التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٦
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
٧
-البقرة

البحر المحيط

{ إن الذين كفروا سواء عليهم }، إن: حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري، فينصب المسند إليه، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضاً حرف جواب بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك. الكفر: الستر، ولهذا قيل: كافر للبحر، ومغيب الشمس، والزارع، والدافن، والليل، والمتكفر، والمتسلح. فبينها كلها قدر مشترك وهو الستر، سواء اسم بمعنى استواء مصدر استوى، ووصف به بمعنى مستو، فتحمل الضمير. قالوا: مررت برجل سواء، والعدم قالوا: أصله العدل، قال زهير: يسوي بينها فيها السواء. ولإجرائه مجرى المصدر لا يثني، قالوا: هما سواء استغنوا بتثنية سي بمعنى سواء، كقي بمعنى قواء، وقالوا: هما سيان. وحكى أبو زيد تثنيته عن بعض العرب. قالوا: هذان سواآن، ولذلك لا تجمع أيضاً، قال:

وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها

وهمزته منقلبة عن ياء، فهو من باب طويت.

وقال صاحب اللوامح: قرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز، فيجوز أنه أخلص الواو، ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين، وهو أن يكون بين الهمزة والواو. وفي كلا الوجهين لا بد من دخول النقص فيما قبل الهمزة الملينة من المد، انتهى. فعلى هذا يكون سواء ليس لامه ياء بل واواً، فيكون من باب قواء. وعن الخليل: سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها مكان الألف، مثل دائرة السوء على قراءة من ضم السين، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسب، ولا يكون على هذه القراءة له تعلق إعراب بالجملة بعدها بل يبقى. { أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ، مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء، وزيد وللاستفهام الصرف، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها، وقد يصحب الهمزة التقرير: { أأنت قلت للناس }؟ والتحقيق، ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية { سواء عليهم أأنذرتم }، والتوبيخ { { أذهبتم طيباتكم } [الأحقاف: 20]، والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن. الإنذار: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً أو إخباراً، ويتعدى إلى اثنين: { { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } [النبأ: 40]، { { فقل أنذرتكم صاعقة } [فصلت: 13]، والهمزة فيه للتعدية، يقال: نذر القوم إذا علموا بالعدو. وأم حرف عطف، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة، وتقرير هذا في النحو، ولا تزاد خلافاً لأبي زيد. لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع، اللفظ الماضي معنى، فعمل فيه ما يخصه، وهو الجزم، وله أحكام ذكرت في النحو.

{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } الختم: الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب: مصدر قلب، والقلب: اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه. السمع: مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكنى به في بعض المواضع عن الأذن. البصر: نور العين، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة: الغطاء، غشاه أي غطاه، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث، كما صححوا اشتقاقه، قال أبو علي الفارسي: لم أسمع من الغشاوة فعلاً متصرفاً بالواو، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء، غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان والغشاوة من غشي، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل، كما لم يصرف من الجباوة، انتهى كلامه. العذاب: أصله الاستمرار، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته، أي داومت عليه الألم، وقد جعل الناس بينه وبين العذاب: الذي هو الماء الحلو، وبين عذب الفرس: استمر عطشه، قدراً مشتركاً وهو الاستمرار، وإن اختلف متعلق الاستمرار. وقال الخليل: أصله المنع، يقال عذب الفرس: امتنع من العلف. عظيم: اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان، وفعيل اسم، وصفة الاسم مفرد نحو: قميص، وجمع نحو: كليب، ومعنى نحو: صهيل، والصفة مفرد فعله كقرى، وفعله كسرى، واسم فاعل من فعل ككريم، وللمبالغة من فاعل كعليم، وبمعنى أفعل كشميط، وبمعنى مفعول كجريح، ومفعل كسميع وأليم، وتفعل كوكيد، ومفاعل كجليس، ومفتعل كسعير، ومستفعل كمكين، وفعل كرطيب، وفعل كعجيب، وفعال كصحيح، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب.

مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون، الأول والثاني مبتدأ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظاً فيه قيد، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لا موضع له من الإعراب، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس، والخبر قوله: لا يؤمنون، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. والوجه الثاني: أن يكون له موضع من الإعراب، وهو أن يكون في موضع خبر إن، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه، كقوله تعالى: { { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } [الفتح: 29] أو يكون جملة دعائية وهو بعيد، وإذا كان لقوله تعالى: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن، والجملة في موضع رفع على الفاعلية، وقد اعتمد بكونه خبر الذين، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة، وأجازوا تعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، وأي قيام أحدهما، ومذهب الفراء وجماعة: أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا، ونسب هذا لسيبويه. قال أصحابنا: والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض، وتكون في موضع خبر إن، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم { { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } [إبراهيم: 21]، { { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } [الأعراف: 193]، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، { { اصبروا أو لا تصبروا، سواء عليكم } [الطور: 16] أي أصبرتم أم لم تصبروا، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء على أي الرجال ضربت، قال زهير:

سواء عليه أي حين أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال:

ســواء صحيحــات العيـون وعورهـا

وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة، وإن لم تكن مصدره بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى، نحو: قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو: علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على علمت، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو:

على حين عاتبت المشيب على الصبا

أذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت الإضافة.

قال ابن عطية: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء علي أقمت أم قعدت أم ذهبت؟ وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام؟ فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاماً، انتهى كلامه. وهو حسن، إلا أن في أوله مناقشة، وهو قوله: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وليس كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبراً لأن، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء، وما بعده إذا كان خبراً أو مبتدأ معناه الخبر. ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم، وبه قرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف، فقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وهشام: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، إلا أن أبا عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وهشام، يدخلون بينهما ألفاً، وابن كثير لا يدخل. وروي تحقيقاً عن هشام وإدخال ألف بينهما، وهي قراءة ابن عباس، وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش، كابن كثير، وكقالون وإبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين: أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حده. الثاني: إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة، وما قاله هو مذهب البصريين، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن.

وقرأ الزهري، وابن محيصن: أنذرتهم بهمزة واحدة، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها، ولأجل ثبوت ما عاد لها، وهو أم، وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها. والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا، ولئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة. وهل قوله: لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم؟ أقوال، وظاهر قوله تعالى: { ختم الله } أنه إخبار من الله تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئاً من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صوناً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه. والأول: مجاز الاستعارة، والثاني: مجاز التمثيل. ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه، قال مجاهد: إذا أذنبت ضم من القلب هكذا، وضم مجاهد الخنصر، ثم إذا أذنبت ضم هكذا، وضم البنصر، ثم هكذا إلى الإبهام، وهذا هو الختم والطبع والرين. وقيل: الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين. وقيل: حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم. وقيل: الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي، إذ الله تعالى خالق كل شيء.

وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد، إذ مذهبهم أن الله تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه، إذ ذاك قبيح والله تعالى يتعالى عن فعل القبيح، وذكر أنواعاً من التأويل عشرة، ملخصها: الأول: أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كأن الله هو الذي فعل بهم ذلك. الثاني: أنه من باب التمثيل كقولهم: طارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم الله عليها. الثالث: أنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم. الرابع: أنهم لما كانوا مقطوعاً بهم أنهم لا يؤمنون طوعاً ولم يبق طريق إيمانهم إلا بإلجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم. الخامس: أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكماً كقولهم: { قلوبنا في أكنة }. السادس: أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون. السابع: أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقاباً عاجلاً، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا. الثامن: أن يكون ذلك فعله بهم من غير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان. التاسع: أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى: { { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } [الإسراء: 97]. العاشر: ما حكى عن الحسن البصري، وهو اختيار أبي علي الجبائي، والقاضي، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر وسمعه، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون. انتهى ما قاله المعتزلة. والمسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقد وقع قوله: { وعلى سمعهم } بين شيئين: يمكن أن يكون السمع محكوماً عليه مع كل واحد منهما، إذ يحتمل أن يكون أشرك في الختم بينه وبين القلوب، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار. لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله: { { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } [الجاثية: 23]. وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان، أو على التوكيد، إن كان الختم واحداً فيكون أدل على شدة الختم.

وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار. وأما الجمهور فقرؤوا على التوحيد، إما لكونه مصدراً في الأصل فلمح فيه الأصل، وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع، وإما لكونه مصدراً حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم. وقد اختلف الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء. والإمالة في أبصارهم جائزة، وقد قرىء بها، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء، إذ لولاها لما جازت الإمالة، وهذا بتمامه مذكور في النحو. وقرأ الجمهور: غشاوة بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث، والإسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد، وهو منعهم من الإيمان، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله: { وجعل على بصره غشاوة }، أي وجعل على أبصارهم غشاوة، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر، أي بغشاوة، وهو ضعيف. ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، لأن معنى ختم غشي وستر، كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة. وقال أبو علي: وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب:

متقلــداً سيفــاً ورمحــاً

وقول الآخر:

علفتهــا تبنــاً ومــاء بــارداً

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. انتهى كلام أبي علي،رحمه الله تعالى. ولا أدري ما معنى قوله: لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على ختم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم } دعاء عليهم لا خبراً، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله، ويكون غشاوة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء، نحو قولك: رحم الله زيداً وسقياً له، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور. وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع، وقرأ الحسن باختلاف عنه وزيد بن علي: غشاوة بضم الغين ورفع التاء، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين، وعبيد بن عمير كذلك، إلا أنه رفع التاء. وقرأ بعضهم غشوة بالكسر والرفع، وبعضهم غشوة وهي قراءة أبي حيوة، والأعمش قرأ بالفتح والرفع والنصب. وقال الثوري: كان أصحاب عبد الله يقرأونها غشية بفتح الغين والياء والرفع. اهـ. وقال يعقوب: غشوة بالضم لغة، ولم يؤثرها عن أحد من القراء.

قال بعض المفسرين: وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة، والأشياء التي هي أبداً مشتملة، فهذا يجيء وزنها: كالصمامة، والعمامة، والعصابة، والريانة، وغير ذلك. وقرأ بعضهم: غشاوة بالعين المهملة المكسورة والرفع من العشي، وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب على السمع من باب التقديم بالشرف وتقديم الجملة التي انتظمتها على الجملة التي تضمنت الأبصار من هذا الباب أيضاً. وذكر أهل البيان أن التقديم يكون باعتبارات خمسة: تقدم العلة والسبب على المعلول والمسبب، كتقديم الأموال على الأولاد في قوله تعالى: { { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } [التغابن: 15]، فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على المؤنة، فهي سبب إلى التزوج، والنكاح سبب للتناسل. والعلة: كتقدم المضيء على الضوء، وليس تقدم زمان، لأن جرم الشمس لا ينفك عن الضوء. وتقدم بالذات، كالواحد مع الإثنين، وليس الواحد علة للاثنين بخلاف القسم الأول. وتقدم بالشرف، كتقدم الإمام على المأموم. وتقدم بالزمان، كتقدم الوالد على الولد بالوجود، وزاد بعضهم سادس وهو: التقدم بالوجود حيث لا زمان. ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا، أخبر بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب العظيم. ولما كان قد أعد لهم العذاب صير كأنه ملك لهم لازم، والعظيم هو الكبير. وقيل: العظيم فوق، لأن الكبير يقابله الصغير، والعظيم يقابله الحقير. قيل: والحقير دون الصغير، وأصل العظم في الجثة ثم يستعمل في المعنى، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما شع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.

وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: { إن الذين كفروا } إلى قوله: { عظيم }، أقوالاً: أحدها: أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، قاله ابن عباس، وكان يسميهم. الثاني: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، قاله أبو العالية. الثالث: في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. الرابع: في أصحاب القليب: وهم أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة. الخامس: في مشركي العرب قريش وغيرها. السادس: في المنافقين، فإن كانت نزلت في ناس بأعيانهم وافوا على الكفر، فالذين كفروا معهودون، وإن كانت لا في ناس مخصوصين وافوا على الكفر، فيكون عاماً مخصوصاً. ألا ترى أنه قد أسلم من مشركي قريش وغيرها ومن المنافقين ومن اليهود خلق كثير بعد نزول هاتين الآيتين؟.

وذكروا أيضاً أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً. الأول: الخطاب العام للفظ الخاص المعنى. الثاني: الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم. الثالث: المجاز، ويسمى: الاستعارة، وهو قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم }، وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوي، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة. الرابع: الحذف، وهو في مواضع: منها: أن الذين كفروا، أي أن القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به. ومنها: لا يؤمنون بالله وبما أخبرتهم به عنه. ومنها: ختم الله على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي. ومنها: وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية. ومنها: ولهم عذاب، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم. الخامس: التعميم: وهو في قوله: { ولهم عذاب عظيم }، فإنه لو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام. السادس: الإشارة، فإن قوله: { سواء عليهم } إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال: سواء عندهم، فلما قال: سواء عليهم، نبه على أنه مستعل عليهم، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح، وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى، قال تعالى: { { سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } [الشعراء: 136]، { { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } [إبراهيم: 21]، سواء عليها رحلتي ومقامي، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكال عليهم. السابع: مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذه المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره، وهذا كله من مجاز التشبيه، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة، وهو بالاستعارة أولى، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به.