التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
٦٣
لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٦٤
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٦٥
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
٦٦
لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ
٦٧
وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
٦٨
ٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٦٩
-الحج

البحر المحيط

لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور، ذكر أيضاً ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل. وقال أبو عبد الله الرازي: الماء وإن كان مرئياً إلاّ أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.

وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان. كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكراً له. ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.

فإن قلت: فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنتم مثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.

وقال ابن عطية: وقوله { فتصبح الأرض } بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله { فتصبح } من حيث الآية خبراً، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله { ألم تر } فاسد المعنى انتهى. ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافياً للاخضرار، ولا كون المعنى فاسداً. وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } فقال: هذا واجب وهو تنبيه. كأنك قلت: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا. قال ابن خروف، وقوله فقال هذا واجب، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى. ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه.

وقال بعض شراح الكتاب { فتصبح } لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى { أن الله أنزل } فالأرض هذا حالها. وقال الفراء { ألم تر } خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى. ويقول إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله { { ألست بربكم قالوا بلى } [الأعراف: 172] وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محدثاً إنما يأتي ولا يحدث، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتفٍ في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود. وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله:

ألم تسأل فتخبرك الرسوم

يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك، إنما هو مترتب على الإنزال، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرض عليها، والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف:

يسمو بناظرتين تحسب فيهما لما أجالهما شعاع سراج
لما نزلت بحصن أزبر مهصر للقرن أرواح العدا محاج
فأكر أحمل وهو يقعي باسته فإذا يعود فراجع أدراجي
وعلمت أني إن أبيت نزاله أني من الحجاج لست بناجي

فقوله: فأكر تصوير للحالة التي لابسها. والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي: تصبح، من ليلة المطر. وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر. وقال ابن عطية: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعيف انتهى.

وإذا جعلنا { فتصبح } بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح، وإذا كان الاخضرار متأخراً عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت } [الحج: 5]، [فصلت: 39] . وقرىء { مخضرة } على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر، وخص تصبح دون سائر أوقات النهار لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي.

{ إن الله لطيف } أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله { خبير } بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره. وقيل { خبير } بلطيف التدبير { خبير } بالصنع الكثير. وقيل: { خبير } بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان. وقال ابن عباس { لطيف } بأرزاق عباده { خبير } بما في قلوبهم من القنوط. وقال الكلبي { لطيف } بأفعاله { خبير } بأعمال خلقه. وقال الزمخشري { لطيف } وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء { خبير } بمصالح الخلق ومنافعهم. وقال ابن عطية: واللطيف المحكم للأمور برفق. { ما في الأرض } يشمل الحيوان والمعادن والمرافق.

وقرأ الجمهور { والفلك } بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن، وانتصب عطفاً على { ما } ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيهاً على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها، وهذا هو الظاهر. وجوز أن يكون معطوفاً على الجلالة بتقدير وأن { الفلك } وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و{ تجري } حال على الإعراب الظاهر. وفي موضع الجر على الإعراب الثاني. وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون { تجري } حالاً. والظاهر أن { أن تقع } في موضع نصب بدل اشتمال، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض. وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة { أن تقع } والكوفيون لأن لا تقع. وقوله { إلا بإذنه } أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها، ويجوز أن يكون ذلك وعيداً لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفاً عليكم سقطت كما في قولهم: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً و{ إلا بإذنه } متعلق بأن تقع أي { إلاّ بإذنه } فتقع. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يعود قوله { إلاّ بإذنه } على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، فكأنه أراد إلاّ بإذنه فيه يمسكها انتهى. ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه.

{ وهو الذي أحياكم } أي بعد أن كنتم جماداً تراباً ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى { { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [البقرة: 28] و{ الإنسان }. قال ابن عباس: هو الكافر. وقال أيضاً: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأُبيّ بن خلف. وهذا على طريق التمثيل. { لكفور } لجحود لنعم الله، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها.

و{ لكل أمة جعلنا منسكاً } روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم، ولا تأكلون ما قتل الله فنزلت بسبب هذه المنازعة. وقال ابن عطية { هم ناسكوه } يعطى أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه انتهى. ولا يتعين ما قال إذ قد يتسع في معمول اسم الفاعل كما يتسع في معمول الفعل فهو موضع اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به على السعة، ومن الاتساع في ظرف المكان قوله:

ومشرب أشربه رسيل لا آجن الماء ولا وبيل

مشرب مكان الشرب عاد عليه الضمير، وكان أصله أشرب فيه فاتسع فيه فتعدى الفعل إلى ضميره ومن الاتساع سير بزيد فرسخان. وقرىء { فلا ينازعنك } بالنون الخفيفة أي أثبت على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك، ومثله { { ولا يصدنك عن آيات الله } [القصص: 87] وهذا النهي لهم عن المنازعة من باب لا أرينك ههنا، والمعنى فلا بد لهم بمنازعتك فينازعوك. وقرأ أبو مجلز { فلا ينازعنك } من النزع بمعنى فلا يقلعنك فيحملونك من دينك إلى أديانهم من نزعته من كذا و{ الأمر } هنا الدين، وما جئت به وعلى ما روي في سبب النزول يكون { في الأمر } بمعنى في الذبح { لعلى هدى } أي إرشاد. وجاء و{ لكل أمة } بالواو وهنا { لكل أمة } لأن تلك وقعت مع ما يدانها ويناسبها من الآي الورادة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً قاله الزمخشري.

{ وإن جادلوك } آية موادعة نسختها آية السيف أي وإن أبوا للجاجهم إلاّ المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين { الله يحكم بينكم } خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يلقى منهم.