التفاسير

< >
عرض

يسۤ
١
وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ
٢
إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣
عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤
تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ
٥
لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
٦
لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
٧
إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
٨
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
٩
وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
١٠
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
١١
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ
١٢
-يس

البحر المحيط

هذه السورة مكية، إلا أن فرقة زعمت أن قوله: { ونكتب ما قدموا }، و{ وآثارهم }، نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول، وليس زعماً صحيحاً. وقيل: إلا قوله: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } الآية.

وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة، قال ابن جبير هنا: إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم، ودليله { إنك لمن المرسلين }. قال السيد الحميري:

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة على المودة إلا آل ياسيناً

وقال ابن عباس: معناه يا إنسان بالحبشية، وعنه هو في لغة طيء، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان، ويجمعونه على أياسين، فهذا منه. وقالت فرقة: يا حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه. وقال الزمخشري: إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيء، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: م الله في أيمن الله. انتهى. والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف، فدل على أن أصله أنيسان، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين، فلا يجوز ذلك، لا أن يبنى على الضم، ولا يبقى موقوفاً، لأنه منادي مقبل عليه، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. وقوله: كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله، هذا قول. ومن النحويين من يقول: إن م حرف قسم وليس مبقى من أيمن. وقرىء: بفتح الياء وإمالتها محضاً، وبين اللفظين. وقرأ الجمهور: بسكون النون مدغمة في الواو؛ ومن السبعة: الكسائي، وأبو بكر، وورش، وابن عامر: مظهرة عند باقي السبعة. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى: بفتح النون. وقال قتادة: يس قسم. قال أبو حاتم: فقياس هذا القول فتح النون، كما تقول: الله لأفعلن كذا. وقال الزجاج: النصب، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه أنه اسم للسورة. وقرأ الكلبي: بضم النون، وقال هي بلغة طيء: يا إنسان. وقرأ السماك، وابن أبي إسحاق أيضاً: بكسرها؛ قيل: والحركة لالتقاء الساكنين، فالفتح كائن طلباً للتخفيف والضم كحيث، والكسر على أصل التقائهما. وإذا قيل أنه قسم، فيجوز أن يكون معرباً بالنصب على ما قال أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين. والحكيم: إما فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: عقدت العسل فهو عقيد: أي معقد، وإما للمبالغة من حاكم، وإما على معنى السبب، أي ذي حكمة. { على صراط }: خبر ثان، أو في موضع الحال منه عليه السلام، أو من المرسلين، أو متعلق بالمرسلين. والصراط المستقيم: شريعة الإسلام.

وقرأ طلحة، والأشهب، وعيسى: بخلاف عنهما؛ وابن عامر، وحمزة، والكسائي: تنزيل، بالنصب على المصدر؛ وباقي السبعة، وأبو بكر، وأبو جعفر، وشيبة، والحسن، والأعرج، والأعمش: بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو تنزيل؛ وأبو حيوة، واليزيدي، والقورصي عن أبي جعفر، وشيبة؛ بالخفض إما على البدل من القرآن، وإما على الوصف بالمصدر. { لتنذر }: متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة. { ما أنذر }، قال عكرمة: بمعنى الذي، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب، فما مفعول ثان، كقوله: { { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } [النبأ: 40]. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي { ما أنذر آباؤهم }، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل، وكانت النذارة فيهم. و{ فهم } على هذا التأويل بمعنى فإنهم، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة، فتتعلق بقوله: { إنك لمن المرسلين }. { لتنذر }، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل، أو فهو غافل. وقال قتادة: ما نافية، أي أن آباءهم لم ينذروا، فآباؤهم على هذا هم القربيون منهم، وما أنذر في موضع الصفة، أي غير منذر آباؤهم، وفهم غافلون متعلق بالنفي، أي لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه.

{ لقد حق على أكثرهم }: المشهور أن القول { { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [السجدة: 13]. وقيل: لقد سبق في علمه وجوب العذاب. وقيل: حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه؛ فأكثرهم لا يؤمنون بعذ ذلك. والظاهر أن قوله: { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية هو حقيقة لا استعارة. لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. قال ابن عطية: وقوله { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } يضعف هذا، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله. انتهى، ولا يضعف هذا. ألا ترى إلى قوله: { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } [الإِسراء: 97]، وقوله: { { قال رب لم حشرتني أعمى } [طه: 125] وإما أن يكون قوله: { { فبصرك اليوم حديد } [ق: 22]، كناية عن إدراكه ما يؤول إليه، حتى كأنه يبصره. وقال الجمهور: ذلك استعارة. قال ابن عباس، وابن إسحاق: استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء، جعل الله هذا لهم مثلاً في كفه إياهم عنه، ومنعهم من أذاه حين بيتوه. وقال الضحاك، والفراء: استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله، كما قال: { { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } الإِسراء: 29] وقال عكرمة: نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم، وفي غير ذلك من المواطن، فمنعه الله؛ وهذا قريب من قول ابن عباس، فروى أن أبا جهل حمل حجراً ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق، فما فكوه إلا بجهد، فأخذ آخر، فلما دنا من الرسول، طمس الله بصره فلم يره، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة. ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل، فنسب ذلك إلى الجمع. وقالت فرقة: استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه. قال ابن عطية: وهذا أرجح الأقوال، لأنه تعلى لما ذكر أنهم لا يؤمنون، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلوين. انتهى. وقال الزمخشري: مثل تصمميهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون، إنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان؟ وقول الزمخشري مثل تصمميهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله. والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل. والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها. قال ابن عطية: هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان، والذقن مجتمع اللحيين، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء، وذلك هو الإقماح، وهو نحو الأقناع في الهيئة. وقال الزمخشري: الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله، فلا يزال مقمحاً. انتهى. وقال الفراء: القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه. وقال الزجاج نحوه قال: يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو. وقال أبو عبيدة: قمح قموحاً: رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، والجمع قماح، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها:

ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث: هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود. وقال الزجاج: للكانونين شهرا قماح، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي:

فتى ما ابن الأعز إذا شتوناوحب الزاد في شهري قماح

رواه بضم القاف، وابن السكيت بكسرها، وهما لغتان. وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه. وقال الحسن: القامح: الطافح ببصره إلى موضع قدمه. وقال مجاهد: الرافع الرأس، الواضع يده على فيه. وقال الطبري: الضمير في فهي عائد على الأيدي، وإن لم يتقدم لها ذكر، لوضوح مكانها من المعنى، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق. وأرى علي، كرم الله وجهه، الناس الأقماح، فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه. وقال الزمخشري: جعل الأقماح نتيجة قوله: { فهي إلى الأذقان }. ولو كان الضمير للأيدي، لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهراً. على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. انتهى. وقرأ عبد الله، وعكرمة، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وحفص: { سداً } بفتح السين فيهما؛ والجمهور: بالضم، وتقدم شرح السد في الكهف. وقرأ الجمهور: { فأغشيناهم } بالغين منقوطة؛ وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وابن يعمر، وعكرمة، والنخعي، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء، وزيد ابن علي، ويزيد البربري، ويزيد بن المهلب، وأبو حنيفة، وابن مقسم: بالعين من العشاء، وهو ضعف البصر، جعلنا عليها غشاوة. { وسواء عليهم } الآية: تقدّم الكلام على نظيرها تفسيراً وإعراباً في أول البقرة.

{ إنما تنذر }: تقدم { لتنذر قوماً }، لكنه لما كان محتوماً عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال: { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم }، لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال: { إنما تنذر }: أي إنذاراً ينفع من اتبع الذكر، وهو القرآن. قال قتادة: أو الوعظ. { وخشي الرحمن }: أي المتصف بالرحمة، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب، أي بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر. ولما أحدث فيه النذارة، بشره بمغفرة لما سلف؛ { وأجر كريم } على ما أسلف من العمل الصالح، وهو الجنة.

ولما ذكر تعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمناً، ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة. والثالث هو توحيد، فقال: { إنا نحن نحيي الموتى }: أي بعد مماتهم. وأبعد الحسن والضحاك في قوله: إحياؤهم: إخراجهم من الشرك إلى الإيمان. { ونكتب ما قدموا }، كناية عن المجازاة: أي ونحصي، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء. وقرأ زر ومسروق: ويكتب ما قدموا وآثارهم بالياء مبنياً للمفعول، وما قدموا من الأعمال. وآثارهم: خطاهم إلى المساجد. وقال: السير الحسنة والسيئة. وقيل: ما قدّموا من السيئات وآثارهم من الأعمال. وقال الزمخشري: ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، وكتاب صنفوه، أو حبيس أحبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك، أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تحيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها، ونحوه قوله عز وجل: { ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر } [القيامة: 13]، من آثاره. انتهى. وقرأ الجمهور: { وكل شيء } بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء. والإمام المبين: اللوح المحفوظ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال.