التفاسير

< >
عرض

فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً
١٦٠
وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٦١
لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
١٦٢
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
١٦٣
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً
١٦٤
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٦٥
لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
١٦٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلاً بَعِيداً
١٦٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً
١٦٨
إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٦٩
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧٠
يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً
١٧٢
-النساء

البحر المحيط

الغلو: تجاوز الحد. ومنه غلا السعر وغلوة السهم. الاستنكاف: الأنفة والترفع، من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك، ومنعته من الجري قال:

فباتوا فلولا ما تدكر منهم من الحلق لم ينكف بعينك مدمع

وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال: هو من النكف، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف دفع ذلك السوء.

{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } المعنى: فبظلم عظيم، أو فيظلم أي ظلم. وحذف الصفة لفهم المعنى جائز كما قال: لقد وقعت على لحم أي لحم متبع، ويتعلق بحرمنا. وتقدم السبب على المسبب تنبيهاً على فحش الظلم وتقبيحاً له وتحذيراً منه. والطيبات هي ما ذكر في قوله: { وعلى الذين هادوا وحرمت عليهم } الألبان وبعض الطير والحوت، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه. وأوضح ذلك قراءة ابن عباس: طيبات كانت أحلت لهم.

{ وبصدهم عن سبيل الله كثيراً } أي ناساً كثيراً، فيكون كثيراً مفعولاً بالمصدر، وإليه ذهب الطبري. قال: صدوا بجحدهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم جمعاً عظيماً من الناس، أو صد كثيراً. وقدره بعضهم زماناً كثيراً.

{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم وسوء صنيعهم، إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه. قالوا: والربا محرم في جميع الشرائع.

{ وأكلهم أموال الناس بالباطل } أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب. وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات. قيل: كانوا كلما أحدثوا ذنباً حرم عليهم بعض الطيبات، وأهمل هنا تفصيل الطيبات، بل ذكرت نكرة مبهمة. وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ولم يفصل السبب. فقيل: ذلك جزيناهم ببغيهم، وأعيدت الباء في: { وبصدهم } لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، بل في العامل فيه. ولم يعد في: { وأخذهم } وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه. ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله: { { فبما نقضهم ميثاقهم } [النساء: 155] الآية. وبدىء في أنواع الظلم بما هو أهم، وهو أمر الدّين، وهو الصد عن سبيل الله، ثم بأمر الدنيا وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي وهو أكله بالباطل أي مجاناً لا عوض فيه. وفي ذكر هذه الآية امتنان على هذه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم.

{ وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً مهيناً } لما ذكر عقوبة الدنيا ذكر ما أعد لهم في الآخرة. ولما كان ذلك التحريم عامّاً لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهم كما قال تعالى: { { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [الأنفال: 25] بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرين منهم، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم.

{ لكن الراّاسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } مجيء لكنْ هنا في غاية الحسن، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما، وهم: الكافرون والعذاب الأليم، والمؤمنون والأجر العظيم، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم: كعبد الله بن سلام وأضرابه، والمؤمنون يعني منهم، أو المؤمنون عن المهاجرين والأنصار. والظاهر أنه عام في مَن آمن.

وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر يؤمنون لا غير، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة. ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف، وانتصب المقيمين على المدح، وارتفع والمؤتون أيضاً على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع. ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله، لأنّ النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فكثر الوصف بأن جعل في جمل.

وقرأ ابن جبير، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو: والمقيمون بالرفع نسقاً على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء. وروي أنها كذلك في مصحف أُبيّ. وقيل: بل هي فيه، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان. وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان: أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف، ولا يصح عنهما ذلك، لأنهما عربيان فصيحان، قطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك.

قال الزمخشري: ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان، وعنى عليه: أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم انتهى. ويعني بقوله: من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويهرحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوهاً: أحدها: أن يكون معطوفاً على بما أنزل إليك، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة. واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة، فقيل: الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية. وقيل: الملائكة ذكره ابن عطية. وقيل: المسلمون، والتقدير: وندب المقيمين، ذكر ابن عطية معناه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير في منهم أي: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم. الوجه الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في أولئك أي: ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. الوجه الرابع: أن يكون معطوفاً على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير: وما أنزل من قبلك وقيل: المقيمين الصلاة. الوجه الخامس: أن يكون معطوفاً على كاف قبلك ويعني الأنبياء، ذكره ابن عطية. وقال ابن عطية: فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق، وكان أنشده قبل وهو:

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

بحرف العطف الذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى. إنْ منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية. قال الشاعر:

ويأوي إلى نسوة عطل وشعث مراضيع مثل السعالى

وكذلك جوزوا في قوله تعالى: والمؤتون الزكاة، وجوهاً على غير الوجه الذي ذكرناه: من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح: أحدها: أنه معطوف على الراسخون. الثاني: على الضمير المستكن في المؤمنون. الثالث: على الضمير في يؤمنون. الرابع: أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه. وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون.

ولما ذكر أولاً والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي: الصلاة، والمالية وهي الزكاة، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموجد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاة والزكاة، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما. ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجراً عظيماً وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها، وأشار إليهم بأولئك، ليدل على مجموع تلك الأوصاف. ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ وخبره ما بعده، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة. والأجود إعراب أولئك مبتدأ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده: أنه سيؤتى أولئك سنؤتيهم، فيجعله من باب الاشتغال، فليس قوله براجح، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيداً ضربته، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو: سأضرب زيداً، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال. فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه. وقرأ حمزة: سيؤتيهم بالياء عوداً على قوله: والمؤمنون بالله. وقرأ باقي السبعة. على الالتفات ومناسبة وأعتدنا.

{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } قال ابن عباس: سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ولا أوحى إليه. وقال محمد بن كعب القرظي: لما نزلت: { { يسألك أهل الكتاب } [النساء: 153] الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى، وجحدوا جميع ذلك فنزلت: { { وما قدروا الله حق قدره } [الأنعام: 91] إذ قالوا الآية. وقال الزمخشري: إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى. وقدم نوحاً وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني، وأول الرسل، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض، كما أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم عامّة لجميع من في الأرض.

{ وأوحينا إلى ابراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان } خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم، وبدأ بابراهيم لأنه الأب الثالث، وقدم عيسى على من بعده تحقيقاً لنبوته، وقطعاً لما رآه اليهود فيه، ودفعاً لاعتقادهم، وتعظيماً له عندهم، وتنويهاً باتساع دائرته. وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى. وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال: أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم، وأمه من ولد لوط بن هارون. وأما يونس فهو يونس بن متى. وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه: يونس بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب. وقرأ النخعي وابن وثاب: بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون.

{ وآتينا داود زبوراً } أي كتاباً. وكل كتاب يسمى زبوراً، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود. وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال، إنما هي حكم ومواعظ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس. قيل: وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه، بدليل قوله: { { ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً } [الأنبياء: 79] والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محبباً إلى بني إسرائيل معظماً مؤثراً، وأما سليمان فكان معظماً عند الناس قاهراً لهم مستحقاً له ما ذكره الله تعالى في كتابه، فجمعهما التحبيب، والتعظيم. وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي.

وقرأ حمزة: زبوراً بضم الزاي. قال أبو البقاء: وفيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود. والثاني: أنه جمع زبور على حذف الزائد وهو الواو. وقال أبو علي: كما قالوا طريق وطروق، وكروان وكروان، وورشان وورشان، مما يجمع بحذف الزيادة. ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، والحرث وحريث، وثابت وثبيت، والجمع مثله في القياس وإنْ كان أقل منه في الاستعمال. قال أبو علي: ويحتمل أن يكون جمع زبراً وقع على المزبور كما قالوا: ضرب الأمير، ونسج اليمن. وكما سمي المكتوب كتاباً.

{ ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } أي ذكرنا أخبارهم لك.

{ ورسلاً لم نقصصهم عليك } روي من حديث أبي ذر: أنه سئل عن المرسلين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان المرسلون ثلثمائة وثلاثة عشر" قال القرطبي: هذا أصح ما روي في ذلك، خرجه الآجريّ وأبو حاتم البستي في مسند صحيح له. وفي حديث أبي ذر هذا: أنه سأله كم كان الأنبياء؟ فقال: "مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي" وروي عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. وقال ابن عطية: ما يذكر من عدد الأنبياء غير صحيح، والله أعلم بعدتهم انتهى.

وانتصاب ورسلاً على إضمار فعل أي: قد قصصنا رسلاً عليك، فهو من باب الاشتغال. والجملة من قوله: قد قصصناهم، مفسرة لذلك الفعل المحذوف، ويدل على هذا قراءة أبي ورسلُ بالرفع في الموضعين على الابتداء. وجاز الابتداء بالنكرة هنا، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا:

فثوب لبست وثوب أجر

.

وقال امرؤ القيس:

بشق وشق عندنا لم يحوّل

ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي: وآتينا داود زبوراً. وقال ابن عطية: الرفع على تقدير وهم: رسل، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة. وجوّزوا أيضاً نصب ورسلاً من وجهين: أحدهما: أن يكون نصباً على المعنى، لأن المعنى: إنا أرسلناك وأرسلنا رسلاً، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي. { وكلم الله موسى تكليماً } هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه، هذا هو الغالب. وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز، إلا أنه قليل. فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري:

بكى الخز من عوف وأنكر جلده وعجت عجيجاً من جذام المطارف

وقال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولاً، فلما قال: تكليماً لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى. ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام واختلف فيها علماء الإسلام، وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقرأ ابراهيم بن وثاب: وكلم الله بالنصب على أن موسى هو المكلم. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم، وأنّ معناه: وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن. وقال كعب: كلم الله موسى بالألسنة كلها، فجعل موسى يقول: رب لا أفهم، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة.

{ رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } أي يبشرون بالجنة من أطاع، وينذرون بالنار من عصى. وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي رسول لآمنت. وفي الحديث: "وليس أحد أحب إليه العذر من الله" فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منهيون عن الغفلة، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميماً لإلزام الحجة لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى. وقوله: لئلا هو كالتعليل لحالتي: التبشير والإنذار. والتبشير هو بالجنة، والإنذار هو بالنار. وليس الثواب والعقاب حاكماً بوجوبهما العقل، وإنما هو مجوّز لهما، وجاء السمع فصارا واجباً وقوعهما، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة. فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأنّ تلك معصية، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله، وأنه يترتب عليه العقاب. وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله على ما يجب، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله، فلا يرد سؤال الزمخشري. وانتصب رسلاً على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير. قال: والأوجه أن ينتصب على المدح. وجوّز غيره أن يكون مفعولاً بأرسلنا مقدرة، وأن يكون حالاً موطئة. ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال. وجوّز أن يتعلق بمقدر أي: أرسلناهم بذلك أي: بالبشارة والنذارة لئلا يكون

{ وكان الله عزيزاً حكيماً } أي لا يغالبه شيء، ولا حجة لأحد عليه، صادرة أفعاله عن حكمة، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل. وقيل: عزيزاً في عقاب الكفار، حكيماً في الأعذار بعد تقدم الإنذار.

{ لكنّ الله يشهد بما أنزل إليك } الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة، لأنّ لكن لا يبتدأ بها، فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو: أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا: ما نشهد لك بهذا، لكن الله يشهد، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات. وقرأ السلمي والجراح الحكمي: لكنّ الله بالتشديد، ونصب الجلالة. وقرأ الحسن بما أنزل إليك مبنياً للمفعول.

{ أنزله بعلمه } قرأ السلمي: نزّله مشدداً. قال الزجاج: أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقي: أنزله من علمه. وقال ابن جريج: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه. وقيل: أنزله إليك بعلمه أنك أهل لإنزاله عليك لقيامك بحقه، وعلمك بما فيه، وحسن دعائك إليه، وحثك عليه. وقيل: بما يحتاج إليه العباد. وقيل: بعلمه أنّك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان. قال ابن عطية: هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى، خلافاً للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم. والمعنى عند أهل السنة: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله. ومذهب المعتزلة في هذه الآية: أنه أنزله مقترناً بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر. وقال الزمخشري: أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة.

{ والملائكة يشهدون } أي بما أنزل الله إليك. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله، وقد علم بشهادة الله له، إذ أظهر على يديه المعجزات، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود، إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي، فلا تبال، فإن الله يشهد لك وملائكته، فلا تلتفت إلى تكذيبهم.

{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي وإن لم يشهد غيره { { قل أيّ شيء أكبر شهادة قل الله } }

[الأنعام: 19]. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً } أي ضلالاً لا يقرب رجوعهم عنه، ولا تخلصهم منه، لأنه يعتقد عن نفسه أنه محق ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه، فهو ضلال في أقصى غاياته. وقرأ عكرمة وابن هرمز: وصدوا بضم الصاد، قيل: وهي في اليهود.

{ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً } قيل: هذه في المشركين. وقد تقدّم الكلام على لام الجحود وما بعدها، وأن الإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها. وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر. وقال أبو سليمان الدمشقي: المعنى لم يكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقال الزمخشري: كفروا وظلموا، جمعوا بين الكفر والمعاصي، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة، ولا ليهديهم طريقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم، ولا ليهديهم يوم القيامة إلا طريقها انتهى. وهو على طريقة الاعتزال في أنّ صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها، وإن أريد بقوله طريقاً مخصوصاً أي عملاً صالحاً يدخلون به الجنة، كان قوله: إلا طريق جهنم استثناء منقطعاً.

{ وكان ذلك على الله يسيراً } أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلاً لا صارف له عنه، وهذا تحقير لأمرهم، وأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.

{ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم } هذا خطاب لجميع الناس. وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام، ولو كان خاصاً بتكليف ما لكان النداء خاصاً بالمؤمنين في الغالب. والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، والحق هو شرعه، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين. وفي انتصاب خيراً لكم هنا. وفي قوله: انتهوا خيراً لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه: مذهب الجليل، وسيبويه. وأتوا خيراً لكم، وهو فعل يجب إضماره. ومذهب الكسائي وأبي عبيدة: يكن خيراً لكم، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيماناً خيراً لكم وانتهاء خيراً لكم، بجعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله. والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو.

{ وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض } تقدم تفسير مثل هذا.

{ وكان الله عليماً حكيماً } عليماً بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه، حكيماً في تكليفكم مع علمه تعالى بما يكون منكم.

{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } قيل: نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل. وقال الجمهور: في عامة النصارى، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون: الأب، والابن، وروح القدس إلۤه واحد. وقيل: في اليهود والنصارى، نهاهم عن تجاوز الحد. والمعنى: في دينكم الذي أنتم مطلوبون به، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق. وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رشده. وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلۤهاً. والذي يظهر أنّ قوله: يا أهل الكتاب خطاب للنصارى، بدليل آخر الآية. ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا.

{ ولا تقولوا على الله إلا الحق } وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد.

{ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } قرأ جعفر بن محمد: إنما المسيح على وزن السكيت. وتقدم شرح الكلمة في { { بكلمة منه اسمه المسيح } [آل عمران: 45] ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها. وهذه الجملة قيل: حال. وقيل: صفة على تقدير نية الانفصال أي: وكلمة منه. ومعنى وروح منه أي: صادرة، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته. وقال أُبيّ بن كعب: عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله: { { ألست بربكم قالوا بلى } [الأعراف: 172] بعثه الله إلى مريم فدخل. وقال الطبري وأبو روق: وروح منه أي نفخة منه، إذا هي من جبريل بأمره. وأنشد بيت ذي الرمة:

فقلت له اضممها إليك وأحيها بروحك واجعله لها قيتة قدرا

يصف سقط النار وسمي روحاً لأنه حدث عن نفخة جبريل. وقيل: ومعنى وروح منه أي رحمة. ومنه { وأيدهم بروح منه }. وقيل: سمي روحاً لأحياء الناس به كما يحيون بالأرواح، ولهذا سمي القرآن روحاً. وقيل: المعنى بالروح هنا الوحي أي: ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها، أو إلى ذات عيسى أن كن، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح، أي: وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى. ومن هنا لابتداء الغاية، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى، فرد عليه علي بن الحسين بن وافد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله: وروح منه، فأجابه ابن وافد بقوله: { { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } [الجاثية: 13]. وقال: إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه، فانقطع النصراني وأسلم. وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر.

{ فآمنوا بالله ورسله } أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام.

{ ولا تقولوا ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف أي: الآلهة ثلاثة. قال لزمخشري: والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله: { { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [المائدة: 116]. وقالت النصارى: المسيح ابن الله، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم، ويدل عليه قوله: إنما المسيح عيسى ابن مريم، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم، وأنّ اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره، وابتداعه جسداً حياً من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله: { سبحانه أن يكون له ولد } وحكاية الله أوثق من حكاية غيره، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث: الله تعالى، وصاحبته، وابنه. وقال الزمخشري أيضاً إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات، وبأقنوم الابن العلم، وبأقنوم روح القدس الحياة، فتقديره الله ثلاثة انتهى. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة، أو الآلهة ثلاثة، أو الأقانيم ثلاثة. وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى. وقال الزجاج: تقديره إلۤهاً ثلاثة. وقال الفراء وأبو عبيد: تقديره ثلاثة كقوله: { { سيقولون ثلاثة } [الكهف: 22] وقال أبو علي: التقدير الله ثالث ثلاثة، حذف المبتدأ والمضاف انتهى. أراد أبو علي موافقة قوله: { { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [المائدة: 73] أي أحد آلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنما هو وحدانية الله تعالى، وتنزيهه أن يكون له ولد، فيكون التقدير: ولا تقولوا الله ثلاثة. ويترجح قول أبي علي بموافقته الآية التي ذكرناها، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث.{ انتهوا خيراً لكم } تقدم الكلام في انتصاب خيراً. وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمان يعني في قوله: { فآمنوا خيراً لكم } وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله: انتهوا خيراً لكم، علم أنه يحملهم على أمر فقال: خيراً لكم أي اقصدوا وأتوا خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث، وهو الإيمان والتوحيد انتهى. وهو تقدير سيبويه في الآية.

{ إنما الله إله واحد } قال ابن عطية: إنما في هذه الآية حاصرة، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه، وليست صيغة، إنما تقتضي الحصر، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة، وإن لم يكن حصر نحو: إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه. وقد تقدم كلامنا مشبعاً في إنما في قوله: { { إنما نحن مصلحون } [البقرة: 11] وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس.

{ سبحانه أن يكون له ولد } معناه تنزيهاً له وتعظيماً من أن يكون له ولد كما تزعم النصارى في أمره، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل. وقرأ الحسن: إن يكون له ولد بكسر الهمزة وضم النون من يكون، على أنّ أن نافية أي: ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث، والإخبار بانتفاء الولد، فالكلام جملتان، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة.

{ له ما في السموات وما في الأرض } إخبار لملكه بجميع من فيهن، فيستغرق ملكه عيسى وغيره. ومن كان ملكاً لا يكون جزءاً من المالك على أن الجزئية لا تصحّ إلا في الجسم، والله تعالى نزه عن الجسم والعرض.

{ وكفى بالله وكيلاً } أي كافياً في تدبير مخلوقاته وحفظها، فلا حاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين. وقيل: معناه كفيلاً لأوليائه. وقيل: المعنى يكل الخلق إليه أمورهم، فهو الغني عنهم، وهم الفقراء إليه.

{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } روي أنّ "وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا؟ قال: وما صاحبكم؟ قالوا: عيسى قال: وأي شيء أقول؟ قالوا: تقول أنه عبد الله ورسوله قال: إنه ليس بعار أن يكون عبداً قالوا: بلى" . فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به، أي: لن يأنف ويرتفع ويتعاظم.

وقرأ على عبيد الله على التصغير. والمقربون أي: الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري. وقال ابن عباس: هم حملة العرش. وقال الضحاك: من قرب منهم من السماء السابعة انتهى. وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة. وفي الكلام حذف التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً الله، فإن ضمن عبداً معنى ملكاً لله لم يحتج إلى هذا التقدير، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة. فإن قوله: ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإن لحظ في قوله: ولا الملائكة معنى: ولا كل واحد من الملائكة، كان من عطف المفردات. وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. قال ابن عطية: ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي: ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): من أين دل قوله تعالى: ولا الملائكة المقربون على أن المعنى ولا من فوقه؟ (قلت): من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:

وما مثله ممن يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره

لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: { { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } [البقرة: 120] حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه. والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك من باب الترقي. (فإذا قلت): لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر، وفلا دلالة فيه على أنّ عمراً أفضل من زيد. وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل، لأنه قابل مفرداً بجمع، ولم يقابل مفرداً بمفرد ولا جمعاً بجمع. فقد يقال: الجمع أفضل من المفرد، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع، ولا المفرد على المفرد. وإنْ سلمنا أنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثواباً ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ حسن يوسف: { { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهنّ وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } [يوسف: 31] وقال الشاعر:

فلست بإنسي ولكن لملأك تنزل من جوف السماء يصوب

وقال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ (قلت): إما أن يعطف على المسيح، أو على اسم يكون، أو على المستتر في عبداً لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، وقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى. والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصاً بالمسيح، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيداً، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمراً ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضاً مرجوحيـة الوجهين من جهة دخول لا، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون، أو على المستتر في عبداً. لم تدخل لا، بل كان يكون التركيب بدونها تقول: ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين، وتقول: ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.

{ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً } حمل أولاً على لفظ مَن فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر، ثم حمل على المعنى في قوله: فسيحشرهم، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير عامّاً عائداً على الخلق لدلالة المعنى عليه، لأن الحشر ليس مختصاً بالمستنكف، ولأنّ التفصيل بعده يدل عليه. ويكون ربط الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط بالعموم الذي فيها، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى مَن، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير: فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعاً كقوله: { { سرابيل تقيكم الحرّ } [النحل: 81] أي: والبرد. وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإمّا مطابقاً لما قبله، وعلى الوجه الأوّل لا يطابق. والإخبار بالحشر إليه وعيد إذ. المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر. وقرأ الحسن: بالنون بدل الياء في فسيحشرهم، وباء فيعذبهم على التخفيف.