التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ
٥٧
وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ
٥٨
وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ
٥٩
وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
٦٠
أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
٦١
وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٢
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
٦٣
حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
٦٦
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
٦٧
-المؤمنون

البحر المحيط

لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم، والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب { ربهم مشفقون } وهو قول الكلبي ومقاتل و{ من خشية } متعلق بمشفقون قاله الحوفي. وقال ابن عطية: و{ من } في { من خشية } هي لبيان جنس الإشفاق، والإشفاق إنما هو من عذاب الله، والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر. وفي كل شيء له آية.

ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام، إذ لكفار قريش أن تقول: نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق. وقيل: ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه. وقرأ الجمهور { يؤتون ما آتوا } أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات { وقلوبهم وجلة } أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء. قال ابن عباس وابن جبير: هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال: والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا "قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر، وهو على ذلك يخاف الله قال: لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل" . قيل: وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح. وقال الحسن: المؤمن يجمع إحساناً وشفقة، والمنافق يجمع إساءة وأمناً. وقرأ الأعمش { إنهم } بالكسر. وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز، والثانية على تحصيل الإيمان بالله، والثالثة على ترك الرياء في الطاعة، والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى.

{ أولئك يسارعون } جملة في موضع خبر أن. قال ابن زيد { الخيرات } المخافتة والإيمان والكف عن الشرك. قال الزمخشري: { يسارعون في الخيرات } يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع، ووجوه الإكرام كما قال { { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [آل عمران: 148] { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [العنكبوت: 27] لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى. وقرأ الحر النحوي: يسرعون مضارع أسرع، يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد، وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم. قال الزجاج { يسارعون } أبلغ من يسرعون انتهى. وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه.

{ وهم لها سابقون } الظاهر أن الضمير في { لها } عائد على { الخيرات } أي سابقون إليها تقول: سبقت لكذا وسبقت إلى كذا، ومفعول { سابقون } محذوف أي سابقون الناس، وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله { يسارعون } وثبوته بقوله { سابقون } وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله. وقال الزمخشري { لها سابقون } أي فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها انتهى. وهذان القولان عندي واحد. قال أيضاً أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى. ولا يدل لفظ { لها سابقون } على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق، فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح. وقال أيضاً: ويجوز أن كون { لها سابقون } خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى. وهذا مروي عن ابن عباس. قال: المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى. والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره. وقيل: الضمير في { لها } عائد على الجنة. وقيل: على الأمم.

{ ولا نكلف نفساً إلا وسعها } تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة { ولدينا كتاب ينطق بالحق } أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف التي يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن.

{ بل قلوبهم } أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء { من هذا } أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن، والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم أقوال خمسة { ولهم أعمال من دون ذلك } أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم، فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق، وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية، وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه. وقيل: الإشارة بذلك إلى قوله { من هذا } وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق، أو القرآن ونحوه. وقال الحسن ومجاهد: إنما أخبر بقوله { ولهم أعمال } عما يستأنف من أعمالهم أي إنهم لهم أعمال من الفساد. وعن ابن عباس { أعمال } سيئة دون الشرك. وقال الزمخشري { ولهم أعمال } متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم لها معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب و{ حتى } هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية انتهى. وقيل الضمير في قوله { بل قلوبهم } يعود إلى المؤمنين المشفقين { في غمرة } من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل { وهم } مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة { ولهم أعمال } من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه، ويريد بالأعمال الأول الفرائض، وبالثاني النوافل.

{ حتى إذا أخذنا مترفيهم } رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم. قال أبو عبد الله الرازي: وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصاً وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر، وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل: فما المراد بقوله { من هذا }؟ قلنا: إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى. وتقدم قول الزمخشري في { حتى } أنها التي يبتدأ بعدها الكلام، وأنها غاية لما قبلها، وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب. وقال الحوفي { حتى } غاية وهي عاطفة، { إذا } ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط { إذا } الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في { إذا } والتقدير جأروا، فيكون جأروا العامل في { إذا } الأولى، والعامل في الثانية { أخذنا } انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلاً أن يرد.

وقال ابن عطية و{ حتى } حرف ابتداء لا غير، و{ إذا } الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى. وقال مكي: أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر { لها عاملون } إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم { بالعذاب إذا هم } يضجون ويستغيثون، والمترفون المنعمون والرؤساء. والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد. وقيل: العذاب قتلهم يوم بدر. وقيل: عذاب الآخرة، والظاهر أن الضمير في { إذا هم } عائد على { مترفيهم } إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب. وقيل: يعود على الباقين بعد المعذبين. قال ابن جريج: المعذبون قتلى بدر، والذين { يجأرون } أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا.

{ لا تجأروا اليوم } أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازاً أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة. وقال قتادة { يجأرون } يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم. وقال الربيع بن أنس: تجأرون تجزعون، عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه { إنكم منا لا تنصرون } أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا، فالجوار غير نافع لكم ولا مجدٍ.

{ قد كانت آياتي } هي آيات القرآن { تنكصون } ترجعون استعارة للإعراض عن الحق. وقرأ علي بن أبي طالب { تنكُصون } بضم الكاف والضمير في { به } عائد على المصدر الدال عليه { تنكصون } أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب، وضمن { مستكبرين } معنى مكذبين فعُدِّي بالباء أو تكون الباء للسبب، أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو. والجمهور على أن الضمير في { به } عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر، وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلاّ أنهم ولاته والقائمون به، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسنه أن في قوله { تتلى عليكم } دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام، وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين. وقيل تتعلق بسامراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب من أتى به.

وقرأ الجمهور { سامراً } وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو سمراً بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر، وابن عباس أيضاً وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك، وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل سامر.

وقرأ الجمهور { تهجرون } بفتح التاء وضم الجيم. وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات. قال ابن عباس { تهجرون } الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر. وقال ابن زيد وأبو حاتم: من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول. وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش. قال ابن عباس: إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم. وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضاً وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضاً وأبو حيوة كذلك إلاّ أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش. وقال ابن جني: لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى إنكم إن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجهاً.