا من الاتباع، ورويت أيضاً عن ابن عباس.

السادس: هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهنّ، لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردّة.

السابع: هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى: { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [المؤمنون: 6، المعارج: 30] .

الثامن: إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر.

وكتب هنا بمعنى: جعل، كقوله: { كتب في قلوبهم الإيمان } [المجادلة: 22] أو بمعنى: قضى، أو بمعنى: أثبت في اللوح المحفوظ، أو: في القرآن.

والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها، والمعنى، والله أعلم: ابتغوا وافعلوا ما أذن الله لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام، ويرجح هذا قراءة الأعمش: وأتوا ما كتب الله لكم. وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف.

{ وكلوا واشربوا } أمر إباحة أيضاً، أبيح لهم ثلاثة الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام { حتى يتبين } غاية الثلاثة الأشياء من: الجماع، والأكل، والشرب. وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بنت قيس، فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره، وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره { لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ظاهره أنه الخيط المعهود، ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، إلى أن نزل قوله تعالى: { من الفجر } فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار.

روى ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية، وروى أنه كان بين نزول: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } وبين نزول { من الفجر } سنة من رمضان إلى رمضان.

قال الزمخشري: ومن لا يجوِّز تأخير البيان ـ وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ـ وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم، فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى كلامه. وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة، بل هو من باب النسخ، ألا ترى أن الصحابة عملت به، أعني بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت: { من الفجر }، فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على ظاهرهما، وصارا ذلك مجازين، شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل، شبهاً بخيطين أبيض وأسود، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله: { من الفجر }، كقولك: رأيت أسداً من زيد، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة، لأن الاستعارة لا تكون إلاَّ حيث يدل عليها الحال، أو الكلام وهنا لو لم يأت: من الفجر، لم يعلم الإستعارة، ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول: من الفجر، حتى إن بعضهم، وهو عدي بن حاتم، غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله: من الفجر، فحمل الخيطين على الحقيقة. وحكي ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: "إن كان وسادك لعريضاً" وروي: "إنك لعريض القفاء. إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل" ، والقفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرجل، وقال:

عريض القفا ميزانه عن شماله قد أنحصَّ من حسب القراريط شاربه

وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطاً. وقال الزجاج: هما فجران: أحدهما يبدو سواداً معترضاً، وهو الخيط الأسود؛ والأخر يطلع ساطعاً يملأ الأفق، فعنده الخيطان: هما الفجران، سميا بذلك لامتدادهما تشبيهاً بالخيطين. وقوله: من الفجر، يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق، وهو البياض المستطير في الأفق، لا الصبح الكاذب، وهو البياض المستطيل، لأن الفجر هو انفجار النور، وهو بالثاني لا بالأوّل، وشبه بالخيط وذلك بأول حاله، لأنه يبدو دقيقاً ثم يرتفع مستطيراً، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك. هذا مذهب الجمهور، وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار، وهو مقتضى حديث ابن مسعود، وسمرة بن جندب.

وقيل: يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق، وعلى رؤوس الجبال، وهذا مروي عن عثمان، وحذيفة وابن عباس، وطلق بن علي، وعطاء، والأعمش، وغيرهم.

وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال: الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار، وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئاً من هذه، ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام، أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع.

وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر، فقال أحدهما: طلع الفجر، وقال الآخر: لم يطلع. فقال اختلفتما، فأكل وبان لا قضاء عليه.

قال الثوري، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي، وقال مالك: إن أكل شاكّاً في الفجر لزمه القضاء، والقولان عن أبي حنيفة.

وفي هذه التغيئة أيضاً دلالة على جواز المباشرة إلى التبين، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذوناً فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة. والحسن يرى: أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه، وقد روت عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع وهو صائم" ، وهذه التغيئة إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة، فلو كانت مقمرة أو مغيمة، أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر، فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر، إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع، فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراءً لدينه.

وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة: المباشرة، والأكل، والشرب. وأما ما عداها من القيء، والحقنة، وغير ذلك، فإنه كان على الإباحة، فبقي عليها.

وأما الفقهاء فقالوا: خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها، وأما القيء، والحقنة، فالنفس تكرههما، والسعوط نادر، فلهذا لم يذكرها.

ومن الأولى، هي لابتداء الغاية، قيل: وهي مع ما بعدها في موضع نصب، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود، كما يقال: بانت اليد من زندها، أي فارقته، ومن، الثانية للتبعيض، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله، ويتعلق أيضاً بيتبين، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى، فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية، ومِنْ الثانية هي للتبعيض. ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً، على قول الزجاج، لأن الفجر عنده فجران، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد، بل يكون جنساً.

قيل: ويجوز أن يكون { من الفجر } حالاً من الضمير في الأبيض، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: كائناً من الفجر، ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا، فكأنه قيل: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر، من الخيط الأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحديهما بيان للثاني، وكان الاكتفاء به أولى، لأن المقصود بالتبين، والمنوط بتبيينه: الحكم من إباحة المباشرة، والأكل، والشرب. ولقلق اللفظ لو صرح به، إذ كان: يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل، فيكون من الفجر بياناً للخيط الأبيض، ومن الليل بياناً للخيط الأسود. ولكون: من الخيط الأسود، جاء فضلة فناسب حذف بيانه.

{ ثم أتموا الصيام إلى الليل }: تقدم ذكر وجوب الصوم، فلذلك، لم يؤمر به هنا، ولم يتقدّم ذكر غايته، فذكرت هنا الغاية، وهو قوله: { إلى الليل } والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، لم يدخل في حكم ما قبلها، و: الليل، ليس من جنس النهار، فلا يدخل في حكمه، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل.

قال ابن عباس: أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء، فأمر الله تعالى بالخلاف لهم، وبالإفطار عند غروب الشمس.

والأمر بالإتمام هنا للوجوب، لأن الصوم واجب، فإتمامه واجب، بخلاف: المباشرة، والأكل، والشرب، فإن ذلك مباح في الأصل، فكان الأمر بها الإباحة.

وقال الراغب: فيه دليل على جواز النية بالنهار، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي صوم الوصال. انتهى.

أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار.

وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضاً، بل من الكلام الذي قبلها.

وأما الدلالة على نفي صوم الوصال، فليس بظاهر، لأنه غيَّا وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط، ولا منافاة بين هذا وبين الوصال، وصح في الحديث النهي عن الوصال، فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم، وبعضهم على الكراهة. وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتابعين، كعبد الله بن الزبير، وإبراهيم التيمي، وأبي الحوراء، ورخص بعضهم فيه إلى السحر، منهم: أحمد، وإسحاق، وابن وهب.

وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه، وهو قول الجمهور، وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم؛ وقال إسحاق وأهل الظاهر: لا قضاء عليه كالناسي؛ وروي ذلك عن عمر، وقال مالك: من أفطر شاكاً في الغروب قضى وكفر؛ وفي ثمانية أبي زيد: عليه القضاء فقط قياساً على الشاك في الفجر، فلو قطع الإتمام متعمد الجماع، فالإجماع على وجوب القضاء، أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي، والقضاء والكفارة عند بقية العلماء، أو ناسياً بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي، وعند مالك يلزمه القضاء، ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل، بل رفع نية الصوم، فهو على صومه عند الجمهور، ولا يلزمه قضاء، قال ابن حبيب؛ وعند مالك في المدوّنة: أنه يفطر وعليه القضاء.

وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلاَّ على من تقدّم له الصوم، فلو أصبح مفطراً من غير عذر لم يجب عليه الإمساك، لأنه لم يسبق له صوم فيتمه، قالوا: لكن السنة أوجبت عليه الإمساك، وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنفية لاندراجه تحت عموم: { وأتموا الصيام }.

وقالت الشافعية: المراد منه صوم الفرض، لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض. قال بعض أرباب الحقائق: لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ، قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك، فقال في حقه { وأتموا الصيام إلى الليل }. وحظك: { وكلوا واشربوا حتى يتبين }.

{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام، كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد، فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الآية وسياق المباشرة المذكورة قبل.

وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط، وقال بذلك فرقة، فالمنهي عنه الجماع، وقال الجمهور: يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به، وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم، وأن الاعتكاف يبطل بالجماع. وأما دواعي النكاح: كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك، وقال أبو حنيفة: إن فعل فأنزل فسد، وقال المزني عن الشافعي: إن فعل فسد، وقال الشافعي، أيضاً: لا يفسد من الوطء إلاَّ بما مثله من الأجنبية يوجب، وصح في الحديث "أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد" ، ولا شك أنها كانت تمسه. قالوا: فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور، وإذا كانت المباشرة معنياً بها اللمس، وكان قد نهي عنه فالجماع أحرى وأولى، لأن فيه اللمس وزيادة، وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة.

والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله، وهو من الشرائع القديمة.

وقرأ قتادة: وأنتم عكفون، بغير ألف، والجملة في موضع الحال أي: لا تباشروهن في هذه الحالة، وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف، والإجماع على أنه ليس بواجب، وثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف" ، فهو سنة، ولم تتعرض الآية لمطلوبيته، فنذكر شرائطه، وشرطه الصوم، وهو مروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والثوري والحسن بن صالح؛ وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف. وقال جماعة من التابعين، منهم سعيد، وإبراهيم: ليس الصوم شرطاً. وروي طاووس عن ابن عباس مثله، وبه قال الشافعي.

وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان، بل كل ما يسمى لبثاً في زمن ما، يسمى عكوفاً. وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: لا يعتكف أقل من عشرة أيام، هذا مشهور مذهبه، وروي عنه: أن أقلّه يوم وليلة.

وظاهر إطلاق العكوف أيضاً يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار، وأحدهما، فعلى هذا، لو نذر اعتكاف ليلة فقط صَحَّ، أو يوم فقط صَحَّ، وهو مذهب الشافعي وقال سحنون: لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه. وقال أبو حنيفة: لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها.

وفي الخروج من المعتكف، والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة، والدخول إليه، وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقه.

وظاهر قوله: { عاكفون في المساجد }، أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها، ونظير ذلك: لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلاَّ فرساً، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف، فذكر: المساجد، إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلاَّ فيها، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.

والظاهر من قوله: في المساجد، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف، وبه قال أبو قلابة، وابن عيينة، والشافعي، وداود الطبري، وابن المنذر، وهو أحد قولي مالك، والقول الآخر: أنه لا اعتكاف إلاَّ في مسجد يجمع فيه، وبه قال عبد الله، وعائشة، وإبراهيم، وابن جبير، وعروة وأبو جعفر.

وقال قوم: إنه لا اعتكاف إلاَّ في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة.

وقال قوم: لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبي، وبه قال ابن المسيب، وهو موافق لما قبله، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وروى الحارث عن عليّ: أنه لا اعتكاف إلاَّ في المسجد الحرام، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال، وأما النساء فمسكوت عنهن. وقال أبو حنيفة: تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره، وقال مالك: تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها. وقال الشافعي: حيث شاءت.

وقرأ مجاهد، والأعمش: في المسجد، على الإفراد، وقال الأعمش: هو المسجد الحرام، والظاهر أنه للجنس. ويرجح هذا قراءة من جمع فقرأ في المساجد.

وقال بعض الصوفية في قوله: { ولا تباشروهنّ } الآية. أخبر الله أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ. انتهى.

{ تلك حدود الله } تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف، لأنه شيء واحد، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى هنا. وكانت آية الصيام قد تضمنت عدّة أوامر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي، ثم جاء آخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف، فأطلق على الكل: حدود، تغليباً للمنطوق به، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر. فقيل: حدود الله، واحتيج إلى هذا التأويل، لأن المأمور بفعله لا يقال فيه: فلا تقربوها، وحدود الله: شروطه، قاله السدّي. أو: فرائضه، قاله شهر بن حوشب. أو: معاصيه، قاله الضحاك. وقال معناه الزمخشري، قال: محارمه ومناهيه، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية.

وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا، وحيث ذكرت، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها، ولم تأت منكرة ولا معرّفة بالالف واللام لهذا المعنى.

{ فلا تقربوها } النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" . والرتع حول الحمى وقربانه واحد، وجاء هنا: فلا تقربوها، وفي مكان آخر: { فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله } [البقرة: 229] وقوله: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده } [النساء: 14] لأنه غلب هنا جهة النهي، اذ هو المعقب بقوله: تلك حدود الله، وما كان منهياً عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ، وأما حيث جاء: فلا تعتدوها، فجاء عقب بيان عدد الطلاق، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض، فناسب أن ينهي عن التعدي فيها، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها، وكذلك قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده } [النساء: 14] جاء بعد أحكام المواريث، وذكر أنصباء الوارث، والنظر في أموال الأيتام، وبيان عدد ما يحل من الزوجات، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه. وجاء قوله: { تلك حدود الله }، عقيب قوله: { وصية من الله } [النساء: 12] ثم وعد من أطاع بالجنة، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته.

وقال أبو مسلم معنى: لا تقربوها: لا تتعرّضوا لها بالتغيير، كقوله: { ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن } [الأنعام: 152، الإسراء: 34] .

{ كذلك يبين الله آياته } أي: مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته، وقال أبو مسلم: المراد بالآيات: الفرائض التي بينها، كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل. انتهى كلامه. وهذا لا يتأتى إلاّ على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به.

{ للناس }: ظاهره العموم وقال ابن عطية: معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن { { إن الله يضل من يشاء } [الرعد: 27] انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص، بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم، ويكسيها لهم حتى تصير حلية واضحة، ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها، لأنك تقول: بينت له فما بين، كما تقول: علمته فما تعلم.

ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين، يجعل فيهم البيان، فلذلك ادّعى أن المعنى على الخصوص، لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى، جعل في قوم الضلال، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعاً منا ومن المعتزلة، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين.

{ لعلهم يتقون } قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة، وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر مشتهى بالطبع اشتهاءً عظيماً بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلاّ التقوى، فلذلك ختمت هذه الآية بها أي: هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم.

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال مقاتل: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، وكان امرؤ القيس المطلوب، وعدان الطالب، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فنزلت، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائماً له، ممنوعاً من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلاّ من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة، فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه، وتخلل أيضاً بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي، وسؤال العباد الله تعالى، وقد جاء في الحديث: "إن من كان مطعمه حراماً، وملبسه حراماً، ومشربه حراماً، ثم سأل الله أنَّى يستجاب له" . فناسب أيضاً النهي عن أكل المال الحرام.

ويجوز أن تكون المناسبة: أنه لما أوجب عليهم الصوم، كما أوجبه على من كان من قبلهم، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل، كما قال تعالى: { ويشترون به ثمناً قليلاً } [البقرة: 174] { ليس علينا في الأميين سبيل } [آل عمران: 75] { { أكالون للسحت } [المائدة: 42] وأن يكونوا مخالفيهم قولاً، وفعلاً، وصوماً، وفطراً، وكسباً، واعتقاداً، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور: "خالفوا اليهود" وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض، إذ نزل { فاعتزلوا النساء في المحيض } [البقرة: 222] لاعتزال اليهود، بأن لا يؤاكلوهنّ، ولا يناموا معهنّ في بيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعلوا كل شيء إلا النكاح" . فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه.

والمفهوم من قوله تعالى: { ولا تأكلوا }، الأكل المعروف، لأنه الحقيقة. وذكره دون سائر وجوه الإعتداء والإستيلاء، لأنه أهم الحوائج، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال. ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازاً عبر به عن الأخذ والإستيلاء، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين، وإضافة الأموال إلى المخاطبين. والمعنى: ولا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: { ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهياً ومنهياً عنه، وآكلاً ومأكولاً منه، فخلط الضمير لهذه الصلاحية، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة، بل هي من باب الإضافة بالملابسة. وأجاز قوم الإضافة للمالكين، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم، لقوله: تديرونها بينكم بالباطل. وقال الزجاج بالظلم، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب، والنهب، والقمار، وحلوان الكاهن، والخيانة، والرشاء، وما يأخذه المنجمون، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع.

وقال ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه، فيجحد المال ويخاصم صاحبه. وهو يعلم أنه آثم؛ وقال عكرمة: هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم، وقال ابن عباس، أيضاً: هو أخذ المال بشهادة الزور، قال ابن عطية: ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع، لأن الغبن كأنه وهبة. انتهى. وهو صحيح.

والناصب للظرف: تأكلوا، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص، ثم بين المعاني. وفي قوله: بينكم، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج إلى هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك، وقيل: انتصاب: بينكم، على الحال من: أموالكم، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بينكم، وهو ضعيف، والباء في: بالباطل، للسبب وهي تتعلق: بتأكلوا، وجوزوا أن تكون بالباطل، حالاً من الأموال، وأن تكون حالاً من الفاعل.

{ وتدلوا بها إلى الأحكام } هو مجزوم بالعطف على النهي، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام، وكذا هي في مصحف أبيّ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية. والظاهر، أن الضمير في: بها، عائد على الأموال، فنهوا عن أمرين: أحدهما: أخذ المال بالباطل، والثاني: صرفه لأخذه بالباطل، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوباً على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري، وحكى ابن عطية أنه قيل: تدلوا، في موضع نصب على الظرف، قال: وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى.

ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي، وتجويز الزمخشري ذلك هنا، فتلك مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالنصب.

قال النحويون: إذا نصبت كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين:

أحدهما: أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما، لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات؟.

والثاني: وهو أقوى، إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له، لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما، بل إنما يترتب على وجود أحدهما، وهو: الإدلاء بالأموال إلى الحكام. والإدلاء هنا قيل: معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم. أما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكون المال أمانة: كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدّعى عليه، والباء على هذا القول للسبب، وقيل: معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم، وهو الأقل، وأيضاً: فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا، من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنها يمدّ بها لتقضي الحاجة. انتهى كلامه. وهو حسن.

وقيل: المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم: أدلى فلان بحجته، قام بها، وهو راجع لمعنى القول الأوّل، والضمير في: بها عائد على الأموال، كما قررناه، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور، أي: لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام، فيحتمل على هذا القول: أن يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور، ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس، بسبب شهادة أولئك الشهود.

{ لتأكلوا فريقاً } أي: قطعة وطائفة { من أموال الناس } قيل. هي أموال الأيتام، وقيل: هي الودائع. والأَوْلى العموم، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق، و: من أموال الناس، في موضع الصفة أي: فريقاً كائناً من أموال الناس. { بالإثم } متعلق بقوله: لتأكلوا، وفسر بالحكم بشهادة الزور، وقيل: بالرشوة، وقيل: بالحلف الكاذب، وقيل: بالصلح، مع العلم بأن المقضي له ظالم، والأحسن العموم، فكل ما أخذ به المال ومآله إلى الإثم فهو إثم، والاصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر:

جمالية تعتلى بالرداف إذا كذب الآثمات الهجيرا

أي: المقصرات، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثماً.

والباء في: بالإثم للسبب، ويحتمل أن تكون للحال أي: متلبسين بالإثم، وهو الذنب، { وأنتم تعلمون } جملة حالية أي: أنكم مبطلون آثمون، وما أعدّ لكم من الجزاء على ذلك، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها، وخصوصاً حقوق العباد. وفي الحديث: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقضي له قطعة من نار" .

وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه، وهذا في الأموال باتفاق، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور، والمحكوم له يعلم بذلك.

فقال أبو حنيفة: هو نافذ، وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور.

وقال الجمهور: ينفذ ظاهراً ولا ينفذ باطناً.

وفي قوله: { وأنتم تعلمون } دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم، وحكم له الحاكم بأخذ مال، فإنه يجوز له أخذه، كأن يلقى لأبيه ديناً وأقام البينة على ذلك الدين، فحكم له به الحاكم، فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك، إذ من الجائز أن أباه وهبه، أو أن المدين قضاه، أو أنه مكره في الإقرار، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه. والأصل عدم براءة المقرّ، وعدم إكراهه، فيجوز له أن يأخذه.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريباً لهم، وتحريكاً لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسياً في هذا التكليف الشاقّ بمن قبلنا، فليس مخصوصاً بنا، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله: أيّاماً معدودات أُوَّلَ: يحصرها العدّ من قلتها، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره، وأوجب عليه قضاء عدتها إذا صح وأقام، ثم ذكر أن من أطاق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدي بإطعام مساكين، ثم ذكر أن التطوّع بالخير، هو خير، وان الصوم أفضل من الفطر، والفداء، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان، وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولاً بالأخف فالأخف، ينتهي إلى الحدّ الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة، فيستقرّ الحكم.

ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه، وعذر من كان مريضاً أو مسافراً، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين للتيسير.

ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر، وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة، ولتعظيم الله، ولرجاء الشكر، فقابل كل مشروع بما يناسبه، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم، ذكر قربه بالمكانة منهم، فإذا سألوه أجابهم، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه، ثم طلب منهم الإستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا دعوه، ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان، لأنه أصل العبادات وبصحته تصح، ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به، ثم امتنّ عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه، وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها، ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن، ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم، ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الأخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال: { فالآن باشروهنّ }، وكذلك الأكل والشرب، وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر، ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل. ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم، وكان من أحوال الصائم الاعتكاف، وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراماً نبه على ذلك بقوله: { ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد }.

ثم أشار إلى الحواجز وهي: الحدود، وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدّها هو الله تعالى، فنهاهم عن قربانها، فضلاً عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها، ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى، ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل، وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها، ونهاكم أيضاً عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئاً من الأموال التي لا يستحقونها، وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحاً لهم، وتوبيخاً لهم، لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيء كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها. وبما يترتب عليها.

ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات، حتى إنه جاء في الحديث: "فإن امرئ سبه، فليقل: إني صائم" . وجاء عن الله تعالى: "الصوم لي وأنا أجزي به" ، وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه، اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل، ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه، فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من «الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش». فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به، واختتمت بمحرم منهي عنه، وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضاً أمر ونهي، وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى تعالى عنه، أعاننا الله عليها.