التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٠٣
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ
٢٠٤
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ
٢٠٥
وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٢٠٦
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٢٠٨
فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٠٩
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٢١٠
سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢١١
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢١٢
-البقرة

البحر المحيط

العجلة: الإِسراع في شيء والمبادرة، وتعجل تفعل منه وهو إما بمعنى استفعل، وهو أحد المعاني التي يجيء لها تفعل فيكون بمعنى استعجل، كقولهم: تكبر واستكبر، وتيقن واستيقن، وتقضى واستقضى، وتعجل واستعجل، يأتي لازماً ومتعدياً، تقول: تعجلت في الشيء وتعجلته، واستعجلت في الشيء واستعجلت زيداً، وإمّا بمعنى الفعل المجرّد فيكون بمعنى: عجل، كقولهم: تلبث بمعنى لبث، وتعجب وعجب، وتبرّ أو برىء، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.

الحشر: جمع القوم من كل ناحية، والمحشر مجتمعهم، يقال منه: حشر يحشر، وحشرات الأرض دوابها الصغار، وقال الراغب: الحشر: ضم المفترق وسوقه، وهو بمعنى الجمع الذي قلناه.

الإِعجاب: افعال من العجب وأصله، لما لم يكن مثله قاله المفضل، وهو الاستحسان للشيء والميل إليه والتعظيم، تقول أعجبني زيد. والهمزة فيه للتعدّي، وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإِنسان بسبب الشيء وليس هو شيئاً له في ذاته حالة، بل هو بحسب الإِضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه. وحقيقة أعجبني كذا أي: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه. انتهى كلامه. وقد يقال عجبت من كذا في الإِنكار، كما قال زياد الأعجم:

عجبت والدهر كثير عجبه من عنزي سبني لم أضربه

اللدد: شدّة الخصومة، يقال: لددت تلد لدداً ولدادة، ورجل ألدّ وامرأة لدّاء، ورجال ونساء لدّ، ورجل التدد ويلتدد أيضاً شديد الخصومة، وإذا غلب خصمه قيل: لدّه يلدّه، متعدياً، وقال الراجز:

يلدّ أقران الرجال اللدد

واشتقاقه من لديدي العنق، وهما: صفحتاه، قاله الزجاج، وقيل: من لديدي الوادي وهما جانباه، سميا بذلك لإعوجاجهما، وقيل: هو من لدّه: حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته ومقاومته.

الخصام: مصدر خاصم، وجمع خصم يقال: خصم وخصوم وخصام، كبحر وبحور بحار، والأصل في الخصومة التعميق في البحث عن الشيء، ولذلك قيل: في زوايا الأوعية: خصوم، الواحد. خصم.

النسل: مصدر: نسل ينسل، وأصله الخروج بسرعة ومن قولهم: نسل وبر البعير، وشعر الحمار، وريش الطائر: خرج فسقط منه، وقيل: النسل الخروج متتابعاً، ومنه: نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه، وقال:

فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل

والإِطلاق على الولد نسلاً من إطلاق المصدر على المفعول، يسمى بذلك لخروجه من ظهر الأب، وسقوطه من بطن الأمّ بسرعة.

جهنم: علم للنار وقيل: إسم الدرك الأسفل فيها، وهي عربية مشتقة من قولهم: ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر، وقد سمي الرجل بجهنام أيضاً فهو علم، وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة، فالنون على هذا زائدة، فوزنه: فعنل، وقد نصوا على أن جهناماً وزنه فعنال.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن فعنلاً بناء مفقود في كلامهم، وجعل دونكاً: فعللا، كعدبس. والواو أصل في بنات الأربعة كهي في: ورنتل، والصحيح إثبات هذا البناء. وجاءت منه ألفاظ، قالوا: ضغنط من الضغاطة، وهي الضخامة، وسفنج، وهجنف: للظليم والزونك: القصير سمي بذلك لأنه يزوك في مشيته. أي: يتبختر، قال حسان:

أجمعت أنك أنت ألأم من مشى في فحش زانيةٍ وزوكِ غراب

وقال بعضهم في معناه: زونكي.

وهذا كله يدل على زيادة النون في: جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: هي أعجمية وأصلها كهنام، فعربت بإبدال من الكاف جيماً. وبإسقاط الألف، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية.

حسب: بمعنى: كافٍ، تقول أحسبني الشيء: كفاني، فوقع حسب موقع: محسب، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء زائدة، وإذا استعمل خبراً لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة، تقول: مررت برجل حسبك، ويجيء معه التمييز نحو: برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر.

المهاد: الفراش وهو ما وطىء للنوم، وقيل: هو جمع مهد، وهو الموضع المهيأ للنوم.

السلم: بكسر السين وفتحها: الصلح، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام، وهو الانقياد. وحكى البصريون عن العرب: بنو فلان سِلم وسَلم بمعنى واحد، ويطلق بالفتح والكسر على الإسلام، قاله الكسائي وجماعة من أهل اللغة، وأنشدوا بعض قول كندة:

دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا

أي: للإِسلام، قال ذلك لما ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال آخر في الفتح:

شرائعُ السِّلم قد بانت معالمها فما يرى الكُفْرَ إلاَّ من به خبلُ

يريد: الإِسلام، لأنه قابله بالكفر، وقيل بالكسر: الإِسلام وبالفتح: الصلح.

كافة: هو اسم فاعل استعمل بمعنى: جميعاً، وأصل اشتقاقه من كف الشيء: منع من أخذه، والكف المنع، ومنه كفة القميص حاشيته، ومنه الكف وهو طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف منع بصره أن ينظر، ومنه كفة الميزان لأنها تمنع الموزون أن ينتشر، وقال بعض اللغويين: كفة بالضم لكل مستطيل، وبالكسر لكل مستدير، وكافة: مما لزم انتصابه على الحال نحو: قاطبة، فاخراجها عن النصب حالاً لحن.

التزيين: التحسين، والزينة مما يتحسن به ويتجمل، وفعل من الزين بمعنى الفعل المجرد، والتضعيف فيه ليس للتعدية، وكونه بمعنى المجرد وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل كقولهم: قدّر الله، وقَدَرَ. وميز وماز، وبشر وبشر، ويبنى من الزين افتعل افتعال: ازدان بإبدال التاء دالاً، وهو لازم.

{ واذكروا الله في أيام معدودات } هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة، قولان. وعن عمر أنه كان يكبر بفسطاطه بمنًى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق، وفي الطواف، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وليس يوم النحر من المعدودات، هذا مذهب الشافعي، وأحمد، ومالك وأبي حنيفة، قاله: ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسدّي، والربيع، والضحاك. أو يوم النحر ويومان بعده، قاله: ابن عمر، وعلي، وقال: إذبح في أيها شئت، أو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق، قاله: المروزي. أو أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عباس، قيل: وقولهم أيام العشر، غلط من الرواة، وقال ابن عطية: إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر، وفي ذلك بُعْدٌ.

وتكلم المفسرون هنا على قوله: { { في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } [الحج: 28] ونحن نؤخر الكلام على ذلك إلى مكانه إن شاء الله.

واستدل ابن عطية للقول الأول وهو: أن الأيام المعدودات: أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها. بأن قال: ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر. وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلاً يوم القر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات إنتهى كلامه.

ولا يلزم ما قاله، لأن قوله: فمن تعجل في يومين، لا يمكن حمله على ظاهره، لأن الظرف المبني إذا عمل فيه الفعل فلا بدّ من وقوعه في كل واحد من اليومين، لو قلت: ضربت زيداً يومين، فلا بدّ من وقوع الضرب به في كل واحد من اليومين، وهنا لا يمكن ذلك، لأن التعجيل بالنفر لم يقع في كل واحد من اليومين، فلا بدّ من ارتكاب مجاز، إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما، ويصير نظير: { { نسيا حوتهما } [الكهف: 61] { { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن: 22] وإنما الناسي أحدهما، وكذلك، إنما يخرجان من أحدهما. أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف، التقدير: فمن تعجل في ثاني يومين بعد يوم النحر، فيكون اليوم الذي بعد يوم القر المتعجل فيه، ويحتمل أن يكون المحذوف في: تمام يومين أو إكمال يومين، فلا يلزم أن يقع التعجل في شيء من اليومين، بل بعدهما. وعلى هذا يصح أن يعد يوم النحر من الأيام المعدودات، ولا يلزم أن يكون النفر يوم القر، كما ذكره ابن عطية.

وظاهر قوله { واذكروا الله في أيام معدودات } الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات، ولم يبين ما هذه الأيام، لكن قوله: { فمن تعجل في يومين } يشعر أن تلك الأيام هي التي ينفر فيها، وهي أيام التشريق، وقد قال في (ريّ الظمآن): أجمع المفسرون على أن الأيام المعدودات أيام التشريق. انتهى.

وجعل الأيام ظرفاً للذكر يدل على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه، ويؤيده قوله: { فمن تعجل في يومين } وأن الخطاب بقوله: واذكروا، ظاهر أنه للحجاج، إذ الكلام معهم، والخطاب قبلُ لهم، والإخبار بعدُ عنهم، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به.

ومن حمل الذكر هنا على أنه الذكر المشروع عقب الصلاة فهو منهم في الوقت وفي الكيفية.

أما وقته: فمن صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، قاله عمر، وعليّ، وابن عباس، أو: من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وعلقمة، وأبو حنيفة. أو: من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي الصبح آخر أيام التشريق، وروي عن مالك هذا. أو: من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق، قاله يحيــــى بن سعيد. أو: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك، والشافعي. أو: من ظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن شهاب. أو: من ظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، قاله سعيد بن جبير. أو: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول، قاله الحسن. أو: من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر، قاله أبو وائل. أو: من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، قاله زيد بن ثابت، وبه أخذ أبو يوسف في أحد قوليه.

وأما الكيفية: فمشهور مذهب مالك ثلاث تكبيرات وفي مذهبه أيضاً رواية أنه يزيد بعدها: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. ومذهب أبي حنيفه، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر. ومذهب الشافعي: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وقال أبو حنيفة: يختص التكبير بإدبار الصلوات المكتوبة في جماعة، وقال مالك: مفرداً كان أو في جماعة عقب كل فريضة، وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد؛ وعن أحمد: القولان، والمسافر كالمقيم في التكبير عند علماء الأمصار، ومشاهير الصحابة، والتابعين. وعن أبي حنيفة: أن المسافرين إذا صلوا جماعة لا تكبير عليهم، فلو اقتدى مسافر بمقيم كبَّر، وينبغي أن يكبر عقب السلام، والجمهور يعمل شيئاً يقطع به الصلاة من الكلام وغيره، وقيل استدبار القبلة، والجمهور على ذلك، فإن نسي التكبير حين فرغ وذكر قبل أن يخرج من المجلس فينبغي أن يكبر.

وقال مالك في (المختصر): يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام منه فلا شيء عليه وقال في (المدوّنة): إن نسيه وكان قريباً قعد فكبر، أو تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب الامام والقوم جلوس فليكبروا، وكذلك قال أبو حنيفة، ومن نسي صلاة في أيام التشريق من تلك السنة قضاها وكبر، وإن قضى بعدها لم يكبر، ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب الفقة.

والذي يظهر ما قدمناه من أن هذا الخطاب هو للحجاج، وأن هذا الذكر هو ما يختص به الحاج من أفعال الحج، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلاَّ بدليل، وأن الذكر في أيام منى، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحجاج، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي.

{ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } الظاهر أن: تعجل، هنا لازم لمقابلته بلازم في قوله { من تأخر } فيكون مطاوعاً لعجل، فتعجل، نحو كسره فتكسر، ومتعلق التعجل محذوف، التقدير: بالنفس، ويجوز أن يكون تعجل متعدياً ومفعوله محذوف أي: فمن تعجل النفر، ومعنى: في يومين من الأيام المعدودات. وقالوا: المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، وسبق كلامنا على تعليق في يومين بلفظ تعجل، وظاهر قوله: فمن تعجل، العموم، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني، وبهذا قال عطاء. قال ابن المنذر: وهو يشبه مذهب الشافعي، وبه نقول، انتهى كلامه. فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم.

وقال مالك وغيره: ولم يبح التعجيل إلاَّ لمن بَعُدَ قطره لا للمكي ولا للقريب إلاَّ أن يكون له عذر.

وروي عن عمر أنه قال: من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول، إلاَّ آل خزيمة. فإنهم لا ينفرون إلاَّ في النفر الآخر، وجعل أحمد، واسحاق قول عمر: إلاَّ آل خزيمة، أي: أنهم أهل حرم، وكان أحمد يقول: لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.

وظاهر قوله: في يومين، أن التعجل لا يكون بالليل بل في شيء من النهار، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار، وهو مذهب الشافعي، وهو مروي عن قتادة. وقال أبو حنيفة: قبل طلوع الفجر، ويعني من اليوم الثالث، وروي عن عمر، وابن عامر، وجابر بن زيد، والحسن، والنخعي. أنهم قالوا: من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو، وهذا مخالف لظاهر القرآن لأنه قال: في يومين، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه، قال ابن المنذر: ويمكن أن يقولوا ذلك استحباباً.

وظاهر قوله: ومن تعجل، سقوطه الرمي عنه في اليوم الثالث، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره.

وقال ابن أبي زمنين: يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل. قال ابن المواز: يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، يعنى: لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر. قال ابن المواز: ويسقط رمي اليوم الثالث.

وظاهر قوله { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل } إلى آخره. مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق. لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلاَّ بها إلاَّ للرعاء، ومن ولي السقاية من آل العباس، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى، فقال مالك، وأبو حنيفة: عليه دم، وقال الشافعي: من ترك المبيت في الثلاث الليالي، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم، أو مد أو درهم، ثلاثة أقوال، ولم تتعرض الآية للرمي، لا حكماً، ولا وقتاً، ولا عدداً، ولا مكاناً لشهرته عندهم. وتؤخذ أحكامه من السنة.

وقيل: في قوله: واذكروا الله، تنبيه عليه، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها، فلا إثم عليه.

وقرأ سالم بن عبد الله: فلا إثم عليه، بوصل الألف، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين، فقربت بذلك من السكون فحذفها تشبيهاً بالألف، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء، وهذا جواب الشرط إن جعلنا: مِنْ، شرطية، وهو الظاهر، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر، وظاهره نفي الإثم عنه، ففسر بأنه مغفور له، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه، روي هذا عن علي، وأبي ذر، وابن مسعود، وابن عباس، والشعبي، ومطرف بن الشخير، وقال معاوية بن قرة: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول، وقال مجاهد: المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل.

والذي يظهر أن المعنى: فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير، لأن الجزاء مرتب على الشرط، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر، وقاله عطاء، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي: ثلاثة أيام، أو بأربعة، أو بالعشر، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل، فنفى بقوله: فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث، فينفر فيه، وسوَّى بينه في الاباحة وعدم الحرج، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل، فقيل: جاء ومن تأخر فلا إثم عليه، لأجل مقابلة: فمن تعجل فلا إثم عليه، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك، وقيل: فلا إثم عليه في ترك الرخصة.

وقيل: كان أهل الجاهلية فريقين: منهم من يؤثم المتعجل، ومنهم من يؤثم المتأخر، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما، وقيل: إنه عبر بذلك عن المغفرة، كما روي عن علي ومن معه. وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر، وقيل: المعنى: ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه، فكأنه قيل: أيام منى ثلاثة، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه.

وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله: فمن تعجل، ومن تأخر، والطباق ذكر الشيء وضده، كقوله { وأنه هو أضحك وأبكى } [النجم: 43] وهو هنا طباق غريب، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى، ومطابق تأخر تقدم، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم.

وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر، وإنما أتى بقوله: فلا إثم عليه، مقابلاً لقوله: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، كقوله: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } [البقرة: 194] وتقدّمت الإشارة إلى هذا { لمن اتقى } قيل: هو متعلق بقوله: واذكروا الله، أي الذكر لمن اتقى، وقيل: بانتفاء الإثم أي: يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وقيل: المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة، قاله الزمخشري، وقال أيضاً: لا يجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى، لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: ذلك خير للذين يريدون وجهه انتهى كلامه.

واتقى: هنا حاصلة لِمَنْ. وهي بلفظ الماضي، فقيل: هو ماضي المعنى أيضاً، أي: المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقياً منيباً قبل حجه، نحو: { إنما يتقبل الله من المتقين } [المائدة: 27] وحقيقته أن المصرّ على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر، وقيل: اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج، قال قتادة، وأبو صالح. وقال ابن عباس: لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال، وقال الماتريدي: لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام، وقيل: يراد به المستقبل، أي: لمن يتقي الله في باقي عمره كما قدمناه.

والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه، ولصحة المعنى أيضاً، إذ من لم يكن متقياً لم يرتفع الإثم عنه.

والظاهر أن مفعول اتقى المحذوف هو: الله، أي: لمن اتقى الله، وكذا جاء مصرحاً به في مصحف عبد الله.

{ واتقوا الله } لما ذكر تعالى رفع الإثم، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله، أمر بالتقوى عموماً، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازات، فيكون ذلك حاملاً لهم على اتقاء الله، لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب، وأن يعظم له الثواب، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفاً بها، كان ذلك الأمر أمراً بالدوام، في ذكر الحشر تخويف من المعاصي، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلاَّ الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه.

وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر: وقت الحج إلى آخر فعل، وهو: النفر، وبدئت أولاً بالأمر بالتقوى، وختمت به، وتخلل الأمر بها في غضون الآية، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها، ولِمَ لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته، وهذا غاية الطاعة لله تعالى، وبها يتميز الطائع من العاصي؟

{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } نزلت في الأخنس بن شريق واسمه: أبي، وكان حلو اللسان والمنظر، يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر حبه، والإسلام، ويحلف على ذلك، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر، وكان من ثقيف حليفاً لبني زهرة، فجرى بينه وبين ثقيف شيء، فبيتهم ليلاً وأحرق زرعهم، وأهلك مواشيهم، قاله عطاء، والكلبي، ومقاتل. وقال السدي: فمر بزرع للمسلمين وحُمْرٍ، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، قيل: وفيه نزلت { ولا تطع كل حلاف مهين } [القلم: 10] و { { ويل لكل همزة لمزة } [الهمزة: 1] .

وقال ابن عباس: في كفار قريش، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد أسلمنا، فابعث إلينا من يعلمنا دينك، وكان ذلك مكراً منهم، فبعث إليهم خبيباً، ومرثداً، وعاصم بن ثابت، وابن الدثنة، وغيرهم، وتسمى: سرية الرجيع، والرجيع موضع بين مكة والمدينة، فقتلوا، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح.

وقال قتادة، وابن زيد: نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه.

وروي عن ابن عباس: أنها في المنافقين، قالوا عن سرية الرجيع: ويح هؤلاء ما فقدوا في بيوتهم، ولا أدوا رسالة صاحبهم.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما قسم السائلين الله قبلُ إلى: مقتصر على أمر الدنيا، وسائل حسنة الدنيا والآخرة، والوقاية من النار، أتى بذكر النوعين هنا، فذكر مِن النوع الأول من هو حلو المنطق، مظهر الود، وليس ظاهره كباطنه، وعطف عليه من يقصد رضى الله تعالى، ويبيع نفسه في طلبه، وقدم هنا الأول لأنه هناك المقدم في قوله: { { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا } [البقرة: 201] وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره، من الأوصاف، لأن القول هو الظاهر منه أولاً في قوله تعالى: { { فمن الناس من يقول ربنا } [البقرة: 200]، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا، وإن سأل منه ما ينجيه من عذابه، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته.

و: مَنْ، من قوله: من يعجبك، موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، والكاف في: يعجبك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إن كانت نزلت في معين، كالأخنس أو غيره، أو خطاب لمن كان مؤمناً إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديماً أو حديثاً.

ومعنى إعجاب قوله استحسانه لموافقة ما أنت عليه من الإيمان والخبر، وجاء في الترمذي: "أن في بعض كتب الله أن من عباد الله قوماً ألسنتهم من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر" ، الحديث.

في الحياة، متعلق بقوله، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا، لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا. ولا يريد به الآخرة، إذ لا تراد الآخرة إلاَّ بالإيمان الحقيقي، والمحبة الصادقة، وقال الزمخشري، بعد أن ذكر هذا الوجه: ويجوز أن يتعلق بيعجبك أي: قوله حلو، فيصح: في الدنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما ترهقه في الموقف من الحبسة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه. انتهى. وفيه بُعد.

والذي يظهر أنه متعلق بيعجبك لا على المعنى الذي قاله، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدة حياته، إذ لا يصدر منه من القول إلاَّ ما هو معجب رائق لطيف، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً. أَلاَ تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائقة، إلى مقالة خشنة منافية، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة، وأقواله الباطلة مخالفة أيضاً لأقواله الظاهرة؟ إذ لا يحمل قوله: يعجبك قوله، وقوله: { هو ألدّ الخصام } إلاَّ على حالتين: فهو حلو المقالة في الظاهر، شديد الخصومة في الباطن.

{ ويشهد الله على ما في قلبه } قرأ الجمهور بضم الياء وكسر الهاء. ونصب الجلالة من: أشهد، وقرأ أبو حيوة، وابن محيصن بفتح الياء والهاء ورفع الجلالة، من شهد، وقرأ أبي، وابن مسعود: ويستشهد الله، والمعنى على قراءة الجمهور، وتفسير الجمهور، أنه يحلف بالله ويشهده أنه صادق وقائل حقاً، وأنه محب في الرسول والإسلام، وقد جاءت الشهادة في معنى القسم في قصة الملاعنة في سورة النور، قيل: ويكون اسم الله انتصب بسقوط حرف الجر، والتقدير: ويقسم بالله على ما في قلبه، وهذا سهو، لأن الذي يكون يقسم به هو الثلاثي لا الرباعي، تقول: أشهد بالله لأفعلن، ولا تقول: أشهد بالله.

والظاهر عندي أن المعنى: أنه يطلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحداً لشدة تكتمه وإخفائه الكفر، وهو ظاهر قوله: { على ما في قلبه }، لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله.

وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى، أي: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه، لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضده، وهو الذي يعجب به. ويقوي هذا التأويل قراءة أبي حيوة، وابن محيصن، إذ معناها: ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله.

وقراءة: ويستشهد، بجواز أن تكون فيها: استفعل، بمعنى: أفعل: نحو أيقن واستيقن، فيوافق قراءة الجمهور، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون فيها: استفعل، بمعنى المجرد، فيكون استشهد بمعنى شهد، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر، أي ويستشهد بالله، كما تقول: ويشهد بالله، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى، أي: ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه، والظاهر أن قوله: ويشهد الله، معطوف على قوله: يعجبك، فهو صلة، أو صفة. وجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف، فتكون الجملة حالاً من الفاعل المستكن في: يعجبك، أو: من الضمير المجرور في قوله. التقدير: وهو يشهد الله، فيكون ذلك قيداً في الإعجاب، أو في القول، والظاهر عدم التقييد، وأنه صلة، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ لأن المضارع المثبت، ومعه الواو، يقع حالاً بنفسه، فأحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصك، والإضمار على خلاف الأصل.

{ وهو ألدّ الخصام } أي: أشد المخاصمين، فالخصام جمع خصم، قاله الزجاج، وإن أريد بالخصام المصدر، كما قاله الخليل، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ، إما من المبتدأ، أي: وخصامه ألدّ الخصام، وإما من متعلق الخبر، أي: وهو ألدّ ذوي الخصام، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل، كما يوصف بالمصدر في: رجل خصم، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة، كأنه قيل: وهو شديد الخصومة، وأن يكون هو ضمير الخصومة، يفسره سياق الكلام، أي: وخصامه أشدّ الخصام.

وتقاربت أقاويل المفسرين في: ألدّ الخصام، قال ابن عباس: معناه ذو الجدال، وقال الحسن: الكاذب المبطل، وقال قتادة: شديد القسوة في معصية الله، وقال السدي: أعوج الخصومة. وقال مجاهد: لا يستقيم على حق في الخصومة.

والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة مَنْ، فهي صلة، وجوزوا أن تكون حالاً معطوفة على: ويشهد إذا كانت حالاً، أو حالاً من الضمير المستكن في: ويشهد.

وإذا كان الخصام جمعاً، كان ألدّ من إضافة بعض إلى كل، وإذا كان مصدراً فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه، وإن تأولت أفعل على غير بابها، فألدّ من باب إضافة الصفة المشبهة.

وقال الزمخشري: والخصام المخاصمة، وإضافة الألدّ بمعنى في كقولهم ثبت الغدر. انتهى.

يعنى أن: أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي إضافة على معنى: في، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلاَّ لما هي بعض له، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في، وهو قول مرجوح في النحو، قالوا: وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستواء أحوال الشهود والقضاة، وان الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم، حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر جميلاً وينوي قبيحاً.

{ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } حقيقة التولي الانصراف بالبدن، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل، ومعناه هنا، قال ابن عباس: غضب لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله، وقال الحسن: انصرف عن القول الذي قاله، وقال مقاتل، وابن قتيبة: انصرف ببدنه، وقال مجاهد: من الولاية، أي: صار والياً.

والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة، وعلى ذلك حمله هنا أبو سليمان الدمشقي، وابن عباس، فيما ذكر ابن عطية عنه، والمعنى: وإذا نهض عنك يا محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق، فسعى بقدميه في الأرض، فقطع الطريق وأفسد فيها، كما فعله الأخنس بثقيف.

وقيل: السعي هنا العمل، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب، ومنه: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [النجم: 39] { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } [الإسراء: 19] وقال الشاعر:

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني، ولم أطلب، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلوقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وقال الأعشى:

وسعى لكندة غير سعي مواكل قيس فصدّ عدوها ونبالها

وقال آخر:

أسعى على حيـي بني مالك كل امرىء في شأنه ساع

والمعنى: سعى بحيلة وإدارة الدوائر على الإسلام، وإلى هذا القول نحا مجاهد، وابن جريج، وذكر أيضاً عن ابن عباس: والقائلون بهذا القول: قال قوم منهم: معناه سعى فيها بالكفر، وقال قوم بالظلم. وقد يقع السعي بالقول، يقال: سعى بين فلان وفلان نقل إليهما قولا يوجب الفرقة، ومنه:

ما قلت ما قال وشاة سعوا سعي عدو بيننا يرجف

في الأرض، معلوم أن السعي لا يكون إلاَّ في الأرض، لكن أفاد العموم بمعنى في: أي مكان حل منها سعى للفساد، ويدل لفظ: في الأرض، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض، لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدّم ما يشبهه في قوله: { لا تفسدوا في الأرض } .

[البقرة: 11] وإذا كان المراد الأخنس فالأرض أرض المدينة، فالألف واللام للعهد.

ليفسد فيها، هذا علة سعيه، والحامل له على السعي في الأرض، والفساد ضد الصلاح، وهو معاندة الله في قوله: { واستعمركم فيها } [هود: 61] .

والفساد يكون بأنواع من: الجور، والقتل، والنهب، والسبي، ويكون: بالكفر.

و: يهلك الحرث، والنسل، عطف هذه العلة على العلة قبلها، وهو: ليفسد فيها، وهو شبيه بقوله: { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } [البقرة: 98] وقوله:

أكرّ عليهم دعلجاً ولبانه

لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا، فكان إفسادهما غاية الإفساد.

من فسر الإفساد بالتخريب، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال.

و: يهلك الحرث والنسل، تقدم ذكر الحرث في قوله: { ولا تسقي الحرث } [البقرة: 71] وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات، وعلى ما تقدم من أن الآية في الأخنس، يكون الحرث الزرع، والنسل الحمر التي قتلها، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل. وقيل: المراد هنا بالحرث هنا النساء، وبالنسل الأولاد، وقال تعالى: { نساؤكم حرث لكم } [البقرة: 223] وذكره ابن عطية عن الزجاج احتمالاً، فيكون من الكناية، وهو من ضروب البيان.

وقرأ الجمهور: ويهلك، من أهلك. عطفاً على: ليفسد، وقرأ أبي: وليهلك، بإظهار لام العلة، وقرأ قوم: ويهلك، من أهلك، وبرفع الكاف. وخرج على أن يكون عطفاً على قوله: يعجبك، أو على: سعى، لأنه في معنى: يسعى، وأما على الاستئناف، أو على إضمار مبتدأ، أي: وهو يهلك.

وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن محيصن: ويهلك من هلك، وبرفع الكاف، والحرث والنسل على الفاعلية، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن ابن كثير، وعبد الوارث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير، إنما هو: ويهلك من أهلك، وبضم الكاف، الحرث بالنصب.

وقرأ قوم: ويهلك من هلك، وبفتح اللام، ورفع الكاف ورفع الحرث، وهي لغة شاذة نحو: ركن يركن، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري.

قال الزمخشري: وروي عنه، يعنى عن الحسن، ويهلك مبنياً للمفعول، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت: ويهلك وليهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة منصوب، لأن في الفعل ضمير الفاعل، ويهلك ويهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة، وتم الكلام عند قوله: وهو ألدّ الخصام، وإما معطوفة على صلة مَنْ أو صفتها، من قوله: ويعجبك.

{ والله لا يحب الفساد } تقدمت علتان، والثانية داخلة تحت الأولى، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية وإن فسرت المحبة بالإرادة، وقد جاءت كذلك في مواضع منها: { { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } [النور: 19] فلا بد من التخصيص، أي: لا يحب من أهل الصلاح الفساد، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد، فلو لم يكن مراداً لما كان واقعاً. وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن الله لا يريد الفساد، فما وقع منه فليس مراد الله تعالى، ولا مفعولاً له، لأنه لو فعله لكان مريداً له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد؛ قالوا: ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون، بل يكره أن يكون. وفي هذا ما فيه من التناقض. انتهى ما قالوا: وقيل: المعنى والله لا يحب الفساد ديناً، وقيل: هو على حذف مضاف أي: أهل الفساد، وقال ابن عباس: المعنى لا يرضى المعاصي، وقيل: عبر بالمحبة عن الأمر أي: لا يأمر بالفساد.

وقال الراغب: الإفساد إخراج الشي من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة، قال ابن عطية: والحب له على الإرادة مزية إيثار، فلو قال أحد: إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته. انتهى كلامه. وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة، وصح أن الله يريد الشيء ولا يحبه.

وقال بعضهم: سوَّى المعتزلة بين المحبة والإرادة واستدلوا بهذه، وجمهور العلماء على خلاف ذلك، والفرق بين الإرادة والمحبة بيِّن، فإن الإنسان يريد بطىء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادّعاؤهم التساوي بينهما، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: { { ولا يرضى لعباده الكفر } [الزمر: 7] انتهى كلامه.

وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى، بخلاف غيره، فإنه قد يعرف عنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان، وبالنسبة إلى غيره ضدّان، وظاهر الفساد يعم كل فساد في أرض أو مال أو دين، وقد استدل عطاء بقوله: { والله لا يحب الفساد } على منع شق الإنسان ثوبه. وقال ابن عباس: الفساد هنا الخراب.

{ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } تحتمل أيضاً هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله: { { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } [البقرة: 11] و: ما، الذي أقيم مقام الفاعل، فأغنى عن ذكره هنا، و: أخذته العزة، احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد.

قال الزمخشري: من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه، وألزمته إياه، أي: حملته العزة التي فيه، وحمية الجاهلية، على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلى عنه ضرراً ولجاجاً، أو على رد قول الواعظ. انتهى كلامه.

فالباء، على كلامه للتعدية، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم، نحو: { لذهب بسمعهم وأبصارهم } [البقرة: 20] أي: لأذهب سمعهم، وندرت التعدية بالباء في المتعدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي أصككت الحجر الحجر، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة، أي: أخذته مصحوباً بالإثم، أو مصحوبة بالإثم، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل، ويحتمل أن تكون سببية، والمعنى: أن إثمه السابق كان سبباً لأخذ العزة له، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى، فتكون الباء هنا: كمن، في قول الشاعر:

أخذته عزة من جهله فتولى مغضباً فعل الضَّجر

وعلى أن تكون: الباء، سببية فسره الحسن، قال. أي من أجل الإثم الذي في قلبه، يعني الكفر.

وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة، وكلها متقاربة.

وفي قوله: { أخذته العزة بالإثم } نوع من البديع يسمى التتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس، وتقربه للفهم، كقوله تعالى: { ولا طائر يطير بجناحيه } [الأنعام: 38] وذلك أن العزة محمودة ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، كما قال: { أعزة على الكافرين } [المائدة: 54] { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون: 8] { فإن العزة لله جميعاً } [النساء: 139] فلما قال: بالإثم، اتضح المعنى وتم، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها. قال ابن مسعود: لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله، أو تقول: أو لِمثْلي يقال هذا؟ وقيل لعمر: اتق الله، فوضع خدّه على الأرض تواضعاً، وقيل: سجد، وقال: هذا مقدرتي. وتردّد يهودي إلى باب هارون الرشيد، سنة فلم يقض له حاجة، فتحيل حتى وقف بين يديه، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين: فنزل هارون عن دابته، وخرَّ ساجداً، وقضى حاجته، فقيل له في ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالإثم }

{ فحسبه جهنم } أي: كافيه جزاءً وإذلالاً جهنم، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل: بحسبه، لأنه جعله اسم فعل، إما بمعنى الفعل الماضي، أي: كفاه جهنم، أو: بمعنى فعل الأمر، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم، وهو الغاية في الذل، ولما كان قوله: اتق الله، حل به ما أمر أن يتقيه، وهو: عذاب الله، وفي قوله: فحسبه جهنم، استعظام لما حل به من العذاب، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك! إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.

{ ولبئس المهاد } تقدّم الكلام في: بئس، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو، لكن التفريع على مذهب البصريين في أن: بئس ونعم، فعلان جامدان، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما، وأن المخصوص بالذّم، إن تقدم، فهو مبتدأ، وإن تأخر فكذلك، هذا مذهب سيبويه. وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدّم، والتقدير: ولبئس المهاد جهنم. أو: هي، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذمّ إذا تأخر كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها، إذ ليس لها موضع من الإعراب، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها، فصارت مرتبطة غير مرتبطة، وذلك لا يجوز.

وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدّم، وأنت لا ترى فرقاً بين قولك: زيد نعم الرجل، ونعم الرجل زيد، كما لا تجد فرقاً بين: زيد قام أبوه، وبين: قام أبوه زيد، وحسن حذف المخصوص بالذمّ هنا كون المهاد وقع فاصلة، وكثيراً ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله: { فنعم المولى ونعم النصير } [الحج: 78] { { ولبئس مثوى المتكبرين } [النحل: 29] وجعل ما أعد لهم مهاداً على سبيل الهزء بهم، إذ المهاد: هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم، ومثله قول الشاعر:

وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

أي: القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار.

{ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } قيل المراد: بمن، غير معنى، بل هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد، أو صبر على دين، أو كلمة حق عند جائر، أو حمية لله، أو ذب عن شرعه، أو ما أشبه هذا.

وقيل: هي في معين، فقيل في: الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليحطا خبيباً من خشبته، وقيل: في صهيب الرومي خرج مهاجراً فلحقته قريش، فنشل كنانته، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره، وقالوا: لا نترك حتى تدلنا على مالك، فدلهم على موضعه، فرجعوا عنه، وقيل: عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجراً، وقيل: في علي حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع، وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجراً صلى الله عليه وسلم.

وقال الحسن: نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول: قل: لا إله إلا الله، فلا يقول، فيقول: والله لأشرين، فيقاتل حتى يقتل. وقال ابن عباس: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: في صهيب، وأبي ذر، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب، فخرج مهاجراً. وقيل: في المهاجرين والأنصار، وذكر المفسرون غير هذا، وقصصاً طويلاً في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية.

والذي ينبغي أن يقال: إنه تعالى لما ذكر { ومن الناس من يعجبك قوله } وكان عاماً في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من: يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء، وحلاوة المنطق، وهذا باذلٌ نفسه لله ولمرضاته.

وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال، ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً، والمراد عموم اللفظ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه، فقال: { ومن الناس من يشري } بخلاف قوله: { { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } [البقرة: 201] فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم، أضمر في الثاني المقسم.

ومعنى يشري: يبيع، وهو سائغ في اللسان، قال تعالى: { وشروه بثمن بخس دراهم } [يوسف: 20] قال الشاعر:

وشريت بُرداً ليتني من بعد بُردٍ كنت هامة

ويشري: عبارة عن أن يبذل نفسه في الله، ومنه تسمى الشراة، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله، وقال قوم: شرى، بمعنى: اشترى، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها.

وانتصاب: ابتغاء، على أنه مفعول من أجله، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم، إنما هو طلب رضى الله تعالى، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت، وهذه الإضافة، أعني: إضافة المفعول من أجله، هي محضة، خلافاً للجرمي، والرياشي، والمبرّد، وبعض المتأخرين، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة، وهذا مذكور في كتب النحو.

ومرضاة: مصدر بني على التاء: كمدعاة، والقياس تجريده عنها، كما تقول: مرمى ومغزى، وأمال الكسائي: مرضات، وعن ورش خلاف في إمالة: مرضات، وقرأنا له بالوجهين، ووقف حمزة عليها بالتاء، ووقف الباقون بالهاء. فأمّا وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين.

أحدهما: أن يكون على مذهب من يقف من العرب على: طلحة، وحمزة، بالتاء، كالوصل، وهو كان القياس دون الإبدال. قال:

دار لسلمى بعد حول قد عفت بل جوز تيهاء كظهر الحجفت

وقد حكى هذه اللغة سيبويه.

والوجه الآخر: أن تكون على نية الإضافة، كأنه نوى تقدير المضاف إليه، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة، وأن المضاف إليه مراد: كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة، وفي قوله: { ابتغاء مرضات الله } إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء، وهو رضاه تعالى.

وفي الحديث الصحيح، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى، حين يسألهم: "هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك؟ فيقول: ولكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربنا، وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده" .

{ والله رؤوف بالعباد } حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء، قاله الزمخشري؛ وقال ابن عطية: ترجئة تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية، كما في قوله: { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذمّ، وتقدّم أن الرأفة أبلغ من الرحمة.

والعباد إن كان عاماً، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم، وتيسير أرزاقهم لهم، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته، ورفع درجاتهم في الجنة. وإن كان خاصاً، وهو الأظهر، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله: { فحسبه جهنم } وكان ذلك خاصاً بأولئك الكفار، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب، وجزيل المآب، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة، ولذلك كانت الكناية أبلغ، ويكون إذ ذاك في لفظ: العباد، التفاتاً، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان: والله رؤوف به أو بهم، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان.

أحدهما: أن لفظ: العباد، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص، كقوله: { { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [الحجر: 42] { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [الإسراء: 1] { ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا } [فاطر: 32] { بل عباد مكرمون } [الأنبياء: 26].

والثاني: مجيء اللفظة فاصلة، لأن قبله: { والله لا يحب الفساد }، { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } فناسب: { والله رؤوف بالعباد }.

وفي هذه الآية، والتي قبلها من علم البديع: التقسيم، وقد ذكرنا مناسبة هذا التقسيم للتقسيم السابق قبله في قوله: { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } قال بعض الناس: في هذه الآيات نوع من البديع، وهو التقديم والتأخير، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على قوة الملكة في ضروب من الكلام، وذلك قوله: { واذكروا الله في أيام معدودات } متقدم على قوله: { فمن الناس من يقول } لأن قوله: { واذكروا الله في أيام معدودات } معطوف عليه، قوله: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله } وقوله: { فمن الناس من يقول } معطوف على قوله: { ومنهم من يقول } وقوله: { ومنهم من يقول } معطوف على قوله: { ومن الناس من يعجبك } وعلى قوله: { ومن الناس من يشري } فيصير الكلام معطوفاً على الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى، ويصير التقسيم معطوفاً بعضه على بعض، لأن التقسيم الأول في معنى الثاني، فيتحد المعنى ويتسق اللفظ، ثم قال: ومثل هذا، فذكر قصة البقرة، وقتل النفس، وقصة المتوفى عنها زوجها، في الآيتين، قال: ومثل هذا في القرآن كثير، يعني: التقديم والتأخير، ولا يذهب إلى ما ذكره، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات، وتنزه كتاب الله تعالى عنه.

{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه، كانوا يتقون السبت، ولحم الحمل، وأشياء تتقيها أهل الكتاب، قاله عكرمة، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، أو: في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك. وروي عن ابن عباس: أو في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام، قاله مجاهد، وقتادة. أو: في المنافقين، واحتج لهذا بورودها عقيب صفة المنافقين، وعلى هذا الاختلاف في سبب النزول اختلفت أقاويل أهل التفسير.

وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي: بفتح السين في السلم، وكذلك في الأنفال: { { وإن جنحوا للسلم } [الأنفال: 61] وفي القتال: { { وتدعوا إلى السلم } [محمد: 35].

واختلف في السلم هنا، فقيل: هو الإسلام، لأن الإسلام: قد يسمى: سِلماً بكسر السين، وقد يروى فيه الفتح، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل، وجوّز أبو عليّ الفارسي أن يكون السلم هنا هو الذي بمعنى الصلح، لأن الإسلام صلح على الحقيقة، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله، وأنهم يد واحدة على من سواهم؟ فإن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام، وأن لا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بما سبق من أنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة، وهي لهم، كأنه قيل: يا من سبق له الإيمان بالتوراة والإنجيل، وهما دالان على صدق هذه الشريعة، ادخلوا في هذه الشريعة، وإن كان الخطاب للمسلمين فالمعنى: يا من آمن بقلبه، وصدّق، ادخل في شرائع الإسلام، واجمع إلى الإيمان الإسلام. وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام في حديث سؤال جبريل حين سأله عن حقيقة كل واحد منهما. وإن كان الخطاب للمنافقين، فالمعنى: يا من آمن بلسانه، ادخل في الإسلام بالقلب حتى يطابق القول الاعتقاد.

والظاهر من هذه الأقوال أنه خطاب للمؤمنين، أمروا بامتثال شرائع الإسلام، أو بالانقياد، والرضى وعدم الاضطرار، أو بترك الانتقام، وأمروا كلهم بالائتلاف وترك الاختلاف، ولذلك جاء بقوله { كافة } وانتصاب { كافة } على الحال من الفاعل في: ادخلوا، والمعنى ادخلوا في السلم جميعاً، وهي حال تؤكد معنى العموم، فتفيد معنى: كل، فإذا قلت: قام الناس كافة، فالمعنى قاموا كلهم، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالاً من السلم، أي في شرائع الإسلام كلها، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون: كافة، حالاً من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال الشاعر:

السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرع

على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يخلوا بشيء منها.

وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل.

و: كافة، من الكف، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم. انتهى كلام الزمخشري. وتعليله جواز أن يكون: كافة، حالاً من السلم بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، ليس بشيء، لأن التاء في: كافة، وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالاً للتأنيث، بل صار هذا نقلاً محضاً إلى معنى: جميع وكل، كما صار: قاطبة، وعامة، إذا كان حالاً نقلاً محضاً إلى معنى: كل وجميع. فإذا قلت: قام الناس كافة، أو قاطبة، أو عامة، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث، كما لا يدل عليه: كل، ولا جميع.

وتوكيده بقوله: وفي شعب الإسلام وشرائعه كلها، هو الوجه الأول من قوله: بأن يدخلوا في الطاعات كلها، فلا حاجة إلى هذا الترديد بأو.

وقال ابن عطية: وقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أمرهم بالثبوت فيه، والزيادة من التزام حدوده. وتستغرق: كافة، حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فيكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله تعالى: { فأتت به قومها تحمله } [مريم: 27] إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثم قال بعد كلام ذكره: وكافة، معناه: جميعاً. والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها. انتهى كلامه.

وقوله: فيكون الحال من شيئين، يعني: من الفاعل في ادخلوا، ومن السلم، وهذا الذي ذكره محتمل، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل، وذلك جائز، يعني: مجيء الحال الواحدة من شيئين، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو.

وقوله: نحو قوله: { { فأتت به قومها تحمله } [مريم: 27] يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت، ومن الضمير المجرور بالباء، هذا المثال ليس بمطابق: للحال من شيئين، لأن لفظ: تحمله، لا يحتمل شيئين، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين، والإخبار بتلك الحال عنهما، فمتى صح ذلك صحت الحال، ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قوله:

وعلقت سلمى وهي ذات موصد ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

فصغيرين: حال من الضمير في علقت، ومن سلمى، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم، ومثله:

خـرجت بهـا نمشـي تجـرّ وراءنـــا

فنمشي حال من التاء في: خرجت، ومن الضمير المجرور في بها، ويصلح أن تقول: أنا وهي نمشي، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبراً عنهما، لو قلت: هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبراً، نحو قوله: هند وزيد تكرمه، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أنّ يقدر إلاّ بمفرد، فيمتنع أن يكون حالاً من ذوي حال، ولذلك أعرب المعربون في:

خـرجـت بهـا نمشـي تجـر وراءنــا

نمشي: حالاً منهما، وتجر حالاً من ضمير المؤنث خاصة، لأنه لو قيل: أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبراً عنها، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد، أي حاملة وجارة، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالاً منهما.

و { كافة } لدلالته على معنى: جميع، يصلح أن يكون حالاً من الفاعل في: ادخلوا، ومن السلم، بمعنى شرائع الإسلام، لأنك لو قلت: الرجال والنساء جميع في كذا، صح أن يكون خبراً.

لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبراً، لا تقول: الزيدون والعمرون كافة، في كذا، فلا يجوز أن يقع حالاً على ما قررت، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة: كافة، إذ لم يتصرف فيها، بل التزم نصبها على الحال، لكن مرادفها يصح فيه ذلك، وقوله: والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها، يعني: أن هذا في أصل الوضع، ثم صار الاستعمال لها لمعنى: جميعاً، كما قال هو وغيره، وكافة: معناه جميعاً.

{ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } قد تقدم تفصيل هاتين الجملتين بعد قوله: { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [البقرة: 168] فأغنى ذلك عن إعادته، وقال صاحب (الكتاب الموضح) أبو عبد الله نصر بن علي بن محمد: عرف بابن مريم، ان ضم عين الكلمة في مثل هذا، نحو: عرفة وعرفات، هو مذهب أهل الحجاز، وقال فيمن سكن الطاء: إنهم لما جمعوا نووا الضمة في الطاء، ثم أسكنوها استخفافاً، وهو في تقدير الثبات يدل على أن الضمة في حكم الثابت، أن هذه حركة يفصل بها بين الإسم والصفة، كما هي في جمع: فعلة، المفتوحة الفاء، فلا تحذف عين الاسم حذفاً، إذ هي فارقة بينه وبين الصفة، فهي منوية لا محالة. انتهى كلامه.

واتضح من هذا أنه في الصفة لا ينقل، فإذا جمعنا: حلوة وضحكة، المراد به صفة المؤنث، فلا تقول: حلوات، ولا ضحكات، بضم عين الكلمة، وعلى هذا قياس: فعلة، الصفة نحو: جلفة، لا يقال فيه جلفات.

{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات } أي: عصيتم أو كفرتم، أو أخطأتم، أو ضللتم، أقوال ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله: ادخلوا في السلم، أي الإسلام، فإن زللتم عن الدخول فيه، وأصل الزلل للقدم، يقال: زلت قدمه، كما قال.

ولا شامت إن نعل عزة زلت

ثم يستعمل في الرأي والاعتقاد، وهو الزلق، وقد تقدم شيء من تفسير في قوله: { { فأزلهما الشيطان عنها } [البقرة: 36].

وقرأ أبو السماك: فإن زللتم، بكسر اللام، وهما لغتان: كضللت وضللت.

والبينات: حجج الله ودلائله، أو محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال: { حتى تأتيهم البينة رسول من الله } [البينة: 1 - 2] وجمع تعظيماً له، لأنه وإن كان واحداً بالشخص، فهو كثير بالمعنى: أو القرآن قاله ابن جريج، أو التوراة والإنجيل قال: { ولقد جاءكم موسى بالبينات } [البقرة: 92] وقال { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } [البقرة: 87] وهذا يتخرج على قول من قال: إن المخاطب أهل الكتاب، أو الإسلام، أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات، أقوال ستة.

وفي (المتخب) البينات: تتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية من حيث إن عذر المكلف لا يزول إلاَّ عند حصول البينات، لا حصول التبيين من التكليف. انتهى كلامه.

والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول، فلا ينسب إليها المجيء إلاَّ مجازاً، وفيه بُعد.

{ فاعلموا أن الله عزيز حكيم } أي: دوموا على العلم، إن كان الخطاب للمؤمنين، وإن كان للكافرين أو المنافقين فهو أمر لهم بتحصيل العلم بالنظر الصحيح المؤدي إليه، وفي وصفه هنا بالعزة التي هي تتضمن الغلبة والقدرة اللتين يحصل بهما الانتقام، وعيد شديد لمن خالفه وزل عن منهج الحق، وفي وصفه بالحكمة دلالة على إتقان أفعاله: وأن ما يرتبه من الزاوجر لمن خالف هو من مقتضى الحكمة، وروي أن قارئاً قرأ، غفور رحيم، فسمعه أعرابي فأنكره، ولم يكن يقرأ القرآن، وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه، وقد روي عن كعب نحو هذا، وأن الذي كان يتعلم منه أقرأه: فاعلموا أن الله غفور رحيم، فأنكره حتى سمع: { عزيز حكيم } فقال: هكذا ينبغي!.

{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة }؟ هل: هنا للنفي، المعنى: ما ينظرون، ولذلك دخلت إلاَّ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها: إلاَّ، كثير الاستعمال في القرآن، وفي كلام العرب، قال تعالى: { { وهل نجازي إلاَّ الكفور } [سبأ: 17] { فهل يهلك إلا القوم الظالمون } [الأنعام: 47] وقال الشاعر:

وهل أنا إلاَّ من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد

و: ينظرون، هنا معناه: ينتظرون، تقول العرب: نظرت فلاناً انتظره، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلاَّ بحرف جر. قال امرؤ القيس:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعي لدى أم جندب

ومفعول: ينظرون، هو ما بعد إلاَّ، أي: ما ينتظرون إلاَّ إتيان الله، وهو استثناء مفرغ، قيل: وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى، وكان مضافاً إلى الوجه، وإنما هو من الانتظار. انتهى.

وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال: هو من النظر، وهو تردد العين. وهو معدى بإلى، لكنها محذوفة، والتقدير: هل ينظرون إلاَّ إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد، ولا لبس هنا، فحذفت: إلى، وقوله: وكان مضافاً إلى الوجه يشير إلى قوله: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [القيامة: 22 - 23] فكذلك ليس بلازم، قد نسب النظر إلى الذوات كثيراً كقوله: { أفلا ينظرون إلى الإبل } [الغاشية: 17] { أرني أنظر إليك } [الأعراف: 143] والضمير في: ينظرون، عائد على الذالين، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.

والإتيان: حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، فروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به، وهو الله تعالى.

والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه:

أحدهما: أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال.

الثاني: أنه عبر به عن المجازات لهم، والانتقام، كما قال: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [النحل: 26] { فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [الحشر: 2] .

الثالث: أن يكون متعلق الإتيان محذوفاً، أي: أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب، والعقاب، قاله الزجاج.

الرابع: أنه على حذف مضاف، التقدير: أمر الله، بمعنى: ما يفعله الله بهم، لا الأمر الذي مقابله النهي، ويبينه قوله، بعد: { وقضي الأمر }.

الخامس: قدرته، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.

السادس: أن في ظلل، بمعنى بظلل، فيكون: في، بمعنى: الباء، كما قال.

خبيرون في طعن الأباهر والكلى

أي: بطعن، لأن خبيراً لا يتعدى إلاَّ بالباء، كما قال.

خبير بأدواء النساء طبيب

قال الزجاج وغيره.

والأولى أن يكون المعنى: أمر الله، إذ قد صرح به في قوله: { أو يأتي أمر ربك } [النحل: 33] وتكون عبارة عن بأسه وعذابه، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد، وقيل: المحذوف: آيات الله، فجعل مجيء آياته مجيئاً له على التفخيم لشأنها، قاله في (المنتخب). ونقل عن ابن جرير أنه قال: يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة، وقيل: الخطاب مع اليهود، وهم مشبهة، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد: { سل بني إسرائيل }، وإذا كان كذلك فالمعنى: أنهم لا يقبلون ذلك إلاَّ أن يأتيهم الله، فالآية على ظاهرها، إذ المعنى: أن قوماً ينتظرون إتيان الله، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون.

{ في ظلل من الغمام } تقدّم الكلام على ذلك في قوله: { { وظللنا عليكم الغمام } [البقرة: 57] ويستحيل على الذات المقدّسة أن تحل في ظلة، وقيل: المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها، لأنه لا شيء أشد على المذنبين، وأهول، ومن وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة، فيكون هذا من باب التمثيل، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام، فكان ذلك، لأنه أعظم، أو يأتيهم الشر من جهة الخير، لقوله: { هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } [الأحقاف: 24] ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم، قال الله تعالى: { ويوم تشقق السماء بالغمام } [الفرقان: 25] ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة، فكذلك العذاب غير محصور، وقيل: إن العذاب لا يأتي في الظلل، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل من الغمام، كما قال: { وإذا غشيهم موج كالظلل } [لقمان: 32] فالمعنى أن عذاب الله يأتيهم في أهوال عظيمة، كظلل الغمام.

واختلفوا في هذا التوعد، فقال ابن جريج: هو توعد بما يقع في الدنيا، وقال قوم: بل توعد بيوم القيامة.

وقرأ أبي، وعبد الله، وقتادة، والضحاك: في ظلال، وكذلك روي هارون بن حاتم، عن أبي بكر، عن عاصم، هنا وفي الحرفين في الزمر، وهي: جمع ظلة، نحو: قلة وقلال، وهو جمع لا ينقاس، بخلاف: ظلل، فإنه جمع منقاس، أو جمع: ظل نحو ضل وضلال.

و: في ظلل، متعلق بيأتيهم، وجوّزوا أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف، و: من الغمام، في موضع الصفة لظلل، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم، أي من ناحية الغمام، فتكون: مِن، لابتداء الغاية، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو جعفر: والملائكةِ، بالجر عطفاً على: في ظلل، أو عطفاً على الغمام، فيختلف تقدير حرف الجر، إذ على الأول التقدير: وفي الملائكة، وعلى الثاني التقدير: ومن الملائكة.

وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على: الله، وقيل: في هذا الكلام تقديم وتأخير، فالإتيان في الظل مضاف إلى الملائكة، والتقدير: إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإتيان فقط، ويؤيد هذا قراءة عبد الله، إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل.

{ وقضي الأمر } معناه: وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقيل: أتم أمر هلاكهم وفرغ منه، وقيل: فرغ من وقت الانتظار وجاء وقت المؤاخذة، وقيل: فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة، وقيل: فرغ من الحساب ووجب العذاب. وهذه أقوال متقاربة.

{ وقضي الأمر } معطوف على قوله: يأتيهم، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع، والتقدير: ويقضى الأمر، ويحتمل أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى، أي: فرغ من أمرهم بما سبق في القدر، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر.

وقرأ معاذ بن جبل: وقضاء الأمر، قال: قال الزمخشري: على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة، وقال غيره بالمد والخفض عطفاً على الملائكة، وقيل: ويكون: في، على هذا بمعنى الباء، أي: بظلل من الغمام، وبالملائكة، وبقضاء الأمر.

وقرأ يحيـى بن معمر: وقضي الأمور، بالجمع، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، ولأنه لو أبرز وبنى الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات.

{ وإلى الله تُرجع الأمور } قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ترجع، بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن، ويعقوب: بالتاء مفتوحة وكسر الجيم في جميع القرآن، على أن: رجع، لازم وباقي السبعة: بالياء وفتح الجيم مبنياً للمفعول، وخارجة عن نافع: يرجع بالياء. وفتح الجيم على أن رجع متعد. وكلا الاستعمالين له في لسان العرب، ولغة قليلة في المتعدي أرجع رباعياً، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الجمع، ومن قرأ بالياء فلكون التأنيث غير حقيقي.

وصرح باسم الله لأنه أفخم وأعظم وأوضح، وإن كان قد جرى ذكره في قوله: { إلاَّ أن يأتيهم الله } ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر، وإنما هي إعلام بأن الله إليه تصير الأمور كلها. لا إلى غيره، إذ هو المنفرد بالمجازاة، ولرفع إبهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء، بل ذلك إلى الله وحده، أو لإعلام أنها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا، فصارت إليه كلها في الآخرة.

وإذا كان الفعل مبنياً للمفعول فالفاعل المحذوف، إما الله تعالى، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة، أو ذوو الأمور، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها، قيل: أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم: فلان معجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى أين يُذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. انتهى. وملخصه: انه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل، وهذا خطأ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحداً، ولا الفاعل للإعجاب، بل الفاعل غيره، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه، واعتقاده بجمال نفسه، فالمعنى أنه أعجبه رأيه، وذهب به رأيه، فكأنه قيل: أعجبه رأيه بنفسه، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك؟ ثم حذف الفاعل، وبني الفعل للمفعول.

قيل: وفي قوله: { وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور } قسمان من أقسام علم البيان:

أحدهما: الإيجاز في قوله: { وقضي الأمر } فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد.

والثاني: الاختصاص بقوله: { وإلى الله } فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك. انتهى.

وقال السلمي: وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين.

وقال جعفر: كشف عن حقيقة الأمر ونهيه.

وقال القشيري: انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير.

{ سل بني إسرائيل } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الزمخشري: أو لكل أحد.

وقرأ أبو عمرو، في رواية ابن عباس: أسأل. وقرأ قوم: إسل، وأصله إسأل، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين، ولم تحذف همزة الوصل لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها، كما قالوا: ألحمر في الأحمر. وقرأ الجمهور: سل، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن أصله إسأل، فلما نقل وحذف اعتدّ بالحركة، فحذف الهزة لتحرك ما بعدها، والوجه الآخر: أنه جاء على لغة من يجعل المادّة من: سين، وواو، ولام، فيقول: سأل يسأل، فقال: سل، كما قال: خف، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو: خافا وخافوا وخافي.

ولما تقدّم: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل } وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام، وأنهم لا ينتظرون إلاَّ آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة، ولم تنفعهم تلك الآيات، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم، وهذا السؤال ليس سؤالاً عما لا يعلم، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات، وإنما هو سؤال عن معلوم، فهو تقريع وتوبيخ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد: { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته }.

وفي هذا السؤال أيضاً تثبيت وزيادة، كما قال تعالى: { وكلا نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [هود: 120] أو: زيادة يقين المؤمن، فالخطاب في اللفظ له صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمّته، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يكونوا يعرفون شيئاً من قصص بني إسرائيل، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه.

{ بني إسرائيل } من كان بحضرته منهم، صلى الله عليه وسلم، أو من آمن من به منهم، أو علماؤهم، أو أنبياؤهم، أقوال أربعة.

{ وكم } في موضع نصب على أنها مفعول ثان { لآتيناهم } على مذهب الجمهور، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده، وجعل ذلك من باب الإشتغال، قال: وكم، في موضع نصب إمّا بفعل مضمر بعدها، لأن لها صدر الكلام تقديره: كم آتيناهم، أو باتيانهم. انتهى. وهذا غير جائز إن كان قوله: من آية تمييزاً لكم، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الإشتغال. ونظير ما أجاز أن يقول: زيداً ضربت، فتعرب زيداً مفعولاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، التقدير: زيداً ضربت ضربت، وكذلك: الدرهم أعطيت زيداً، ولا نعمل أحداً ذهب إلى ما ذهب إليه، بل نصوص النحويين، سيبويه فمن دونه، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده، وإن كان تمييز: كم، محذوفاً.

وأطلقت: كم، على القوم أو الجماعة، فكان التقدير: كم من جماعة آتيناهم، فيجوز ذلك، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على: كم، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون: كم، في موضع رفع بالابتداء، والجملة من قوله: آتيناهم، في موضع الخبر، والعائد محذوف، التقدير: آتيناهموه، أو آتيناهموها، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في الشعر، أو في شاذ من القرآن، كقراءة من قرأ { أفحكم الجاهلية يبغون } [المائدة: 50] برفع الحكم، وقال ابن مالك: لو كان المبتدأ غير: كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلاَّ في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفاً، انتهى. فإذا كان لا يجوز إلاَّ في الاضطرار، أو ضعيفاً، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك؟ ورجحانه وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه. وكم، هنا إستفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الإستفهام، وقد يخرج الإستفهام عن حقيقته إذا تقدّمه ما يخرجه، نحو قولك: سواء عليك أقام زيد أم قعد، و: ما أبالي أقام زيد أم قعد، وقد عملت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد، فكل هذا صورته صورة الاستفهام، وهو على التركيب الإستفهامي وأحكامه، وليس على حقيقة الإستفهام.

وهذه الجملة من قوله: { كم آتيناهم } في موضع المفعول الثاني: لسل، لأن سأل يتعدى لإثنين؛ أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف جر، إما عن، وإما الباء. وقد جمع بينهما في الضرورة نحو.

فأصبحن لا يسألنه عن بما به

و: سأل، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية، فهي عاملة في المعنى، غير عاملة في اللفظ، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلاَّ الجار، قالوا: وإنما علقت: سل، وإن لم تكن من أفعال القلوب، لأن السؤال سبب للعلم، فأجري السبب مجرى المسبب في ذلك، وقال تعالى: { { سلهم أيهم بذلك زعيم } [القلم: 40] وقال الشاعر.

سائل بني أسد ما هذه الصوت

وقال:

واسأل بمصقلة البكري ما فعلا

وأجاز الزمخشري أن تكون: كم، هنا خبرية، قال: فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟

قلت: يحتمل الأمرين، ومعنى الإستفهام فيها التقدير. انتهى كلامه. وهو ليس بجيد، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى: سل بني اسرائيل، وما ذكر المسؤول عنه، ثم قال: كثيراً من الآيات آتيناهم، فيصير هذا الكلام مفلتاً مما قبله، لأن جملة: كم آتيناهم، صار خبراً صرفاً لا يتعلق به: سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلاَّ في الإستفهامية، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف، وهو المفعول الثاني: لسل، ويكون المعنى: سل بني اسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم أخبر تعالى أن كثيراً من الآيات آتيناهم.

{ من آية } تمييز لـ: كَمْ، ويجوز دخول: من، على تمييز الإستفهامية والخبرية، سواء وليها أم فصل بينهما، والفصل بينهما بجملة، وبظرف، ومجرور، جائز على ما قرر في النحو، وأجاز ابن عطية أن يكون: من آية، مفعولاً ثانياً: لآيتناهم، وذلك على التقدير الذي قدّره قبل من جواز نصب: كم، بفعل محذوف يفسره: آتيناهم، وعلى التقدير الذي قررناه من أن: كم، تكون كناية عن قوم أو جماعة، وحذف تمييزها لفهم المعنى، فإذا كان كذلك، فإن كانت: كم، خبرية فلا يجوز أن تكون: من آية، مفعولاً ثانياً، لأن زيادة: من، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش، وإن كانت إستفهامية فيمكن أن يقال: يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله، وفيه بعد، لأن متعلق الإستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: كم من درهم أعطيته من رجل، على زيادة: من، في قولك: من رجل، لكان فيه نظر، وقد أمعنا الكلام على زيادة: من، في (منهج السالك) من تأليفنا.

و: الآيات البينات، ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقيق نبوته، وتصديق ما جاء به، أو معجزات موسى صلى الله على نبينا وعليه: كالعصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، أو: القرآن قصّ الله قصص الأمم الخالية حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء، ولا كتب ولا ارتجل، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتسبيح الحصى، وتفجير الماء من بين أصابعه، وانشقاق القمر، وتسليم الحجر، أربعة أقوال، وقدروا بعد قوله: من آية بينة، محذوفاً، فقدّره بعضهم: فكذبوا بها، وبعضهم: فبدلوها.

{ ومن يبدل نعمة الله } نعمة الله: الحجج الواضحة الدالة على أمره صلى الله عليه وسلم يبدل بها التشبيه والتأويلات، أو ما ورد في كتاب الله من نعته صلى الله عليه وسلم، يبدل به نعت الدجال، أو الإعتراف بنبوته يبدل لها الحجد لها، أو كتب الله المنزلة على موسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام يبدل بها غير أحكامها كآية الرجم وشبهها، أو الإسلام. قاله الطبري؛ أو شكر النعمة يبدل بها الكفر أو آياته وهي أجل نعمة من الله، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة، وتبديلهم إياها، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم، كقوله: { { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [التوبة: 125] قاله الزمخشري: سبعة أقوال.

ولفظ: من يبدل، عام وهو شرط، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمه: ككفار قريش وغيرهم، فإن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم نعمة عليهم، وقد بدلوا بالشكر عليها وقبولها الكفر.

{ من بعد ما جاءته } أي: من بعدما أسديت إليه، وتمكن من قبولها، ومن بعدما عرفها كقوله: { { ثم يحرفونه من بعدما عقلوه } [البقرة: 75] وأتى بلفظ: من، إشعاراً بابتداء الغاية، وأنه يعقب: ما جاءته، يبدله. وفي قوله: { من بعدما جاءته } تأكيد، لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه.

وقرىء: ومن يبدل بالتخفيف، ويبدلَ، يحتاج لمفعولين: مبدل ومبدل له، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، وتقدم الكلام على هذا في قوله: { { فبدل الذين ظلموا } [البقرة: 59، الأعراف: 162] وإذا تقرر هذا، فالمفعول الواحد هنا محذوف، وهو البدل، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً } [إبراهيم: 28]: فكفراً هو البدل، ونعمة الله، هو المبدل، وهو الذي أصله: أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر، فالتقدير إذن: ومن يبدل نعمة الله كفراً، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك، لأنه لا يترتب على تقدير: أن يكون النعمة هي البدل، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله: { فإن الله شديد العقاب } خبر يتضمن الوعيد، ومن حذف حرف الجر لدلالة المعنى قوله: { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [الفرقان: 70] أي: بسيئاتهم، ولا يصح أن يكون التقدير: سيئاتهم بحسنات، فتكون السيئات هي البدل، والحسنات هي المبدل، لأن ذلك لا يترتب على قوله: { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } [الفرقان: 70] { فإن الله شديد العقاب } خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط، تقديره: فإن الله شديد العقاب له، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين، فيغنى عن الربط لقيامها مقام الضمير، والأَوْلى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، التقدير: يعاقبه.

قال عبد القاهر في كتاب (دلائل الإعجار): ترك هذا الإضمار أَوْلى، يعنى بالإضمار شديد العقاب له، لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفاً بأنه شديد العقاب، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب. لهذا، ولذلك سمي العذاب عقاباً، لأنه يعقب الجرم.

وذكر بعض من جمع في التفسير: أن هذه الآية: { سل بني إسرائيل } مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: والتقدير: فإن زللتم إلى آخر الآية: سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ أي: أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.

ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض، متلاحمة التركيب، واقعة مواقعها، فالمعنى: أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام، ثم أخبروا أن من زلّ جازاه الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، ثم قيل: لا ينتظرون في إيمانهم إلاَّ ظهور آيات بينات، عناداً منهم، فقد أتتهم الآيات، ثم سلَّى نبيه صلى الله عليه وسلم في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات، بقوله: { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز، باللفظ البليغ الموجز، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار، وبنظم ذوي الانحصار، منزه عنها كلام الواحد القهار.

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم، ويكذبون بالمعاد، ويسخرون من المؤمنين الفقراء، كعمار، وصهيب، وأبي عبيدة، وسالم، وعامر بن فهيرة، وخباب، وبلال، ويقولون: لو كان نبينا لتبعه أشرافنا، قاله ابن عباس، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه.

وقال مقاتل: في عبد الله بن أبي، وأصحابه، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، ويقولون: أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.

وقال عطاء: في علماء اليهود من بني قريظة، والنضير، وقينقاع، سخروا من فقراء المهاجرين، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال، أسهل شيء وأيسره.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني اسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى، وأنهم بدلوا، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا، والاستبشار بها، وتزيينها لهم، واستقامتهم للمؤمنين، فلبني اسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويكذبون على كتاب الله، فيكتبون ما شاؤوا لينالوا حظاً خسيساً من حظوظ الدنيا، ويقولون: هذا من عند الله.

وقراءة الجمهور: زين، على بناء الفعل للمفعول، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث، وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهر، لأن المسند إليه الفعل مؤنث، وحذف الفاعل لفهم المعنى، وهو: الله تعالى، يؤيد ذلك قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبي حيوة: زين، على البناء للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله: { فإن الله شديد العقاب }.

وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها، أو بالشهوات التي خلقها فيهم، وإليه أشار بقوله: { زين للناس حب الشهوات } [آل عمران: 14] الآية، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه، فأعجبهم بهجتها، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه.

وقال أبو بكر الصدّيق، رضي الله عنه، حين قدم عليه بالمال، قال: اللهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرح بما زينت لنا.

قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين تزييناً، ويدل عليه قراءة من قرأ: { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } على البناء للفاعل. انتهى كلامه. وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر، وإنما ذلك من خلق العبد، فلذلك تأول التزيين على الخذلان، أو على الإمهال، وقيل: الزين الشيطان، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعاً، وتقبيح ما حسن شرعاً. والفرق بين التزيينين: أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع غفاله، وتحسينه بوساوسه إياها لهم، وقيل: المزين، نفوسهم كقوله: { إن النفس لأمارة بالسوء } [يوسف: 53] { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } [المائدة: 30] { وكذلك سوّلت لي نفسي } [طه: 96] وقيل: شركاؤهم من الجن والإنس، قال تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين } [الأنعام: 137] الآية وقال: { شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض } [الأنعام: 112].

وقيل: المزين هذه الحياة الدنيا قال: { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة } [الحديد: 20] وقيل: المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي.

{ ويسخرون من الذين آمنوا } الضمير عائد على الذين كفروا، وتقدّم من هم، وكذلك تقدّم القول في: الذين آمنوا، في سبب النزول، ومعنى: يسخرون: يستهزئون، وذلك لفقرهم، أو: لاتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: لاتهامهم إياهم أنهم مصدّقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لضعفهم وقلة عددهم؛ أقوال أربعة.

وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله: زين، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا، فليس أمراً متجدّداً، وصدرت الثانية بالمضارع، لأنها حالة تتجدّد كل وقت وقيل: هو على الاستئناف أي: الفعل المضارع، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير: وهم يسخرون، فيكون خبر مبتدأ محذوف، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية.

{ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } فوق: ظرف مكان، فقيل: هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة، لأن المؤمنين في عليين في السماء، والكفار في سجين في الأرض وقيل: الفوقية، مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين: نعيم المؤمنين في الجنة، ونعيم الكافرين في الدنيا، وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشى الشبه، وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ، وإما بالنسبة إلى سخرية المؤمنين بهم في الآخرة، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا، فهم عالون عليهم، متطاولون، يضحكون منهم، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم، وإما بالنسبة إلى علوّ حالهم، لأنهم في كرامة، والكفار في هوان.

وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله { والذين اتقوا } ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي، ولتبعث المؤمن على التقوى، وليزول قلق التكرار لو كان: والذين آمنوا، لأن قبله: الذين أمنوا.

وانتصاب: يوم القيامة، على الظرف، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبراً، أي: كائنون هم يوم القيامة، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه، وبين من تضاف هي إليه، كقولك: زيد فوق عمرو في المنزل، حتى كأنه قيل: زيد أعلى من عمرو في المنزلة، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه، قال ابن عطية: وهذا كله من التحميلات، حفظ لمذهب سيبويه، والخليل، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك. انتهى كلامه.

وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل، فالبصريون يمنعون: زيد أحسن أخوته، والكوفيون يجيزونه، وأما أن ذلك في: فوق، فلا نعلمه، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى، وأعلى أفعل تفضيل، نقل الخلاف إليها، والذي نقوله: إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلوّ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية، وإنما هي تدل على مطلقها، ولا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن، كقوله: { { والركب أسفل منكم } [الأنفال: 42]، كما أن أعلى كذلك، فإذا تقررّ هذا كان المعنى، والله أعلم، والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علوّ، بل المعنى أن العلوّ يوم القيامة إنما هو للمتقين، وغيرهم سافلون، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم.

{ والله يرزق من يشاء بغير حساب } اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم، فقيل: هذا الرزق في الآخرة، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب، ويكون معنى قوله: بغير حساب، أي بغير نهاية، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب، أو يكون المعنى: أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض، فهو بغير حساب، وقيل: هذا الرزق في الدنيا، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير، يصير إليهم بلا حساب، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره، قاله ابن عباس، وقال نحوه القفال، قال: قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش، ورؤساء اليهود، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه.

وقالوا ما معناه: إنها متصلة بالكفار، وقال الزمخشري يعني: أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه، كما وسع على قارون وغيره، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة، وهي استدارجكم بالنعمة، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم، انتهى كلامه.

ولم يذكر غيره في معنى هذه الجملة.

وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى: والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا، فلا تستعظموا ذلك، ولا تقيسوا عليه الآخرة، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله، فيرزقان بحساب ذلك، بل الرزق بغير حساب الأعمال، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة، إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه، فالمعنى: إن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا، فهو فوق الكافر يوم القيامة. إنتهى كلامه. والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا، بسبب ما رزقوا: من التمكن فيها، والرياسة، والبسط، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة. بسبب ما رزقوا من: الفوز، والتفرد بالنعيم السرمدي، بيَّن أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة، وأنه لا يحاسبه أحد، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي، لأن ذلك لا يكون إلاَّ لمن يخاف نفاذ ما عنده.

وقالوا في الحديث الصحيح: "يمين الله ملأى لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض" ، فإن ذلك لم ينقص شيئاً مما عنده.

ومفعول يشاء محذوف، التقدير: من يشاء أن يرزقه، دل عليه ما قبله، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها: الفعل، والفاعل، والمفعول الأول وهو: من. فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر، وإن كان للفاعل فهو من صفاته، أو للمفعول فهو من صفاته، فإذا كان للفعل كان المعنى: يرزق من يشاء رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: العد، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته، أو يعني به المحاسبة في الآخرة، أي: رزقاً لا يقع عليه حساب في الآخرة، وتكون على هذا الباء زائدة.

وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال: المعنى يرزق الله غير محاسب عليه، أي متفضلاً في إعطائه لا يحاسب عليه، أو غير عادٍ عليه ما يعطيه، ويكون ذلك مجازاً عن التقتير والتضييق، فيكون: حساب مصدراً عبر به عن اسم الفاعل من: حاسب، أو عن اسم الفاعل من: حسب، وتكون الباء زائدة في الحال، وقد قيل: إن الباء زيدت في الحال المنفية، وهذه الحال لم يتقدمها نفي، ومما قيل: إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر:

فما رجعت بخائبة ركاب حكيم بن المسيب منتهاها

أي: فما رجعت خائبة، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدراً عبر به عن اسم المفعول، أي: غير محاسب على ما يعطي تعالى، أي: لا أحد يحاسب الله تعالى على ما منح، فعطاؤه غمراً لا نهاية له.

وإذا كان: لمن، وهو المفعول الأول ليرزق، فالمعنى: إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى، فيكون أيضاً حالاً منه، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب، أو المفعول من حسب، أي: غير معدود عليه ما رزق، أو على حذف مضاف أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: المحاسبة أو العد، والباء زائدة في هذه الحال أيضاً. ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى: أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظن، ولا يقدر أن يأتيه الرزق، كما قال: { ويرزقه من حيث لا يحتسب } [الطلاق: 3] فيكون حالاً أيضاً أي: غير محتسب، وهذه الأوجه كلها متكلفة، وفيها زيادة الباء.

والأولى أن تكون الباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بباء الحال، وعلى هذا يصلح أن تكون: للمصدر، وللفاعل، وللمفعول، ويكون الحساب مراداً به المحاسبة، أو العد، أي: يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق، أو: ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق.

وكون الباء لها معنى أَوْلى من كونها زائدة، وكون المصدر باقياً على المصدرية أولى من كونه مجازاً عن اسم فاعل أو أسم مفعول وكونه مضافاً لغير أولى من جعله مضافاً لذي محذوفة، ولا تعارض بين قوله: { جزاءً من ربك عطاءً حساباً } [النبأ: 36] أي: محسباً أي: كافياً من: أحسبني كذا، إذا كفاك، وبغير حساب معناه العد، أو المحاسبة، أو لاختلاف متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة، فبغير حساب في التفضل المحض، وعطاءً حساباً في الجزاء المقابل للعمل، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما: فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه، وفي الآخره يحاسب، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه، أي: يرزق ولا يحاسب عليه، أو ولا يعد عليه، وحساباً صفة للعطاء، فقد اختلف من جهة من قاما به، وزال بذلك التعارض.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من أواخر أقوال الحج وأفعاله الأمر بذكر الله في أيام معدودات، أي: قلائل، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به، لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي، ودل الأمر على مشروعيته في أيام، وهو: جمع، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم، وإن كان حال من تأخر أفضل، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم، فلذلك أخبر أن الله رفع الإثم عنهما، إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه الله تعالى، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى الله تعالى.

ثم أمر بالتقوى، وتكرار الأمر بها في الحج، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى، قسم الله تعالى ذلك إلى قسمين، فقال: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } أي: يؤنقك ويروق لفظه، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهراً، ثم لا يكتفي بما زوّر ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد الله على ما في قلبه من ذلك، فيحلف بالله أن سريرته مثل علانيته، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي الأرض، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقاً، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد، فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه، ثم ذكر أنه من شدّة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى الله تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم. أي: مصحوباً بالإثم فليس غضبه لله. إنما هو لغير الله، فلذلك استصحبه الإثم.

ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغترّ بغير الله، وهو جهنم، فهي كافية له، ومبدلته بعد عزه ذلاً، ثم ذمّ تعالى ما مهد لنفسه من جهنم، وبئس الغاية الذم، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم، وهو: من باع نفسه في طلاب رضى الله تعالى، واكتفى بهذا الوصف الشريف، إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات، إذ صار عبد الله يوجد حيث رضي الله تعالى، ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف الله به ورحمه، ورأفة الله به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان، وذكر الرأفة التي هي، قيل: أرق من الرحمة.

ثم نادى المؤمنين بقوله: { يا أيها الذين آمنوا } وأمرهم بالدخول في الإسلام، وثنى بالنهي، لأن الأمر أشق من النهي، لأن الأمر فعل والنهي ترك، ولمجاورته قوله: { ومن الناس من يشري نفسه } فصار نظير: { يوم تبيضّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم } [آل عمران: 106] ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: سلوك معاصي الله، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب، حكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل، فدل بعزته على القدرة، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع: { { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } [النجم: 31]ٍ.

ثم أعرض تعالى عن خطابهم، وأخبر عنهم إخبار الغائبين، مسلياً لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام، فقال: ما ينتظرون إلاَّ قيام الساعة يوم فصل الله بين العباد، وقضاء الأمر، ورجوع جميع الأمور إليه، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم، كما جاء في الحديث: "إن يوم القيامة يأتيهم الله في صورة كذا" ، على ما يليق بتقديسه عن جميع ما يشبه المخلوقين، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص.

ثم قال تعالى: { سل بني إسرائيل } منبهاً على أن دأب من أرسل إليه الأنبياء، وظهرت لهم المعجزات الإعراض عن ذلك، وعدم قبول الإيمان، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق.

ثم أخبر تعالى: أن من بدل نعمة الله عاقبه أشدّ العقاب، قابل نعمة الله التي هي مظنة الشكر بالكفر، ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم الله، وهو: تزيين الحياة الدنيا، فرغبوا في الفاني وزهدو ا في الباقي إيثاراً للعاجل على الآجل، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين، حيث ما يتوهم في وصف الإيمان، والرغبة فيما عند الله تعالى، وذكر أنهم هم العالون يوم القيامة، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين، وهم الذين يحبهم، بغير حساب، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير، والتقدير: وأعاد ذكرهم بلفظ: من يشاء، تنبيهاً على إرادته لهم، ومحبته إياهم، واختصاصهم به، إذ لو قال: والله يرزقهم بغير حساب، لفات هذا المعنى من ذكر المشيئة التي هي الإرادة.