التفاسير

< >
عرض

وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
١٥
وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
١٦
إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧
وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٨
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
١٩
وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٢٠
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٢٤
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٦
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
٢٧
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً
٢٨
-النساء

البحر المحيط

العشرة: الصحبة والمخالطة. يقال: عاشروا، وتعاشروا، واعتشروا. وكان ذلك من أعشار الجذور، لأنها مقاسمة ومخالطة. الإفضاء إلى الشيء: الوصول إلى فضاء منه، أي سعة غير محصورة. وفي مثل الناس فوضى فضى أي: مختلطون، يباشر بعضهم بعضاً. ويقال: فضاً يفضو فضاًء إذا اتسع، فألف أفضى منقلبة عن ياء أصلها واو. المقت: البغض المقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. العمة: أخت الأب. الخالة: أخت الأم، وألفها منقلبة عن واو، دليل ذلك قولهم: أخوال في جمع الخال، ورجل مخول كريم الأخوال. الربيبة: بنت زوج الرجل من غيره. الحَجر بفتح الحاء وكسرها: مقدّم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حال اللبس، ثم استعملت اللفظة في السير والحفظ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب، وجمعه حجور. الحليلة: الزوجة، والحليل الزوج قال:

أغشى فتاة الحي عند حليلها وإذا غزا في الجيش لا أغشاها

سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وغيره إلى أنها من لفظ الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. الصلب: الظهر، وصلب صلابة قوي واشتدّ. وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن له: أن الصلب وهو الظهر، على وزن قفل هو لغة أهل الحجاز ويقول فيه تميم وأسد: الصلب بفتح الصاد واللام. قال: وأنشدني بعضهم:

وصلب مثـل العنـان المـؤدم قال وأنشدني بعض بني أسد
إذا أقـوم أتشكي صلبـي

المحصنة: المرأة العفيفة. يقال: أحصنت فهي محصن، وحصنت فهي حصان عفت عن الرّيبة ومنعت نفسها منها. وقال شمر: يقال امرأة حصان، وحاصن. قال:

وحاصن من حاصنات ملس من الأذى ومن فراق الوقس

ومصدر حصنت حصن. قال سيبويه: وقال أبو عبيدة والكسائي: حصانة. ويقال في اسم الفاعل من أحصن وأسهب وأبعج، مفعل بفتح عين الكلمة، وهو شذوذ نقله ثعلب عن ابن الأعرابي. وأصل الإحصان المنع، ومنه قيل للدرع وللمدينة: حصينة والحصن وفرس حصان. المسافحة والسفاح: الزنا، وأصله من السفح وهو الصب، يسفح كل من الزانيين نطفته. الخدن والخدين: الصاحب. الطول: الفضل، يقال منه: طال عليه يطول طولاً فضل عليه. وقال الليث والزجاج: الطول القدرة. انتهى. ويقال له: عليه طول أي زيادة وفضل، وقد طاله طولاً فهو طائل. قال الشاعر:

لقد زادني حباً لنفسي أنني بغيض إلى كل امرىء غير طائل

ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة. قال: فقد ذهب المروءة والفتاء. وقال ابن منصور الجواليقي: المتفتية والفتاة المراهقة، والفتى الرفيق، ومنه: { { وإذ قال موسى لفتاه } [الكهف: 60] والفتى: العبد. ومنه: "لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي" . الميل: العدول عن طريق الاستواء. { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني: هذه الآية نزلت في النساء. والمراد بالفاحشة هنا: المساحقة، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن. قال: ونزلت{ واللذان يأتيانها منكم } في أهل اللواط. والتي في النور: في { الزانية والزاني } [النور: 2] وخالف جمهور المفسرين. وبناه أبو مسلم على أصل له: وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن، وقد كن لا يورثن في الجاهلية، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن، إذ هو نظر في أمر آخرتهن، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد. ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني، وأفردهن بالذكر أولاً، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال، ثم ذكرهن ثانياً مع الرجال الزانين في قوله: { واللذان يأتيانها منكم } فصار ذكر النساء الزواني مرّتين: مرة بالإفراد، ومرّة بالشمول.

واللاتي جمع من حيث المعنى للتي، ولها جموع كثيرة أغربها: اللاآت، وإعرابها إعراب الهندات.

ومعنى يأتين الفاحشة: يجئن ويغشين. والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة، ويأتي الكلام معه في ذلك، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. قيل: فإن قيل: القتل والكفر أكبر من الزنا، قيل: القوى المدبرة للبدن ثلاث: الناطقة وفسادها بالكفر والبدعة وشبههما، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحر وهي: أخس هذه القوى، ففسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة. وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هي السحاق قوله: { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } وفي الرجال: { واللذان } ومنكم وظاهره التخصيص، وبأن ذلك لا يكون فيه نسخ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار. ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا، يكون عليهن لا لهن، وعلى قولنا: يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح. وردوا على أبي مسلم بأن ما قاله لم يقله أحد من المفسرين، فكان باطلاً. وأجاب: بأنه قاله مجاهد، فلم يكن إجماعاً وتفسير السبيل بالحديث الثابت: { قد جعل الله لهن سبيلاً } "الثيب ترجم والبكر تجلد" فدل على أن ذلك في الزناة. وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز. وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله: واللذان يأتيانها منكم، فدل على أنها ليست فيهم. وأجاب بأن مطلوب الصحابة: هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفي ولا بالإثبات؟ فلهذا لم يرجعوا إليه. انتهى. ما احتج به أبو مسلم، وما ردّ به عليه، وما أجاب به. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره: أن اللاتي مختص بالنساء، وهو عام أحصنت أو لم تحصن. وإن واللذان مختص بالذكور، وهو عام في المحصن وغير المحصن. فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى. ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفت أصناف الزناة، ويؤيد هذا الظاهر قوله: من نسائكم وقوله: منكم، لا يقال: إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في الجاهلية، لأن ذلك كان موجوداً فيهم، لكنه كان قليلاً. ومن ذلك قول طرفة بن العبد:

ملك النهار وأنت الليل مومسة ماء الرجال على فخذيك كالقرس

وقال الراجز:

يا عجباً لساحقات الورس الجاعلات المكس فوق المكس

وقرأ عبد الله: واللاتي يأتين بالفاحشة، وقوله: من نسائكم اختلف، هل المراد الزوجات أو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب، أقوال. الأول: قاله قتادة والسدي وغيرهما. قال ابن عطية: قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولا يلحقها هذا الحكم انتهى. وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم } [البقرة: 226] { { والذين يظاهرون من نسائهم } [المجادلة: 3] وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم، هو قول أكثر المفسرين. وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظاً على المدعي، وستراً لهذه المعصية. وقيل: يترتب على كل واحد شاهدان. وقوله: عليهن، أي على إتيانهن الفاحشة. والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله: أربعة منكم، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا. وإن تعمد النظر إلى الفرج لا يقدح في العدالة إذا كان ذلك لأجل الزنا.

وإعراب اللاتي مبتدأ، وخبره فاستشهدوا. وجاز دخول الفاء في الخبر، وإن كان لا يجوز زيد فاضربه على الابتداء والخبر، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط. وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا، فيكون من باب الاشتغال، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط، فلا يصح أن يفسر هكذا. قال بعضهم: وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره: اقصدوا اللاتي. وقيل: خبر اللاتي محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين، كقول سيبويه في قوله: { والسارق والسارقة } [المائدة: 38] وفي قوله: { { الزانية والزاني } [النور: 2] وعلى ذلك جملة سيبويه. ويتعلق من نسائكم بمحذوف، لأنه في موضع الحال من الفاعل في: يأتين، تقديره: كائنات من نسائكم. ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله: فاستشهدوا، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة، أي: كائنين منكم.

{ فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } أي: فإن شهد أربعة منكم عليهن. والمخاطب بهذا الأمر: أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا، ولا تقربوهن عقوبة لهن وكانت من جنس جريمتهن؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن؟ أو أولوا الأمر من الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحدِّ لهن، وأنَّ حدهن كان ذلك حتى نسخ، وهو الصحيح، قاله: ابن عباس، والحسن. والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي، لأن ألم الحبس مستمر، وألم الضرب يذهب. قال ابن زيد: منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه. وقال قوم: ليس بحدٍ بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت، وعلى هذا لا يكون الإمساك حداً. وإذا كان يتوفى بمعنى يميت، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت. وقد صرح بهذا المضاف المحذوف، وهنا في قوله: { قل يتوفاكم ملك الموت } [السجدة: 11]. وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف، إذ يصير التقدير: حتى يأخذهن الموت. والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية. فقيل: هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة، دون الأزواج. وقيل: السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد، وهو "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب" رمي بالحجارة. وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية، ولا لأنه الجلد، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وهو مخصص لعموم آية الجلد. وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله: إن السنة لا تنسخ القرآن، بدعواه أنَّ آية الحبس منسوخة، بحديث عبادة، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن، خلاف قول الشافعي، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم.

{ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة، ويؤيده ظاهر التثنية. وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث. واللذان أريد به الزاني والزانية، وغلب المذكر على المؤنث، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها. وبين ذلك في الآية السابقة وهو: شهادة أربعة. والأمر بالأذى يدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما.

فقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد، وضرب النعال وما أشبهه. وقال قتادة والسدي: هو التعبير والتوبيخ. وقال قوم: بالفعل دون القول. وقالت فرقة: هو السب والجفا دون تعيير. وقيل: الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين: الجلد والرجم، وهو قول علي، وفعله في الهمدانية: جلدها ثم رجمها.

وظاهر قوله: واللذان يأتيانها العموم. وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم: هي في الرجل والمرأة البكرين، وأما الأولى ففي النساء المزوجات، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى. ورجح هذا القول الطبري. وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ، وإلا في قول من قال: إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده، إذ لا تعارض، بل يجمعان على شخص واحد. وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني، والثانية على إيذائها وإيذائه، فيكون الإيذاء مشتركاً بينهما، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء، هذا ظاهر اللفظ. وقيل: جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية، وعقوبة الرجل الإيذاء، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب. وأما على قول قتادة والسدي: من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء، فقد اختلف متعلق العقوبتين، فليس الإيذاء مشتركاً. وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة، ثم نزل{ فأمسكوهن في البيوت } يعني إن لم يتبن وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن، وهذا قول يوجب فساد الترتيب، فهو بعيد. وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد. وعلى قول قتادة والسدي: لا تكرار، وكذلك لا تكرار على قول: مجاهد وأبي مسلم.

وإعراب واللذان كإعراب واللاتي. وقرأ الجمهور: واللذان بتخفيف المنون. وقرأ ابن كثير: بالتشديد. وذكر المفسرون علة حذف الياء، وعلة تشديد النون، وموضوع ذلك علم النحو. وقرأ عبد الله: والذين يفعلونه منكم، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام، ومتدافعة مع ما بعدها. إذ هذا جمع، وضمير جمع وما بعدهما ضمير تثنية، لكنه يتكلف له تأويل: بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين، كما عاد الضمير مجموعاً على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله: { { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [الحجرات: 9] { { هذان خصمان اختصموا } [الحج: 19] والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير، وأن المراد بالتثنية العموم في الزناة. وقرىء واللذأن بالهمزة وتشديد النون، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان، ففر القارىء من التقائهما إلى إبدال الألف همزة تشبيهاً لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرىء: { { ولا الضالين } [الفاتحة: 7] { { ولا جآن } [الرحمن: 39] وقد تقدم لنا الكلام في ذلك مشبعاً في قوله: ولا الضالين في الفاتحة.

{ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } أي: إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما. والمعنى: أعرضوا عن أذاهما. وقيل: الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد. قال ابن عطية: وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأنّ تركهم إنما هو إعراض. ألا ترى إلى قوله تعالى: { { وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف: 199] وليس هذا الإعراض في الآيتين أمراً بهجرةٍ، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة. انتهى كلامه.

{ إن الله كان تواباً رحيماً } أي رجاعاً بعباده عن معصيته إلى طاعته، رحيماً لهم بترك أذاهم إذا تابوا.

{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً } تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر، أهو من حيث الوضع، أو الاستعمال؟ أم دلالة لها عليه؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها، فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: إنما التوبة على الله هو على حذف مضاف من المبتدأ والخبر، والتقدير: إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله، فتكون على باقية على بابها. وقال الزمخشري: يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء انتهى. وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة، والذي نعتقده أن الله لا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبول الإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعاً، وأما قبول التوبة فلا يجب على الله عقلاً وأما من جهة السمع فتظافرت ظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة، وأفادت القطع بذلك. وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره: إلى أن هذه الظواهر إنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول التوبة، والتوبة فرض بإجماع الأمة، وتصح وإن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذنب ومن ذنب، وإن أقام على ذنب غيره خلافاً للمعتزلة ومن نحا نحوهم ممن ينتمي إلى السنة، إذ ذهبوا إلى أنه لا يكون تائباً من أقام على ذنب. وقيل: على بمعنى عند. وقال الحسن: بمعنى من، والسوء يعم الكفر والمعاصي غيره سمي بذلك لأنه تسوء عاقبته.

وموضع بجهالة حال، أي: جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل، إذ ارتكاب السوء، لا يكون إلا عن غلبة الهوى للعقل، والعقل يدعو إلى الطاعة، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة، فكل عاص جاهل بهذا التفسير. ولا تكون الجهالة هنا التعمد، كما ذهب إليه الضحاك. وروي عن مجاهد لإجماع المسلمين: على أنَّ من تعمد الذنب وتاب، تاب الله عليه. وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية هي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً. وقال الكلبي: بجهالة أي لا يجهل كونها معصية، ولكن لا يعلم كنه العقوبة. وقال عكرمة: أمور الدّنيا كلها جهالة، يعني ما اختص بها وخرج عن طاعته الله. وقال الزجاج: جهالته من حيث آثر اللذة الفانية على اللذة الباقية، والحظ العاجل على الآجل. وقيل: الجهالة الإصرار على المعصية، ولذلك عقبه بقوله: ثم يتوبون من قريب. وقيل: معناه فعله غير مصرّ عليه، فأشبه الجاهل الذي لا يتعمد الشيء. وقال الترمذي: جهل الفعل الوقوع فيه من غير قصد، فيكون المراد منه العفو عن الخطأ، ويحتمل قصد الفعل والجهل بموقعه أي: أنه حرام، أو في الحرمة: أي: قدر هي فيرتكبه مع الجهالة بحاله، لا قصد الاستخفاف به والتهاون به. والعمل بالجهالة قد يكون عن غلبة شهوة، فيعمل لغرض اقتضاء الشهوة على طمع أنه سيتوب من بعد ويصير صالحاً، وقد يكون على طمع المغفرة والاتكال على رحمته وكرمه. وقد تكون الجهالة جهالة عقوبة عليه.

ومعنى من قريب: أي من زمان قريب. والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر، أو بالنسبة إلى زمان مفارقة الرّوح. فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر، وقد بين غاية منع قبول التوبة في الآية بعدها بحضور الموت. وقيل: قبل أن يحيط السوء بحسناته، أي قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته، فيبقى كأنه بلا حسنات. وقيل: قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط. وقال عكرمة والضحاك ومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق. وقال ابن عباس والسدي: قبل المرض والموت. فذكر ابن عباس أحسن أوقات التوبة، وذكر من قبله آخر وقتها. وقال ابن عباس أيضاً: قبل أن ينزل به سلطان الموت، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. قيل: وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آتِ، وكل ما هو آت قريب. وتنبيهاً على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة، ولأنّ الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به، وما هذه حاله فإنه يوصف بالقرب.

وارتفاع التوبة على الابتداء، والخبر هو على الله، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله، والتقدير: إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين. وقال أبو البقاء: في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالاً من الضمير في قوله: على الله، والعامل فيها الظرف، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف. وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر للذين، ويتعلق على الله بمحذوف، ويكون حالاً من محذوف أيضاً والتقدير: إنما التوبة إذا كانت، أو إذ كانت على الله. فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه. وكان تامة، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. قال: ولا يجوز أن يكون على الله حالاً يعمل فيها للذين، لأنه عامل معنوي، والحال لا يتقدم على المعنوي. ونظير هذه المسألة قولهم: هذا بسراً أطيب منه رطباً انتهى. وهو وجه متكلف في الإعراب، غير متضح في المعنى، وبجهالة في موضع الحال أي: مصحوبين بجهالة. ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل لهم على عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً. ومن في قوله: من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني: أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية: أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله: على الله. وقوله: يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله: فأولئك { { عسى الله أن يتوب عليهم } [التوبة: 102].

ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذف الموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، ليس مقيساً. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو: مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو: اسقني ماء ولو بارداً، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماً وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس.

{ فأولئك يتوب الله عليهم }، لما ذكر تعالى أنَّ قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم، ولذلك اختلف متعلقاً التوبة باختلاف المجرور. لأن الأول على الله، والثاني عليهم، ففسر كل بما يناسبه. ولما ضمَّن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى، كأنه قال: يعطف عليهم. وفي على الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله: إنما التوبة على الله لهم؟ (قلت): قوله: إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه، كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: فأولئك يتوب الله عليهم، عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة، كما بعد العبد الوفاء بالواجب. انتهى كلامه. وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم: إنَّ الله يجب عليه، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك. وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه: إن قوله: إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم. وكان الله عليماً حكيماً. أي عليماً بمن يطيع ويعصى، حكيماً أي: يضع الأشياء مواضعها، فيقبل توبة من أناب إليه.

{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة، ولا للذي وافى على الكفر. فالأول: كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق، وكالذين قال تعالى فيهم: { { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [غافر: 85] وحضور الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة، فكذلك هذا الذي حضره الموت. قال الزمخشري: سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة. فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أو أنَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف. وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون: إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء. وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردوداً، والمردود مقبولاً، { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } [الأَنبياء: 23] وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار.

وقال الربيع: نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها: { { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48] فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد: بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب: بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله: الذين يعملون السيئات، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول: هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما. وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله: (فإن قلت): من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة، أم الكفار؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الكفار لظاهر قوله: وهم كفار، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: وهم كفار وارداً على سبيل التغليظ كقوله: { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: 97] وقوله: "فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً"، من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، لأنّ من كان مصدقاً ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى لامه. وهو في غاية الاضطراب، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين: أحدهما: الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت، والثاني: الذين ماتوا على الكفر. وفي هذا الجواب حمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين. أما الكفار فقط وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون على الكفر، وعلل هذا الوجه بقوله: لظاهر قوله: وهم كفار، فجعل هذه الحالة دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار، وأما الفساق من المؤمنين فيكون قوله: وهم كفار لا يراد به الكفر حقيقة، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده: فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره الآية، أولاً وكل ذلك انتصار لمذهبه حتى يرتب العذاب: إما للكافر، وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو، والحمل على الظاهر. لأن قوله: وهم كفار، ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله: ولا الذين يموتون، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة. وكما أنه شرط في انتفاء قبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت، كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت، وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل: حبك الشيء يعمي ويصم. وجاء يعملون بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي إشعاراً بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضرهم الموت. وظاهر قوله: قال إني تبت الآن، وهو توبتهم عند معاينة الموت فلم تقبل تفسيره، فلا تقبل توبتهم لأنها توبة دفع. وقيل: قوله تبت الآن توبة شريطية فلم تقبل، لأنه لم يقطع بها. وقوله: وليست التوبة ظاهرة النفي لوجودها، والمعنى على نفي القبول أي: أن توبتهم وإن وجدت فليست بمقبولة. وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار، وقوع الموت حقيقة. فالمعنى: أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا، لأنهم ماتوا ملتبسين بالكفر. قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: يموتون، يقربون من الموت كما في قوله: { حضر أحدهم الموت } أي علاماته. فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت.

{ أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما، وإن كان عذاب أحدهما منقطعاً والآخر خالداً. ويكون ذلك وعيداً للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور. واسم الإشارة يجري مجرى الضمير، فيشار به إلى أقرب مذكور، كما يعود الضمير على أقرب مذكور، ويكون إعداد العذاب مرتباً على الموافاة على الكفر، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى. وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك.

وقال الزمخشري: أولئك أعتدنا لهم في الوعيد، نظير قوله: { أولئك يتوب الله عليهم } في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى. وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان، ثم ذكر هذا عقيبه، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين، كائن لا محالة، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور، قبل هذه الآية واقع لا محالة، فدل على أنّ العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار، وهذا هو مذهب المعتزلة. ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعاً به للفاسق. وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له، فلا يلزم وقوع ما دل عليه، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو. وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق. وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى: { { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48] وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها.

وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري: إلى أن قوله: { للذين يعملون السيئات } في حق المنافقين، واختاره المروزي. قال: فرق بالعطف، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون. كما فرق بينهم في قوله: { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } [الحديد: 15] لأن المنافق كان مخالفاً للكافر بظاهره في الدنيا. والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة، لأن المنافقين مندرجون في قوله: { ولا الذين يموتون وهم كفار } فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم. وقيل: إنما التوبة على الله في الصغائر، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر.

{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } قال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وأبو مجلز: كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، أو زوجوها غيرهم، أو منعوها. وكان ابنه من غيرها يتزوجها، وكان ذلك في الأنصار لازماً، وفي قريش مباحاً. وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه، إذا لم يكن ولدها. وقال السدي: إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها، فأذهب الله ذلك بهذه الآية.

والخطاب على هذا للأولياء نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال. والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية، فخرج هذا الكره مخرج الغالب، لأن غالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها. وقيل: هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة على مالها، فيتزوجها كرهاً لأجله. أو تحته عجوز ذات مال، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها، أو تموت فيرث مالها. والخطاب للأزواج، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن، لا هن. وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال من النساء، فيقدر باسم فاعل أي: كارهات، أو باسم مفعول أي: مكرهات. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وبفتح الكاف، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين، وهما لغتان: كالصمت والصمت قاله: الكسائي والأخفش وأبو علي. وقال الفراء: الفتح بمعنى الإكراه، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب، وقاله: أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً. وتقدّم الكلام عليه في قوله: { { وهو كره لكم } [البقرة: 216] في البقرة. وقرىء: لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا تحل لكم الوراثة، كقراءة من قرأ: { { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } [الأَنعام: 23] أي إلا مقالتهم، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهن الموروثات، وإما على حذف مضاف أي: أموال النساء.

{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } أي لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن. وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله: ببعض ما آتيتموهن، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق. وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله: ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. أو ينكح الشريفة فلا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فإذا خطبت وأرضته أذن لها، وإلا عضلها قاله: ابن زيد. أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثاً فنهوا عن ذلك. وقيل: هو خطاب للأولياء كما بين في قوله: { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله: { يا أيها الذين آمنوا } فلقوا في هذا الخطاب، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه، فخوطب الأولياء بقوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً، وخوطب الأزواج بقوله: ولا تعضلوهن، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه. وتقدّم تفسير العضل في البقرة في قوله: { { فلا تعضلوهن } [البقرة: 232] والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية، أي: لتذهبوا بعض ما آتيتموهن. ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن.

{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } هذا استثناء متصل، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم. وهو استثناء من ظرف زمان عام، أو من علة. كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين. أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين. والظاهر أن الخطاب بقوله: ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما تبين.

والفاحشة هنا الزنا قاله: أبو قلابة والحسن. قال الحسن: إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة، وردت إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال عطاء: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها. وقال قتادة: لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه، يعني: وإن زنت. وقال ابن عباس وعائشة والضحاك وغيرهم: الفاحشة هنا النشوز، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وهذا مذهب مالك وقال قوم: الفاحشة البذأ باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً وهذا في معنى النشوز. والمعنى: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن، فيجوز أخذ مالهن على سبيل الخلع. ويدل على هذا المعنى قراءة أبي: إلا أن يفحشن عليكم، وقراءة ابن مسعود: إلا أن يفحشن وعاشروهن، وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة. والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك على سبيل التفسير والإيضاح، لا على أن ذلك قرآن. ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركوناً لقوله: { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقال مالك: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه. وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ليذهب ببعض ما أعطاها لأكله، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر: مبينة هنا، وفي الأحزاب، والطلاق بفتح الياء، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها. وقرأ الباقون: بالكسر أي: بينة في نفسها ظاهرة. وهي اسم فاعل من بين، وهو فعل لازم بمعنى بان أي ظهر، وظاهر قوله: ولا تعضلوهن، أن لا نهى، فالفعل مجزوم بها، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية. فإن قلنا: شرط عطف الجمل المناسبة، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال: لا ترثوا النساء كرهاً فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن. وإن قلنا: لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه، فظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصباً عطفاً على ترثوا، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلاً على فعل. وقرأ ابن مسعود: ولا أن تعضلوهن، فهذه القراء تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحلّ بالنصّ. وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه، وهو لا يجوز. وذلك أنك إذا عطفت فعلاً منفياً بلا على مثبت وكانا منصوبين، فإنّ الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف، لا بعد لا. فإذا قلت: أريد أن أتوب ولا أدخل النار، فالتقدير: أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت، والثاني على سبيل النفي. فالمعنى: أريد التوبة وانتفاء دخولي النار. فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفياً، فكذلك ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت: لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية، وهو خلاف الظاهر. وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح. وإذا قدرت أنّ بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر، لا من باب عطف الفعل على الفعل، فالتبس على ابن عطية العطفان، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل، وفرق بين قولك: لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج، وقولك: لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج، ففي الأول: نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه، فقد أراد خروجه. وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه، ووجود خروجه، فلا يريد لا القيام ولا الخروج. وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية..

{ وعاشروهن بالمعروف } هذا أمر بحسن المعاشرة، والظاهر أنه أمر للأزواج، لأن التلبس بالمعاشرة غالباً إنما هو للأزواج، وكانوا يسيئون معاشرة النساء، وبالمعروف هو النصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول. ويقال: المرأة تسمن من أذنها.

{ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } أدب تعالى عباده بهذا. والمعنى: أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه، كما قال تعالى: { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } [البقرة: 216] ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة، وما أحبته يكون بضد ذلك. ولما كانت عسى فعلاً جامداً دخلت عليه فاء الجواب، وعسى هنا تامّة، فلا تحتاج إلى اسم وخبر. والضمير في فيه عائد على شيء أي: ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه. (وقيل): عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل. (وقيل): عائد على الصبر. وفسر ابن عباس والسدي: الخير بالولد الصالح، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر. وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئاً، حيث علّق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل، ولم يعلق الكراهة بضميرهن، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن. وسياق الآية يدل على أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن، وإن كره الإنسان منهن شيئاً من أخلاقهن. ولذلك جاء بعده: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج. (وقيل): معنى الآية: ويجعل الله في فراقكم لهنّ خيراً كثيراً لكم ولهن، كقوله: { { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } [النساء: 130] قاله الأصم: وهذا القول بعيد من سياق الآية، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها. وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر، ويقال: ما تعاشر إثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر. وفي صحيح مسلم: "لا يغرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" . وأنشدوا في هذا المعنى:

ومن لا يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرةيجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } لمّا أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة، وأقام الإرادة مقام الفعل. فكأنه قال: وإن استبدلتم. أو حذف معطوف أي: واستبدلتم. وظاهر قوله: وآتيتم أن الواو للحال، أي: وقد آتيتم. وقيل: هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر. والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء والمعنى: أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً. واستدل بقوله: وآتيتم إحداهن قنطاراً على جواز المغالاة في الصدقات، وقد استدلت بذلك المرأة التي خاطبت عمر حين خطب وقال: "ألا تغالوا في مهور نسائكم". وقال قوم: لا تدل على المغالاة، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه: قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة" ومعلوم أن مسجداً لا يكون كمفحص قطاة، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر. وقد "قال صلى الله عليه وسلم لمن أمهز مأتين وجاء يستعين في مهره وغضب صلى الله عليه وسلم: كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة" وقال محمد بن عمر الرازي: لا دلالة فيها على المغالاة لأن قوله: وآتيتم لا يدل على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين" انتهى. ولما كان قوله: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، خطاباً لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجاً مكان أزواج، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين، إذ لا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة، ولا إرادة معنى الجماع عاد الضمير في قوله: إحداهن جمعاً والتي نهى أن نأخذ منها هي المستبدل مكانها، إلا المستبدلة. إذ تلك هي التي أعطاها المال، لا التي أراد استحداثها بدليل قوله:{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وقال: وآتيتم إحداهن قنطاراً ليدل على أن قوله: وآتيتم المراد منه، وأتى كل واحد منكم إحداهن، أي إحدى الأزواج قنطاراً، ولم يقل: وآتيتموهن قنطاراً، لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين أتوا الأزواج قنطاراً. والمراد: آتى كل واحد زوجته قنطاراً. فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في: آتيتم، المراد منه كل واحد واحد، كما دل لفظ: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج، فأريد بالمفرد هنا الجمع لدلالة: وإن أردتم. وأريد بقوله: وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن، وهي مفردة على ذلك. وهذا من لطيف البلاغة، ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح. وتقدّم الكلام في قنطار في أول آل عمران والضمير في منه عائد على قنطار. وقرأ ابن محيصن: بوصل ألف إحداهن، كما قرىء: أنها لإحدى الكبر بوصل الألف، حذفت على جهة التحقيق كما قال:

وتسمع من تحت العجاج لها ازملا

وقال:

إن لـم أقـاتـل فـألبسوني برقعــا

وظاهر قوله: فلا تأخذوا منه شيئاً تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدل مكانها بإرادته. قالوا: وهذا مقيد بقوله: { { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه } [النساء: 4] قالوا: وانعقد عليه الإجماع. ويجري هذا المجرى المختلعة لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدت به. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تأخذ من المختلعة شيئاً لقوله: فلا تأخذوا منه شيئاً وآية البقرة منسوخة بهذا، وتقدّم الكلام في ذلك في سورة البقرة. وظاهر قوله: وآتيتم إحداهن قنطاراً، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها، سواء كان مهراً أو غيره.

أفضى بعضكم إلى بعض لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهراً فقط، بل المعنى: أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئاً مما آتاها، سواء كان مهراً أو غيره. وقال أبو بكر الرازي: لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموماً في جميع ما تضمنه الاسم، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأوّل انتهى كلامه. وهو منه تسليم أن المراد بقوله: وكيف تأخذونه، أي المهر. وبينا أنه لا يلزم ذلك. قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أن من أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز، أن يريد أن يتزوج أخرى بعد موتها مستبدلاً بها مكان الأولى. وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة انتهى. وليس بظاهرٍ لأنّ الاستبدال يقتضي وجود البدل والمبدل منه، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك، لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلاً منه، فإذا كان معدوماً فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال، وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم، في حالة الاستبدال وغيرها. ومفهوم الشرط غير مراد، وإنما خص بالذكر لأنها حالة قد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها، له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية، وهي أولى به من المفارقة. فبيّن الله أنه لا يأخذ منها شيئاً. وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أحد شيء مما آتاها، مع سقوط حقه عن بضعها، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها، وكونه أبلغ في الانتفاع بها منها بنفسه. وقرأ أبو السمال وأبو جعفر: شيا بفتح الياء وتنوينها، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء.

{ أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً } أصل البهتان: الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على جهة المكابرة فيبهت المكذوب عليه. أي: يتحير ثم سمى كل باطل يتحير من بطلانه بهتاناً. وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، أي: أتفعلون هذا مع ظهور قبحه؟ وسمي بهتاناً لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتفتدي منه مهرها، فجاءت الآية على الأمر الغالب. وقيل: سمي بهتاناً لأنه كان فرض لها المهر، واسترداده يدل على أنه يقول: لم أفرضه، وهذا بهتان. وانتصب بهتاناً وإثماً على أنهما مصدران في موضع الحال من الفاعل، التقدير: باهتين وآثمين. أو من المفعول التقدير: مبهتاً محيراً لشنعته وقبح الأحدوثة، أو مفعولين من أجلهما أي: أتأخذونه لبهتانكم وإثمكم؟ قال ذلك الزمخشري قال: وإن لم يكن غرضاً كقولك: قعد عن القتال جبناً.

{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وهذا استفهام إنكار أيضاً، أنكر أولاً الأخذ، ونبه على امتناع الأخذ بكونه بهتاناً وإثماً. وأنكر ثانياً حاله الأخذ، وأنها ليست مما يمكن أن يجامع حال الإفضاء، لأن الإفضاء وهو المباشرة والدنوّ الذي ما بعده دنو، يقتضي أن لا يؤخذ معه شيء مما أعطاه الزوج، ثم عطف على الإفضاء أخذ النساء الميثاق الغليظ من الأزواج. والإفضاء: الجماع قاله، ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقال عمر، وعلي، وناس من الصحابة، والكلبي، والفراء: هي الخلوة والميثاق، هو قوله تعالى: { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [البقرة: 229] قاله: ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن سيرين، والسدي، وقتادة. قال قتادة: وكان يقال للناكح في صدر الإسلام: عليكم لتمسكنَّ بمعروف، أو لتسرحنَّ بإحسان. وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق كلمة الله التي استحللتم بها فروجهن، وهي قول الرجل: نكحت وملكت النكاح ونحوه. وقال عكرمة: هو قوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وقال قوم: الميثاق الولد، إذ به تتأكد أسباب الحرمة وتقوى دواعي الألفة. وقيل: ما شرط في العقد من أنّ على كل واحد منهما تقوى الله، وحسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف، وما جرى مجرى ذلك. وقال الزمخشري: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقاً غليظاً، أي بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى كلامه.

{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } تقدم ذكر شيء من سبب نزول هذه الآية في قوله:{ لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } وقد ذكروا قصصاً مضمونها: أنّ من العرب مَن كان يتزوج امرأة أبيه، وسموا جماعة تزوجوا زوجات آبائهم بعد موت آبائهم، فأنزل الله تحريم ذلك. وتقدّم الخلاف في النكاح: أهو حقيقة في الوطء، أم في العقد، أم مشترك؟ قالوا: ولم يأت النكاح بمعنى العقد إلا في { فانكحوهن بإذن أهلهن } وهذا الحصر منقوض بقوله: { { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [الأحزاب: 49] واختلف في ما من قوله: ما نكح. فالمتبادر إلى الذهن أنها مفعوله، وأنها واقعة على النوع كهي في قوله تعالى: { { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [النساء: 3] أي: ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم. وقد تقرر في علم العربية أنّ ما تقع على أنواع من يعقل، وهذا على مذهب من يمنع وقوعها على آحاد من يعقل. أمّا مَن يجيز ذلك فإنه يتضح حمل ما في الآية عليه، وقد زعم أنه مذهب سيبويه. وعلى هذا المفهوم من إطلاق ما على منكوحات الآباء تلقت الصحابة الآية واستدلوا بها على تحريم نكاح الأبناء حلائل الآباء. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية في ذلك. وقال ابن عباس: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل، فهي عليك حرام.

وقال قوم: ما مصدرية. والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي: مثل نكاح آبائكم الفاسد، أو الحرام الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره، كما تقول: ضربت ضرب الأمير أي: مثل ضرب الأمير. ويبين كونه حراماً أو فاسداً قوله: { إنه كان فاحشة } واختار هذا القول محمد بن جرير قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم، لوجب أن يكون موضع ما من. وحمل ابن عباس وعكرمة وقتادة وعطاء النكاح هنا على الوطء، لأنهم كانوا يرثون نكاح نسائهم. وقال ابن زيد في جماعة: المراد به العقد الصحيح، لا ما كان منهم بالزنا انتهى.

والاستثناء في قوله: إلا ما قد سلف منقطع، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي، والمعنى: أنه لما حرم عليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم، دلّ على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهم قبل النهي ما حكمه. فقيل: إلا ما قد سلف أي: لكن ما قد سلف، فلم يكن يتعلق به النهي فلا إثم فيه. ولما حمل ابن زيد النكاح على العقد الصحيح، حمل قوله: إلا ما قد سلف، على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزنا، فقال: إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، إنه كان فاحشة ومقتاً وكأنه قيل: ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم، فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم، ويكون على هذا استثناء منقطعاً. وقيل عن ابن زيد: إن معنى الآية النهي أن يطأ الرجل امرأة وطئها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة، فإنه يجوز للابن تزوجها، فعلى هذا يكون إلا ما قد سلف استثناء متصلاً، إذ ما قد سلف مندرج تحت قوله: ما نكح، إذ المراد: ما وطىء آباؤكم. وما وطىء يشمل الموطوءة بزنا وغيره، والتقدير: ما وطىء آباؤكم إلا التي تقدم هو أي: وطؤها بزنا من آبائكم فانكحوهن. ومن جعل ما في قوله: ما نكح مصدرية كما قررناه، قال: المعنى إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذ كان مما تقرر الإسلام عليه. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف استثنى ما قد سلف من ما نكح آباؤكم؟ (قلت): كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم. يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد في نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. انتهى كلامه. وقال الأخفش المعنى: فإنكم تعذبون به إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم.

وقيل: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف، وهذا جهل بعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنه يحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد أو ملك، لأنه ليس إلا نكاح أو سفاح، والسفاح هو الزنا، والنكاح هو المباح، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله:

{ إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } أي أن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي: بالغة في القبح. ومقت: أي يمقت الله فاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي. أو تمقته العرب أي: مبغض محتقر عندهم، وكان ناس من ذوي المروءات في الجاهلية يمقتونه. قال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد الذي يجىء من زوج الوالد المقتي، نسبة إلى المقت. ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعل الضمير في أنه عائد عليه أي: انَّ ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة، وكان يستعمل كثيراً بمعنى لم يزل، فالمعنى: أنَّ ذلك لم يزل فاحشة، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل، فالفحش وصف لازم له.

وقال المبرد: هي زائدة. ورد عليه بوجود الخبر، إذ الزائدة لا خبر لها. وينبغي أن يتأول كلامه على أنَّ كان لا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار.

وساء سبيلاً هذه مبالغة في الذم، كما يبالغ ببئس. فان كان فيها ضمير يعود على ما عاد عليه ضمير إنّه، فانها لا تجري عليها أحكام بئس. وإنْ كان الضمير فيها مبهماً كما يزعم أهل البصرة فتفسيره سبيلاً، ويكون المخصوص بالذم اذ ذاك محذوفاً التقدير: وبئس سبيلاً سبيل هذا النكاح، كما جاء بئس الشراب أي: ذلك الماء الذي كالمهل. وبالغ في ذم هذه السبيل، إذ هي سبيل موصلة إلى عذاب الله. وقال البراء بن عازب: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ان أضرب عنقه.

{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } لما تقدم تحريم نكاح امرأة الأب على ابنه وليست أمه، كان تحريم أمه أولى بالتحريم. وليس هذا من المجمل، بل هذا مما حذف منه المضاف الدلالة المعنى عليه. لأنه إذا قيل: حرم عليك الخمر، إنما يفهم منه شربها. وحرمت عليك الميتة أي: أكلها. وهذا من هذا القبيل، فالمعنى: نكاح أمهاتكم. ولأنه قد تقدم ما يدل عليه وهو قوله: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء }.

وقال محمد بن عمر الرازي: فيها عندي بحث من وجوه: أحدها: أنَّ بناء الفعل للمفعول لا تصريح فيه بأن المحرّم هو الله. وثانيها: أنّ حرمت لا يدل على التأبيد، إذ يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت. وثالثها: أنّ عليكم خطاب مشافهة، فيختصّ بالحاضرين. ورابعها: أنّ حرمت ماض، فلا يتناول الحال والمستقبل. وخامسها: أنه يقتضي أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم. وسادسها: أنَّ حرمت يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان حراماً لما قيل: حرمت. وثبت بهذه الوجوه أنّ ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب انتهى ملخصاً.

وهذه البحوث التي ذكرها لا تختص بهذا الموضع ولا طائل فيها، إذ من البواعث على حذف الفاعل العلم به، ومعلوم أنّ المحرّم هو الله تعالى. ألا ترى إلى آخر الآية وهو قوله: { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً } وقال بعد: { وأحل لكم ما وراء ذلكم } على قراءة من بناه للفاعل. ومتى جاء التحريم من الله فلا يفهم منه إلا التأبيد، فإن كان له حالة إباحة نصّ عليها كقوله: { فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ } [البقرة: 173] وأما أنه صيغة ماض فيخصه فالأفعال التي جاءت يستفاد منها الأحكام الشرعية، وإن كانت بصيغة الماضي فإنها لا تخصه، فإنها نظير أقسمت لأضربن زيداً لا يراد بها أنه صدر منه إقسام في زمان ماض. فإن كان الحكم ثابتاً قبل ورود الفعل ففائدته تقرير ذلك الحكم الثابت، وإن لم كن ثابتاً ففائدته إنشاء ذلك الحكم وتجديده. وأمّا أن الظاهر أنه يحرم على كلّ أحد جميع أمهاتهم فليس بظاهر، ولا مفهوم من اللفظ. لأنّ عليكم أمهاتكم عام يقابله عام، ومدلول العموم أن تقابل كل واحد بكلّ واحد واحد. أما أن يأخذ ذلك على طريق الجمعية فلا، لأنها ليست دلالة العام. فإنما المفهوم: حرم على كل واحد واحد منكم كلّ واحدة، واحدة من أم نفسه. والمعنى: حرم على هذا أمه. وعلى هذا أمّه والأمّ المحرّمة شرعاً هي كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك، أو من جهة أمك. ولفظ الأم حقيقة في التي ولدتك نفسه. ودلالة لفظ الأم على الجدّة إن كان بالتواطىء أو بالاشتراك، وجاز حمله على المشتركين، كان حقيقة، وتناولها النص. وإن كان بالمجاز وجاز حمله على الحقيقة والمجاز، فكذلك وإلا فيستفاد تحريم الجدّات من الإجماع أو من نصّ آخر.

وحرمة الأمهات والبنات كانت من زمان آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، وذكروا أنّ سبب هذا التحريم: أنّ الوطء إذلال وامتهان، فصينت الأمهات عنه، إذ إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الأنعام.

والبنت المحرّمة كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور، وبنت البنت هل تسمى بنتاً حقيقة، أو مجازاً الكلام فيها كالكلام في الجدة، وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس، ذكر ذلك: النضر بن شميل في كتاب المثالب.

{ وأخواتكم } الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن.

{ وعماتكم وخالاتكم } العمة: أخت الأب، والخالة: أخت الأم. وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن. وتحرم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها، وعمة العمة. وأم خالة العمة فإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم، فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة. وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط، فخالتها أجنبية من بني أخيها تحلّ للرجال، ويجمع بينها وبين النساء. وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة، لأنها أخت جد. وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها.

{ وبنات الأخ وبنات الأخت } تحرم بناتهما وإن سفلن. وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعاً، لأنه أضيف إليه الجمع، فكان لفظ الإفراد أخف، وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحدة وغيره. فهؤلاء سبع من النسب تحريمهن مؤبد. وأما اللواتي صرن محرمات بسبب طارىء فذكرهن في القرآن سبعاً وهن في قوله تعالى:

{ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وسمى المرضعات أمهات لأجل الحرمة، كما سمى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين. ولما سمى المرضعة أماً والمرضعة مع الراضع أختاً، نبّه بذلك على إجراء الرضاع مجرى النسب. وذلك لأنه حرم بسبب النسب سبع: اثنتان هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما: الأم والبنت. وخمس بطريق الأخوة وهن: الأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت. ولما ذكر الرضاع ذكر من كل قسم من هذين القسمين صورة تنبيهاً على الباقي، فذكر من قسم قرابة الأولاد الأمهات، ومن قسم قرابة الإخوة والأخوات، ونبه بهذين المثالين على أنّ الحال في باب الرضاع كالحال في باب النسب. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أكد هذا بصريح قوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فصار صريح الحديث مطابقاً لما أشارت إليه الآية. فزوج المرضعة أبوه، وأبواه جداه، وأخته عمته. وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته. وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخوانه لأبيه وأمه. وأما ولدها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه.

وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب، ويجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع. لأن المعنى في النسب وطؤه أمها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع. لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع، وظاهر الكلام إطلاق الرضاع. ولم تتعرض الآية إلى سن الراضع، ولا عدد الرضعات. ولا للبن الفحل، ولا لإرضاع الرجل لبن نفسه للصبي، أو إيجاره به، أو تسعيطه بحيث يصل إلى الجوف. وفي هذا كله خلاف مذكور في كتب الفقه. وقرأ الجمهور: اللاتي أرضعنكم. وقرأ عبد الله: اللاي بالياء. وقرأ ابن هرمز: التي. وقرأ أبو حيوة: من الرضاعة بكسر الراء.

{ وأمهات نسائكم } الجمهور على أنها على العموم. فسواء عقد عليها ولم يدخل، أم دخل بها. وروي عن علي ومجاهد وغيرهما: أنه إذا طلقها قبل الدخول، فله أن يتزوج أمها. وأنها في ذلك بمنزلة الربيبة.

{ وربائبكم اللاتي في حجوركم } ظاهره أنه يشترط في تحريمها أن تكون في حجره، وإلى هذا ذهب علي، وبه أخذ داود وأهل الظاهر. فلو لم تكن في حجره وفارق أمها بعد الدخول جاز له أن يتزوجها. قالوا: حرم الله الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر الزوج. الثاني: الدخول بالأم. فإذا فقد أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" فشرط الحجر. وقال الطحاوي وغيره: إضافتهن إلى الحجور حملاً على أغلب ما يكون الربائب، وهي محرمة وإن لم تكن في الحجر. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله: في حجوركم؟ (قلت) فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن، أو لكونهن بصدد احتضانكم. وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكن حكم الزواج بدخولكم جرت أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم انتهى. وفيه بعض اختصار.

{ من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ظاهر هذا أنه متعلق بقوله: وربائبكم فقط. واللاتي: صفة لنسائكم المجرور بمن، ولا جائز أن يكون اللاتي وصفاً لنسائكم من قوله: وأمهات نسائكم، ونسائكم المجرور بمن، لأن العامل في المنعوتين قد اختلف: هذا مجرور بمن، وذاك مجرور بالإضافة. ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقاً بمحذوف ينتظم أمهات نسائكم وربائبكم، لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك، لأنه بالنسبة إلى قوله: وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء، وتمييز المدخول بها من غير المدخول بهن. وبالنسبة إلى قوله: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، يكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول: هذا ابني من فلانة. قال الزمخشري: إلا أنّ أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل من للاتصال كقوله تعالى: { { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [التوبة: 67]، فإني لست منك ولست مني، ما أنا من دد ولا الدد مني. وأمهات النساء متصلات بالنساء، لأنهن أمهاتهن. كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن، لأنهن بناتهن انتهى. ولا نعلم أحداً ذهب إلى أنَّ من معاني من الاتصال. وأما ما شبه به من الآية والشعر والحديث، فمتأول: وإذا جعلنا من نسائكم متعلقاً بالنساء، والربائب كما زعم الزمخشري. فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب. فأما تركيبه مع لربائب ففي غاية الفصاحة والحسن، وهو نظم الآية. وأما تركيبه مع قوله: وأمهات نسائكم، فإنه يصير: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام فصيح، لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله: من نسائكم. والدخول هنا كناية عن الجماع لقولهم: بني عليها، وضرب عليها الحجاب.

والباء: للتعدية، والمعنى: اللاتي أدخلتموهن الستر قاله: ابن عباس، وطاوس، وابن دينار. فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع، جاز أن يتزوج ابنتها. وقال عطاء، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث: إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر إليها بشهوة، فقال ابن أبي ليلى: لا يحرم النظر حتى تلمس، وهو قول الشافعي. وقال مالك: يحرم النظر إلى شعرها، أو شيء من محاسنها بلذة. وقال الكوفيون: يحرم النظر إلى فرجها بشهوة. وقال الثوري: يحرم إذا كان تعمد النظر إلى فرجها، ولم يذكر الشهوة. وقال عطاء، وحماد بن أبي سليمان: إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمها ولا ابنتها، وعدوا هذا الحكم إلى الإماء. وقال الحسن: إذا ملك الأمة وغمزها بشهوة، أو كشفها، أو قبلها، لا تحل لولده بحال. وأمر مسروق أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما أني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر. وجرد عمر أمة خلا بها فاستوهبها ابن له فقال: لا تحل لك.

{ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } أي: في نكاح الربائب. وليس جواز نكاح الربائب موقوفاً على انتفاء مطلق الدخول، بل لا بد من محذوف مقدر تقديره: فإن لم تكونوا دخلتم بهن، وفارقتموهن بطلاق منكم إياهن، أو موت منهن.

{ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } أجمعوا على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء كان مع العقد وطء، أو لم يكن. والحليلة: اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين، ولذلك جاء في أزواج أدعيائهم. ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون الوطء، اقتضى تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء. وجاء الذين من أصلابكم وهو وصف لقوله: أبنائكم، برفع المجاز الذي يحتمله لفظ أبنائكم إذ كانوا يطلقون على من اتخذته العرب ابناً من غيرهم، وتبنته ابناً، كما كانوا يقولون: زيد بن محمد، إلى أن نزل: { { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } [الأحزاب: 40] الآية وكما قالت امرأة أبي حذيفة في سالم: إنا كنا نراه ابناً. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمته، أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة، وأجمعوا على أن حليلة الابن من الرضاع في التحريم كحليلة الابن من الصلب، استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وظاهر قوله: وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه، واتفقوا على أنَّ مطلق عقد الشراء للجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه، فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه، لا يختلف في تحريم ذلك. واختلفوا في مجرد النظر بشهوة.

{ وأن تجمعوا بين الأختين } أن تجمعوا في موضع رفع لعطفه على مرفوع، والمعنى: وإن تجمعوا بين الأختين في النكاح، لأن سياق الآية إنما هو في النكاح، وإن كان الجمع بين الأختين أعم من أن يكون في زوجين، أو بملك اليمين. فأما إذا كان على سبيل التزويج، فأجمعت الأمة على تحريم العقد على ذلك سواء وقع العقدان معاً، أم مرتباً. واختلفوا في تزويج المرأة في عدة أختها: فروي عن زيد، وابن عباس، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد في آخرين من التابعين: أن ذلك لا يجوز فبعضهم أطلق العدة، وبعضهم قال: إذا كانت من الثلاث وهو قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والحسن بن صالح. وروي عن عروة، والقاسم، وخلاس: أنه يجوز له ذلك إذا كانت من طلاق بائن، وهو قول: مالك والأوزاعي والليث والشافعي. واختلف عن سعيد والحسن وعطاء. والجواز ظاهر الآية، إذا لم يكن الطلاق رجعياً. وأما الجمع بينهما بملك اليمين فلا خلاف في شرائهما ودخولهما في ملكه، وأما الجمع بينهما في الوطء: فذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، والزبير، وابن عمر، وعمار وزيد: إلى أنه لا يجوز ذلك. وهل ذلك على سبيل الكراهة أو التحريم؟ فذكر ابن المنذر عن جمهور أهل العلم: الكراهة. وذكر عن إسحاق: التحريم وكان المستنصر بالله أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص ملك أفريقية قد سأل أحد شيوخنا الذين لقيناهم بتونس، وهو الشيخ العابد المنقطع أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الإشبيلي: ألا ترى عن الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؟ فأجابه بالمنع، وكان غيره قد أفتاه بالجواز. واستدل شيخنا على منع ذلك بظاهر قوله: وأن تجمعوا بين الأختين. وروي عن عثمان، وابن عباس: إباحة ذلك. وإذا اندرج أيضاً الجمع بينهما بأن يجمع بينهما في الوطء بتزوج وملك يمين، فيكون قد تزوج واحدة، وملك أختها. وقد أكثر المفسرون من الفروع هنا، وموضع ذلك كتب الفقه.

{ إلا ما قد سلف } إستثناء منقطع يتعلق بالأخير، وهو: أن تجمعوا بين الأختين. والمعنى: لكن ما سلف من ذلك، ووقع. وأزالت شريعة الإسلام حكمه، فإن الله يغفره والإسلام يجبه ويدل على عدم المؤاخذة به قوله.

{ إن الله كان غفوراً رحيماً } وقد يكون معنى قوله: إلا ما قد سلف، فلا ينفسخ به العقد على أختين، بل يخير بين من شاء منهما، فيطلق الواحدة، ويمسك الأخرى كما جاء في حديث "فيروز الديلمي: أنه أسلم وتحته أختان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلق إحداهما وأمسك الأخرى" وظاهر حديث فيروز: التخيير من غير نظر إلى وقت العقد، وهو مذهب مالك، ومحمد، والليث، وذهب: أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثوري إلى أنه يختار من سبق نكاحها، فإن كانا في عقد واحد فرق بينه وبينهما. وقال عطاء، والسدي: هذا الاستثناء يدل على أن ما تقدّم قبل ورود النهي كان مباحاً، هذا يعقوب عليه السلام جمع بين أم يوسف وأختها. ويضعف هذا لبعد صحة إسناد قصة يعقوب في ذلك، وكون هذا التحريم متعلقاً بشرعنا نحن، لا يظهر منه ذكر عفو عنه فيما فعل غيرنا.

{ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } الإحصان: التزوج، أو الحرية، أو الإسلام، أو العفة. وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن، ويفسر كل مكان بما يناسبه منها. وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدوّاً وأصابوا سبياً لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت. فالمحصنات هنا المزوجات. والمستثنى هو السبايا، فإذا وقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له، وإلى هذا ذهب: أبو سعيد، وابن عباس، وأبو قلابة، ومكحول، والزهري، وابن زيد، وهذا كما قال الفرزدق:

وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبنى بها لم تطلق

وقيل: المحصنات المزوجات، والمستثنى هن الإماء، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء، أو هبة، أو صدقة، أو إرث. فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج، وبيعها، وهبتها، والصدقة بها وارثها طلاق لها. وإلى هذا ذهب عبد الله، وأبي جابر، وابن عباس أيضاً، وسعيد، والحسن. وذهب عمرو بن عباس أيضاً، وأبو العالية، وعبيدة، وطاووس، وابن جبير، وعطاء: إلى أن المحصنات هن العفائف، وأريد به كل النساء حرام، والشرائع كلها تقتضي ذلك. والمستثنى معناه: إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أو بملك، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين. وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا. وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر؟ فعلى هذا يكون قوله: إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلاً، وإن كان أريد به الإماء كان منقطعاً. قيل: والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانية الأربعة، وإن اختلفت جهات الإحصان، ويحمل قوله: إلا ما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة. وعرف العلماء من أن المراد به الإماء، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان. وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكة مزوجة.

ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله: والمحصنات من النساء، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي: بكسر الصاد، سواء كان معرفاً بالألف واللام، أم نكرة. وقرأ باقيهم وعلقمة: بالفتح، كهذا المتفق عليه. وقرأ يزيد بن قطيب: والمحصنات بضم الصاد اتباعاً لضمة الميم، كما قالوا: منتن، ولم يعتدّوا بالحاجز لأنه ساكن، فهو حاجز غير حصين. وقال مكي: فائدة قوله: من النساء، أنّ المحصنات تقع على الأنفس فقوله: { { والذين يرمون المحصنات } [النور: 4] لو أريد به النساء خاصة، لما حدّ مَن قذف رجلاً بنص القرآن، وأجمعوا على أن حده بهذا النص.

{ كتاب الله عليكم } انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت عليكم. وكأنه قيل: كتب الله عليكم تحريم ذلك كتاباً. ومن جعل ذلك متعلقاً بقوله: { { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } [النساء: 3] كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلاً بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده: عليكم كتاب الله أي: الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدراً مؤكداً كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميفع اليماني: كتب الله عليكم، جعله فعلاً ماضياً رافعاً ما بعده، أي: كتب الله عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميفع أيضاً أنه قرأ: كتب الله عليكم جمعاً ورفعاً أي: هذه كتب الله عليكم أي: فرائضه ولازماته.

{ وأحل لكم وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر، وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، والجمع بينهما. وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جفعر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير، وملخص ما قال: أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد. وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" بل إذا ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على القرآن، فإن وافقه قبل، وإلا ردّ. وما ذهبوا إليه ليس بصحيح، لأن الحديث لم يعارض القرآن، غاية ما فيه تخصيص عموم، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض، روي عن جماعة من الصحابة رواه: عليّ، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وعائشة. حتى ذكر بعض العلماء أنه متوتر موجب للعلم والعمل. وذكر ابن عطية: إجماع الأمة على تحريم الجمع، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه، ولا يعدّ هذا التخصيص نسخاً للعموم خلافاً لبعضهم. وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم، فهي حلال لكم تزويجهن، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي، وخصة قتادة بالإماء: أي: وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. وأبعد عبيدة والسدي في ردّ ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى: وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. وقال السدي أيضاً في قوله: ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج. والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبينها وبين بنت عمتها، وبينها وبين بنت خالها، أو بنت خالتها. وقد روي المنع من ذلك عن: إسحاق بن طلحة، وعكرمة، وقتادة، وعطاء. وقد نكح حسن بن حسين بن عليّ في ليلة واحدة بنت محمد بن عليّ، وبنت عمر بن عليّ، فجمع بين ابنتي عمّ. وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده.

قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة، ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى. واندرج تحت هذا العموم أيضاً أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها. ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك، وعلى هذا أكثر أهل العلم. وروي عن عمران بن حصين والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان، وأحمد، وإسحاق، أنهما يحرمان عليه، وبه قال: أبو حنيفة. ويندرج أيضاً تحت هذا العموم: أنه لو عبث رجل برجل لم تحرم عليه أمّه ولا ابنته، وبه قال: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا: لا يحرم النكاح العبث بالرجال. وقال الثوري، وعبيد الله بن الحسن: هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال. وقال الأوزاعي في غلامين: يعبث أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال: لا يتزوجها الفاعل.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص: وأحل مبنياً للمفعول، وهو معطوف على قوله: { حرمت عليكم }. وقرأ باقي السبعة: وأحل مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى، وهو أيضاً معطوف على قوله: حرمت. ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنياً للفاعل، أو للمفعول. ولا يشترط المناسبة ولا يختار، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل، فكيف إذا اتحد كهذا، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في حرمت: هو الله تعالى، وهو الفاعل المضمر في: أحلّ المبني للفاعل.

وقال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف قوله: وأحل لكم؟ (قلت): على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله: أي كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب الله عليكم، وأحل لكم. ثم قال: ومن قرأ { وأحل لكم } على البناء للمفعول، فقد عطفه على: حرّمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار. لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت، فالعامل فيه وهو كتب، إنما هو تأكيد لقوله: حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم، إنما التأسيس حاصل بقوله: حرمت، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها، لا سيما والجملتان متقابلتان: إذ إحداهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ: وأحل مبنياً للمفعول، فكذلك يجوز فيه مبنياً للفاعل، ومفعول أحلّ هو: ما وراء ذلكم.

قال ابن عطية: والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات، فهو وراء أولئك بهذا الوجه. وقال الفراء: ما وراء ذلكم أي: ما سوى ذلكم. وقال الزجاج: ما دون ذلكم، أي: ما بعد هذه الأشياء التي حرمت. وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض.

وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل: الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح. وقال الزمخشري: أن تبتغوا مفعول له، بمعنى: بين لكم ما يحل مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه. وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دساً خفياً إذ فسر قوله: وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل. وجعل قوله: أن تبتغوا على حذف مضافين: أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم، أي: إرادة كون ابتغائكم بأموالكم. وفسر الأموال بعد بالمهور، وما يخرج في المناكح، فتضمن تفسيره: أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح. وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري. إذ الظاهر أنه تعالى أحلّ لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان، لا حالة السفاح. وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب: أن تبتغوا مفعولاً له، كما ذهب إليه الزمخشري، لأنه فات شرط من شروط المفعول له، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له. لأن الفاعل بقوله: وأحل، هو الله تعالى. والفاعل في: أن تبتغوا، هو ضمير المخاطبين، فقد اختلفا. ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله: وأحلّ، وفي المفعول له، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا محذوف اختصاراً، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله: ما وراء ذلكم، وتقديره: أن تبتغوه.

وقال الزمخشري: (فإن قلت): أين مفعول تبتغوا؟ (قلت): يجوز أن يكون مقدراً وهو: النساء، وأجود أن لا يقدر. وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه. فأما تقديره: إذا كان مقدراً بالنساء فإنه لما جعله مفعولاً له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول. وأما قوله: وأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم، فهو مخالف للظاهر، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح، كما هو في تخرجوا، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.

وظاهر قوله: بأموالكم، أنه يطلق على ما يسمى مالاً وإن قلَّ وهو قول: أبي سعيد، والحسن، وابن المسيب، وعطاء، والليث، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، والشافعي، وربيعة قالوا: يجوز النكاح على قليل المال وكثيره. وقيل: لا مهر أقل من عشرة دراهم، وروي عن عليّ، والشعبي، والنخعي، في آخرين من التابعين. وهو قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، والحسن، ومحمد بن زياد. وقال مالك: أقلّ المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال أبو بكر الرازي: من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال، وظاهر قوله: بأموالكم يدلّ على أنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة، لا تعليم قرآن ولا غيره، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومة جماعة من العلماء، ولهم في ذلك تفصيل. وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن الشافعي، ومنع من ذلك: مالك والليث، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن.

والاحصان: الفقه، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام. وانتصب محصنين على الحال، وغير مسافحين حال مؤكدة، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله: { { ولا متخذي أخدان } [المائدة: 5] والمسافحون هم الزانون المبتذلون، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا. ومتخذو الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبون واحدة واحدة، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحداً واحداً، ويزنين خفية. وهذان نوعان كانا في زمن الجاهلية قاله: ابن عباس، والشعبي، والضحاك، وغيرهم. وأصل المسافح من السفح، وهو الصب للمني. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحيني وماذيني من المذي.

{ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن زيد، وغيرهم: المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء، ولو مرة، فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر، ولفظة ما تدل على أن يسيرالوطء يوجب إيتاء الأجر. وقال الزمخشري: فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة، أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه انتهى. وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة، إذ هو مذهبه. وقد فسر ابن عباس وغيره الاستمتاع هنا بالوطء، لأن إيتاء الأجر كاملاً لا يترتب إلا عليه، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك.

وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد، والسدي، وغيرهم: الآية في نكاح المتعة. وقرأ أبي، وابن عباس، وابن جبير: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله. وروي عن عليّ أنه قال: لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي. وروي عن ابن عباس: جواز نكاح المتعة مطلقاً. وقيل عنه: بجوازها عند الضرورة، والأصح عنه الرجوع إلى تحريمها. واتفق على تحريمها فقهاء الأمصار. وقال عمران بن حصين: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة، ومات بعدما أمرنا بها، ولم ينهنا عنه قال رجل بعده برأيه ما شاء. وعلى هذا جماعة من أهل البيت والتابعين. وقد ثبت تحريمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عليّ وغيره. وقد اختلفوا في ناسخ نكاح المتعة، وفي كيفيته، وفي شروطه، وفيما يترتب عليه من لحاق ولد أو حدّ بما هو مذكور في كتب الفقه، وكتب أحكام القرآن.

وما من قوله: فما استمتعتم به منهن، مبتدأ. ويجوز أن تكون شرطية، والخبر الفعل الذي يليها، والجواب: فآتوهن، ولا بد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط. فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره: فأتوهن أجورهن من أجله أي: من أجل ما استمتعتم به. وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج، فالراجع هو المفعول بآتوهن وهو الضمير، ويكون أعاد أولاً في به على لفظ ما، وأعاد على المعنى في: فآتوهن، ومن في: منهن على هذا يحتمل أن يكون تبعيضاً. وقيل: يحتمل أن يكون للبيان. ويجوز أن تكون ما موصولة، وخبرها إذ ذاك هو: فآتوهن، والعائد الضمير المنصوب في: فآتوهن إن كانت واقعة على النساء، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على ما بين قبل.

والأجور: هي المهور. وهذا نص على أنّ المهر يسمى أجراً، إذ هو مقابل لما يستمتع به. وقد اختلف في المعقود عليه بالنكاح ما هو؟ أهو بدن المرأة، أو منفعة العضو، أو الكل؟ وقال القرطبي: الظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل هذا. وإن كان الاستمتاع هنا المتعة، فالأجر هنا لا يراد به المهر بل العوض كقوله: { { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } [القصص: 25] وقوله: { { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } [الكهف: 77] وظاهر الآية: أنه يجب المسمى في النكاح الفاسد لصدق قوله: فما استمتعتم به منهن عليه جمهور العلماء، على أنه لا يجب فيه إلا مهر المثل، ولا يجب المسمى. والحجة لهم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها مهر مثلها" وانتصب فريضة على الحال من أجورهن، أو مصدر على غير الصدر. أي: فآتوهن أجورهن إيتاء، لأن الإيتاء مفروض. أو مصدر مؤكد أي: فرض ذلك فريضة.

{ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } لما أمروا بإيتاء أجور النساء المستمتع بهن، كان ذلك يقتضي الوجوب، فأخبره تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه، أو رده، أو تأخره. أعني: الرجال والنساء من بعد الفريضة. فلها إن ترده عليه، وإن تنقص، وإن تؤخر، هذا ما يدل عليه سياق الكلام. وهو نظير { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [النساء: 4] وإلى هذا ذهب الحسن وابن زيد. وقال السدي: هو في المتعة. والمعنى: فيما تراضيتم به من بعد الفريضة زيادة في الأجل، وزيادة في المهر قبل استبراء الرحم. وقال ابن عباس: في رد ما أعطيتموهن إليكم. وقال ابن المعتمر: فيما تراضيتم به من النقصان في الصداق إذا أعسرتم. وقيل: معناه إبراء المرأة عن المهر، أو توفيته، الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول. وقيل: فيما تراضيتم به من بعد فرقة، أو إقامة بعد أداء الفريضة، وروي عن ابن عباس وقد استدل على الزيادة في المهر بقوله: { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة }، قيل: لأن ما عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والحظ والإبراء، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه، لأن المرأة والحظ والتأجيل لا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما. وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: إلى أن الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها. وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة. وقال مالك: تصح الزيادة، فإن طلقها قبل الدخول رجع ما زادها إليه، وإن مات عنها قبل أن يقبض فلا شيء لها. وقال الشافعي وزفر: الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إن أقبضها جازت، وإلا بطلت.

{ إن الله كان عليماً حكيماً } بما يصلح أمر عباده.

{ حكيماً } في تقديره وتدبيره وتشريعه.

{ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن مّا ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } الطول: السعة في المال قاله: ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والسدي، وابن زيد، ومالك في المدونة. وقال ابن مسعود، وجابر، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وربيعة: الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لا يستطيع أن يتزوج غيرها فله أن يتزوجها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. والمحصنات هنا الحرائر، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء. وقالت فرقة: معناه العفائف، وهو ضعيف.

واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة. وظاهر الآية يدل على أنّ من لم يستطع ما يتزوج به الحرة المؤمنة وخاف العنت، فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة، ويكون هذا تخصيصاً لعموم قوله: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } [النور: 32] فيكون تخصيصاً في الناكح بشرط أن لا يجد طول الحرة ويخاف العنت، وتخصيصاً في إمائكم بقوله: من فتيانكم المؤمنات، وتخصيص جواز نكاح الإماء بالمؤمنات لغير واجد طول الحرة، هو مذهب أهل الحجاز. فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية، وبه قال: الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي. وذهب العراقيون أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والثوري ومن التابعين الحسن ومجاهد إلى جواز ذلك. ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب. واستدلوا على أنّ الإيمان ليس بشرط بكونه وصف به الحرائر في قوله: أن ينكح المحصنات المؤمنات، وليس بشرط فيهن اتفاقاً، لكنه أفضل.

وقال ابن عباس: وسع الله على هذه الأمة بنكاح الأمة، واليهودية، والنصرانية. وقد اختلف السلف في ذلك اختلافاً كثيراً: روي عن ابن عباس، وجابر، وابن جبير، والشعبي، ومكحول: لا يتزوج الأمة إلا من لا يجد طولاً للحرة، وهذا هو ظاهر القرآن. وروي عن مسروق، والشعبي: أن نكاحها بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير، يعني: أنه يباح عند الضرورة. وروي عن علي، وأبي جعفر، ومجاهد، وابن المسيب، وابراهيم، والحسن، والزهري: أن له نكاحها، وإن كان موسراً. وروي عن عطاء، وجابر بن زيد: أنه يتزوجها إن خشي أن يزني بها، ولو كان تحته حرة. قال عطاء: يتزوج الأمة على الحرة. وقال ابن مسعود: لا يتزوجها عليها إلا المملوك. وقال عمر، وعلي، وابن المسيب، ومكحول في آخرين: لا يتزوجها عليها. وهذا الذي يقتضيه النظر، لأن القرآن دل على أنه لا ينكح الأمة إلا مَن لا يجد طولاً للحرة. فإذا كانت تحته حرة، فبالأولى أن لا يجوز له نكاح الأمة، لأن وجدان الطول للحرة إنما هو سبب لتحصيلها، فإذا كانت حاصلة كان أولى بالمنع. وقال ابراهيم: يتزوج الأمة على الحرة إن كان له من الأمة ولد. وقال ابن المسيب: لا ينكحها عليها إلا أن تشاء الحرة، ويقسم للحرة يومين، وللأمة يوماً وظاهر قوله: فمن ما ملكت أيمانكم، جواز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة أربعاً من الإماء إن شاء. وروي عن ابن عباس: أنه لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة، وإذا لم يكن شرطاً في الأمة الإيمان فظاهر قوله: فمن ما ملكت أيمانكم من فتيانكم، أنه لو كانت الكتابية مولاها كافر لم يجز نكاحها، لأنه خاطب بقوله: فمن ما ملكت أيمانكم من فتيانكم المؤمنات، فاختص بفتيات المؤمنين، وروي عن أبي يوسف: جواز ذلك على كراهة. وإذا لم يكن الإيمان شرطاً في نكاح الأمة، فالظاهر جواز نكاح الأمة الكافرة مطلقاً، سواء كانت كتابية، أو مجوسية، أو وثنية، أم غير ذلك من أنواع الكفار.

وأجمعوا على تحريم نكاح الأمة الكافرة غير الكتابية: كالمجوسية، والوثنية، وغيرهما. وأما وطء المجوسية بملك اليمين فأجازه: طاوس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار. ودلت على هذا القول ظواهر القرآن في عموم: ما ملكت أيمانكم، وعموم { { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [المؤمنون: 6] قالوا: وهذا قول شاذ مهجور، لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا: لا يحل له أن يطأها حتى تسلم. وقالوا: إنما كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة لما فيه من اتباع الولد لأمه في الرق، ولثبوت حق سيدها فيها، وفي استخدامها، ولتبذلها بالولوج والخروج، وفي ذلك نقصان نكاحها ومهانته إذ رضي بهذا كله، والعزة من صفات المؤمنين.

ومن مبتدأ، وظاهره أنه شرط. والفاء في: فمن ما ملكت فاء الجواب، ومن تتعلق بمحذوف تقديره: فلينكح من ما ملكت. ويجوز أن يكون مَن موصولة، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله: من ما ملكت جملة في موضع الخبر. ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا. والظاهر أنَّ مفعول يستطع هو طولاً، وأن ينكح على هذا أجازوا، فيه أن يكون أصله بحرف جر، فمنهم من قدره بإلى، ومنهم من قدره باللام أي: طولاً إلى أن ينكح، أو لأن ينكح، ثم حذف حرف الجر، فإذا قدر إلى، كان المعنى: ومَن لم يستطع منكم وصلة إلى أن ينكح. وإذا قدر باللام، كان في موضع الصفة التقدير: طولاً أي: مهراً كائناً لنكاح المحصنات. وقيل: اللام المقدرة لام المفعول له أي: طولاً لأجل نكاح المحصنات، وأجازوا أن يكون: أن ينكح في موضع نصب على المفعول به، وناصبة طول. إذ جعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته، قالوا: ومنه قول الفرزدق:

إن الفرزدق صخرة عادية طالت فليس تنالها الأوعالا

أي طالت الأوعال أي: ويكون التقدير ومَن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات. ويكون قد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله:

بضرب بالسيوف رؤوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل

وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون. وإلى أنَّ طولاً مفعول لـيستطيع، وإن ينكح في موضع مفعول بقوله: طولاً، إذ هو مصدر. ذهب أبو علي في التذكرة، وأجازوا أيضاً أن يكون أن ينكح بدلاً من طول، قالوا: بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة. وأجازوا أن يكون مفعول يستطع قوله: أن ينكح. وفي نصب قوله: طولاً وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولاً من أجله على حذف مضاف، أي: ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات. والثاني: قاله: ابن عطية. قال: ويصح أن يكون طولاً نصب على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة، لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة، أو بالمصدر انتهى كلامه. وكأنه يعني أنَّ الطول هو استطاعة، فيكون التقدير: ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح.

وما من قوله: فمن ما ملكت، موصولة اسمية أي: فلينكح من النوع الذي ملكته أيمانكم. ومن فتياتكم: في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت، العائد على ما. ومفعول الفعل المحذوف الذي هو فلينكح محذوف، التقدير: فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم. ومِن للتبعيض، نحو: أكلت من الرغيف. وقيل: مِن في من ما زائدة، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله: ما ملكت أيمانكم. وقيل: مفعوله فتياتكم على زيادة من. وقيل: مفعوله المؤمنات، والتقدير: فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات. والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم. وقيل: ما مصدرية التقدير، من ملك إيمانكم. وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله: ملكت.

ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عن قول الطبري: أنّ فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله: { بعضكم من بعض } وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: وَمَنْ لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم من بعض الفتيات، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه، لأنه قول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه. ومنكم: خطاب للناكحين، وفي: أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه، وهذا التوسع في اللغة كثير.

{ والله أعلم بإيمانكم } لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة، نبّه على أنّ الإيمان هو وصف باطن، وأنّ المطلع عليه هو الله. فالمعنى: أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين، لأن ذلك إنما هو لله تعالى، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره. فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح، وربما كانت خرساء، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان، فيكتفي بذلك منها.

والخطاب في بإيمانكم للمؤمنين ذكورهم وإناثهم، حرهم ورقهم، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب، ولم يفردن بذلك فلم يأت ـ والله أعلم ـ بإيمانهن، لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب. والمقصود: عموم الخطاب، إذ كلهم محكوم عليه بذلك. وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعل الخير، وامرأة تفوق رجلاً في ذلك، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان، لا فضل الأحساب والأنساب { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13]، "لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى" .

{ بعضكم من بعض } هذه جملة من مبتدأ وخبر، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع بعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف، ومعنى هذه الجملة الابتدائية: التأنيس أيضاً بنكاح الإماء، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعون إلى أصل واحد، وقد اشتركوا في الإيمان، فليس بضائر نكاح الإماء. وفيه توطئة العرب، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولد الأمة، وكانوا يسمونه الهجين، فلما جاء الشرع أزال ذلك. وما أحسن ما روي عن عليّ من قوله:

الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء

{ فانكحوهن بإذن أهلهن } هذا أمر إباحة، والمعنى: بولاية ملاكهن. والمراد بالنكاح هنا: العقد، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر. وسمي ملاك الإماء أهلاً لهن، لأنهم كالأهل، إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد" . وقال صلى الله عليه وسلم: "موالي القوم منهم

" . وقيل: هو على حذف مضاف بإذن أهل ولايتهن، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك. ومقتضى هذا الخطاب أنّ الأدب شرط في صحة النكاح، فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح، ولو أجازه السيد بخلاف العبد. فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهب الحسن وعطاء، وابن المسيب، وشريح، والشعبي، ومالك، وأبي حنيفة: أنّ تزوجه موقوف على إذن السيد، فإن أجازه جاز، وإن ردَّه بطل. وقال الأوزاعي، والشافعي، وداود: لا يجوز، أجازه المولى أو لم يجزه.

وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده، وكان ابن عمر يعده زانياً ويحدّه، وهو قول: أبي ثور.

وقال عطاء: لا حد عليه، وليس بزنا، ولكنه أخطأ السنة. وهو قول أكثر السلف. وظاهر قوله: بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكوراً وإناثاً، فيشترط إذن المرأة في تزويج أمتها، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد، كما يجوز للذكر. وقال الشافعي: لا يجوز، بل توكل غيرها في التزويج. وقال الزمخشري: بإذن أهلهن، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن، ويحتج به لقول أبي حنيفة: إنَّ لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.

{ وآتوهن أجورهن بالمعروف } الأجور هنا المهور. وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها، وأنها أحق بمهرها من سيدها، وهذا مذهب مالك، قال: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وجمهور العلماء: على أنه يجب دفعه للسيد دونها. قيل: الإماء وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤه إليهن أداء إلى الموالي. وقيل: على حذف مضاف أي: وآتوا مواليهن. وقيل: حذف بإذن أهلهن بعد قوله: { وآتوهن أجورهن } لدلالة قوله: { فانكحوهن بإذن أهلهن } عليه وصار نظيراً { الحافظين فروجهم والحافظات } [الأحزاب: 35] أي فروجهن، { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [الأحزاب: 35] أي الله كثيراً.

وقال بعضهم: أجورهن نفقاتهن. وكون الأجور يراد بها المهور هو الوجه، لأن النفقة تتعلق بالتمكين لا بالعقد. وظاهر قوله: بالمعروف، أنه متعلق بقوله: وآتوهن أجورهن. قيل: ومعناه بغير مطل وضرار، وإخراج إلى اقتضاء ولز. وقيل: معناه بالشرع والسنة أي: المعروف من مهور أمثالهن اللاتي ساوينهن في المال والحسب. وقيل: بالمعروف، متعلق بقوله: فانكحوهن، أي: فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن، ومهر مثلهن، والإشهاد على ذلك. فإن ذلك هو المعروف في غالب الأنكحة.

{ محصنات } أي عفائف، ويحتمل مسلمات.

{ غير مسافحات } أي غير معلنات بالزنا.

{ ولا متخذات أخدان } أي: ولا متسترات بالزنا مع أخدانهن. وهذا تقسيم الواقع لأن الزانية إما أن تكون لا ترد يد لامس، وإما أن تقتصر على واحد، وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية. قال ابن عباس: كان قوم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه. والخدن: هو الصديق للمرأة يزني بها سراً، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وانتصاب محصنات على الحال، والظاهر أنّ العامل فيه: وآتوهن، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي: وآتوهن أجورهن في حال تزويجهن، لا في حال سفاح، ولا اتخاذ خدن. قيل: ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي: عفائف أو مسلمات، غير زوان.

{ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } قال الجمهور ومنهم ابن مسعود: الإحصان هنا الإسلام. والمعنى: أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة. وقد ضعف هذا القول، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدّمت في قوله: { من فتياتكم المؤمنات } فكيف يقال في المؤمنات: فإذا أسلمن؟ قاله: إسماعيل القاضي. وقال ابن عطية: ذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كنّ على هذه الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن، وذلك سائغ صحيح انتهى. وليس كلامه بظاهر، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام، لأن الإسلام متقدم سابق لهن. ثم إنه شرط جاء بعد قوله تعالى:{ فانكحوهن } فكأنه قيل: فإذا أحصن بالنكاح، فإن أتين.

ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطاً في وجوب الحد، فلو زنت الكافرة لم تحد، وهذا قول: الشعبي، والزهري، وغيرهما، وقد روي عن الشافعي. وقالت فرقة: هو التزويج، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله: ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة. وقالت فرقة: هو التزوج. وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم تتزوج، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم، وهو أنه قيل: يا رسول الله، الأمة، إذا زنت ولم تحصن، فأوجب عليها الحد". قال الزهري: فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أنّ معنى: فإذا أحصن، تزوجن. وجواب الرسول: يقتضي تقرير ذلك، ولا مفهوم لشرط الإحسان الذي هو التزوج، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج، لئلا يتوهم أنّ حدها إذا تزوجت كحد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم، فزال هذا التوهم بالإخبار: أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج، وهو الجلد خمسين.

والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى: { { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [النور: 2] ولا يمكن أن يراد الرجم، لأنّ الرجم لا يتنصف. والمراد بفاحشة هنا: الزنا، بدليل إلزام الحد. والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر. وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين، واختاره الطبري. وذهب ابن عباس والجمهور: إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط، ولا تغرب. فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب. والظاهر وجوب الحد من قوله: فعليهن، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت، وهو مذهب الجمهور. وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها.

قال ابن شهاب: مضت السنة أن يحدّ الأمة والعبد في الزنا أهلوهم، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فليس لأحد أن يفتات عليه. وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأنس. وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله: "إِذَا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد" وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك والليث: يحد السيد إلا في القطع، فلا يقطع إلا الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون الموالي وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة، وهذا مجمع عليه. والمحصنات هنا الأبكار الحرائر، لأنّ الثيب عليها الرجم. وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحدّ. وذهب أهل الظاهر منهم داود: إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة.

وقرأ حمزة والكسائي: أحصن مبنياً للفاعل، وباقي السبعة: مبنياً للمفعول إلا عاصماً، فاختلف عنه. ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدًّا في أنه أريد به التزوج، ويقوي حمله مبنياً للفاعل على هذا المعنى أي: أحصن أنفسهن بالتزويج. وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله: فإن أتين بفاحشة فعليهن، فالفاء في: فإن أتين هي فاء الجواب، لا فاء العطف، ولذلك ترتب الثاني، وجوابه على وجود الأول، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود، وهو نظير: إن دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت طالق، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيداً ثانياً. ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا، وتفصيل ذكر في النحو. ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما.

{ ذلك لمن خشي العنت منكم } ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة. والعنت: هو الزنا. قاله: ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والضحاك، وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد. والعنت: أصله المشقة، وسمي الزنا عنتاً باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة. قال المبرد: أصل العنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا، فيلقى العذاب في الآخرة، والحدّ في الدنيا. وقال أبو عبيدة والزجاج: العنت الهلاك. وقالت طائفة: الحد. وقالت طائفة: الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوز له نكاح الأمة. والذي دلّ عليه ظاهر القرآن: أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط: إثنان في الناكح وهما: عدم طول الحرّة المؤمنة، وخوف العنت. وواحد في الأمة وهو الإيمان.

{ وأن تصبروا خير لكم } ظاهره الإخبار عن صبر خاص، وهو غير نكاح الإماء، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي: وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده، وأن لا يبتذل هو، وينتقص في العادة بنكاح الأمة. وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر" وجاء في الحديث: "انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم" . وقيل: المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح الإماء خير لكم، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة. ويكون على هذا القول في الآية إيناس لنكاح الإماء، وتقريب منه، إذ كانت العرب تنفر عنه. وإذا جعل: وإن تصبروا عاماً، اندرج فيه الصبر المقيد وهو: عن نكاح الإماء، وعن الزنا. إذ الصبر خير، من عدمه، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها، وعظم إبائها، وشدة حفاظها. وهذا كله يستحسنه العقل، ويندب إليه الشرع، وربما أوجبه في بعض المواضع. وجعل الله تعالى أجر الصابر موفاة بغير حساب، وقد قال بعض أهل العلم: إنّ سائر العبادات لا بد لها من الصبر. قال تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } [البقرة: 45].

{ والله غفور رحيم } لما ندب بقوله: وأن تصبروا إلى الصبر عن نكاح الإماء، صار كأنه في حيز الكراهة، فجاء بصفة الغفران المؤذنة بأنَّ ذلك مما سامح فيه تعالى، وبصفة الرحمة حيث رخص في نكاحهن وأباحه.

{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم } مفعول يتوب محذوف وتقديره: يريد الله هذا هو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية، أي: تحليل ما حلل، وتحريم ما حرم، وتشريع ما تقدّم ذكره. والمعنى: يريد الله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه، هذا مذهب البصريين. ولا يجوز عندهم أن يكون متعلق الإرادة التبيين، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام، وإلى إضمار أنّ بعد لام ليست لام الجحود، ولا لام كي، وكلاهما لا يجوز عندهم. ومذهب الكوفيين: أنّ متعلق الإرادة هو التبيين، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها. وقال بعض البصريين: إذا جا مثل هذا قدر الفعل الذي قبل اللام بالمصدر فالتقدير: إرادة الله لما يريد ليبين، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها، أي: إرادتي لا ينسى ذكرها. وكذلك قوله تعالى: { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [الأَنعام: 71] أي: أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى. وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين، وهذا يبحث في علم النحو.

وقال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين. وأما كونه خارجاً عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد، والمفعول متأخر، وأضمر أن بعد هذه اللام. وأما كونه خارجاً عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام، لا بأن، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام. وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله: ليبين لكم، لام العاقبة، قال: كما في قوله: { ليكون لهم عدواً وحزناً } [القصص: 8] ولم يذكر مفعول يبين.

قال عطاء: يبين لكم ما يقربكم. وقال الكلبي: يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير. وقيل: ما فصل من المحرمات والمحللات. وقيل: شرائع دينكم، ومصالح أموركم. وقيل: طريق من قبلكم إلى الجنة. ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال، فيكون مفعول ليبين ضميراً محذوفاً يفسره مفعول ويهديكم، نحو: ضربت وأهنت زيداً، التقدير: ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم.

والسنن: جمع سنة، وهي الطريقة. واختلفوا في قوله: سنن الذين من قبلكم، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم؟ أو على التشبيه؟ أي: سنناً مثل سنن الذين الذين من قبلكم. فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة. وقيل: المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى: { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [النحل: 123] وقيل: المراد بها ما ذكره في قوله تعالى: { { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [الشورى: 13] وقيل: طرق من قبلكم إلى الجنة. وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم، وهذا قريب مما قبله. وعلى هذا الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير. وقيل: المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل، وتتبعوا الحق.

والذين قالوا: إنّ ذلك على التشبيه قالوا: إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الأحكام، وكذلك جعل طريقكم أنتم. فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين. وقيل: الهداية في أحد أمرين: أما أنا خوطبنا في كل قصة نهياً أو أمراً كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدايتنا سننهم في الإرشاد، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم. والأمر الثاني: أنّ هدايتنا سننهم في أنّ سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة.

والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة. وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم، أي: يريد أن يبين، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم. وقوله تعالى: ويهديكم، قال المفسرون: معناهما واحد، والتكرار لأجل التأكيد، وهذا ضعيف. والحق أنَّ المراد من الأول تبيين التكاليف، ثم قال: ويهديكم. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم كذلك أيضاً في جميع الشرائع، وإن كانت مختلفة في نفسها، متفقة في باب المصالح انتهى. وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها. وقوله: أي يريد أن يبين، موافق لقول الزمخشري.

{ ويتوب عليكم } أي يردكم من عصيانه إلى طاعته، ويوفقكم لها.

{ والله عليم حكيم } عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.

{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً } تعلق الإرادة أولاً بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على العلة، فهو علة. ونعلقها هنا على سبيل المفعولية، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله: والله يريد أن يتوب عليكم تكراراً لقوله: ويتوب عليكم، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على مفعول، فهو مفعول به. قال ابن عطية: وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للإخبار الأول، وليس المقصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله: ليبين، في معنى أن يبين، فيكون مفعولاً ليريد، وعطف عليه: ويتوب، فهو مفعول مثله، ولذلك قال: وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قد حكى قول الكوفيين وقال: وهذا ضعيف، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه: أنَّ مفعول: يريد، محذوف، والتقدير: يريد الله هذا التبيين.

والشهوات جمع شهوة، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها، كان اتباع شهواتها سبباً لكل مذمّة، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى: { { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً } [مريم: 59] واتباع الشهوة في كل حال مذموم، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله: مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله: السدي. أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، أو المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب، ونكاح بنات الأخ، وبنات الأخت، فلما حرّمهنّ الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، أو متبعو كل شهوة قاله: ابن زيد، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل، وإن كان مطلقاً فالمراد هنا الميل عن الحق، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء، فبعضها أسهل من بعض، فوصف مثل هؤلاء بالعظم، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى: { ودوا لو تكفرون } [النساء: 89] { { ويريدون أن تضلوا السبيل } [النساء: 44].

وقرأ الجمهور: أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء: بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور: ميلاً بسكون الياء. وقرأ الحسن: بفتحها، وجاءت الجملة الأولى اسمية، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله: ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف، قال: تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى، وتأخيره في الجملة الثانية، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل، ولأنّ المضارع باشرته الواو، وذلك لا يجوز، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح، فحمله على النادر تعسف لا يجوز.

{ يريد الله أن يخفف عنكم } لم يذكر متعلق التخفيف، وفي ذلك أقوال: أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص. الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز. الثالث: في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة. الرابع: بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف. الخامس: أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم.

وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله: والله يريد أن يتوب عليكم، والعامل في الحال يريد، التقدير: والله يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم، وهذا الإعراب ضعيف، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل، وهي جملة أجنبية من العامل والحال، فلا ينبغي أن تجوز إلا بسماع من العرب. ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره، فصار نظير: زيد يخرج يضرب زيد عمراً. والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية، أو في شيء من نواسخها. أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك. وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر. أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة، فلا موضع لها من الإعراب. أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا، كما جاء { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185].

{ وخلق الإنسان ضعيفاً } قال مجاهد وطاووس وابن زيد: الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء. قال طاووس: ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء. وقال ابن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء.

قال الزمخشري: ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات، وعلى مشاق الطاعات. قال ابن عطية: ثم بعد هذا المقصد أي: تخفيف الله بإباحة الإماء، يخرج الآية مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسراً، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب. قال الراغب: ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو: { { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } [النازعات: 27] أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتباراً بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى: { { الله الذي خلقكم من ضعف } [الروم: 54] فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى، فهو أقوى ما في هذا العالم. ولهذا قال تعالى: { { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [الإِسراء: 70]. وقال الحسن: ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين. قال الله تعالى: { الذي خلقكم من ضعف } [الروم: 54].

وقرأ ابن عباس ومجاهد: وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم الله، وانتصاب ضعيفاً على الحال. وقيل: انتصب على التمييز. لأنه يجوز أن يقدر بمن، وهذا ليس بشيء. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، والتقدير: من شيء ضعيف، أي من طين، أو من نطفة وعلقة ومضغة. ولما حذف الموصوف والجار انتصبت الصفة بالفعل نفسه. قال ابن عطية: ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله: ضعيفاً مفعولاً ثانياً انتهى. وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل، لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إلى ذلك، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق، فيتعدّى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: { وجعل الظلمات والنور } [الأَنعام: 1] أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك. وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من البيان والبديع. منها: التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله: يأتين الفاحشة، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيماً لقبحه وفحشه، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد. والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله: فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال، أو الجمع بينهما، وبقوله: سبيلاً والمراد الحد، أو رجم المحصن. وبقوله: فأعرضوا عنهما أي اتركوهما. وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: حتى يتوفاهنّ الموت، وفي قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت. والتجنيس المغاير في: إن تابا إن الله كان توّاباً، وفي: أرضعنكم ومن الرضاعة، وفي: محصنات فإذا أحصنّ. والتجنيس المماثل في: فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا، وفي: ولا تنكحوا ما نكح. والتكرار في: اسم الله في مواضع، وفي: إنما التوبة وليست التوبة، وفي: زوج مكان زوج، وفي: أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي، وفي: إلا ما قد سلف، وفي: المؤمنات في قوله: المحصنات المؤمنات، وفي: فتياتكم المؤمنات، وفي: فريضة ومن بعد الفريضة، وفي: المحصنات من النساء والمحصنات، ونصف ما على المحصنات، وفي: بعضكم من بعض، وفي: يريد في أربعة مواضع، وفي: يتوب وأن يتوب، وفي: إطلاق المستقبل على الماضي، في: واللاتي يأتين الفاحشة وفي: واللذان يأتيانها منكم، وفي: يعملون السوء وفي: ثم يتوبون، وفي: يريد وفي: ليبين، لأن إرادة الله وبيانه قديمان، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة. والإشارة والإيماء في قوله؛ كرهاً، فإن تحريم الإرث كرهاً يومىء إلى جوازه طوعاً، وقد صرح بذلك في قوله: فإن طبن، وفي قوله: ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها، أو بمالها، وفي: إنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء، وفي: أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء. والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله: وآتيتم إحداهنّ قنطاراً عظم الأمر حتى ينتهي عنه. والاستعارة في قوله: وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة، وفي: كتاب الله عليكم أي فرض الله، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول. وفي: محصنين، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة، وكذلك: فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله. وفي قوله: طولاً استعارة للمهر يتوصل به للغرض، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور. وفي قوله: يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله: أن يخفف، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: أن ترثوا النساء كرهاً، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثاً، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية. وفي قوله: وخلق الإنسان ضعيفاً جعله ضعيفاً باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله. والطباق المعنوي في قوله: وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب. وفي قوله: والمحصنات من النساء، أي حرام عليكم ثم قال: وأحل لكم. والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم، ثم نسق المحرمات، ثم قال: وأحل لكم، فهذا هو الطباق. وفي قوله: محصنين غير مسافحين، والمحصن الذي يمنع فرجه، والمسافح الذي يبذله. والاحتراس في قوله: اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي وربائبكم اللاتي في حجوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور. وفي قوله: والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخل تحتها الرجال، فاحترز بقوله: من النساء. والاعتراض بقوله: والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض. والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.