التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٧٤
وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
٨٠
وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٨١
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٨٢
وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٨٣
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٤
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٥
وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٨٦
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٨٧
ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٨٨
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
٨٩
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ
٩٠
وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩٢
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
٩٣
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٩٤
-الأنعام

البحر المحيط

{ آزر } اسم أعجمي علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية. الصنم الوثن يقال إنه معرب شمر والصنم: خبث الرائحة والصنم: العبد القوي وصنم صور وصوّر بنو فلان نوقهم اعزروها. جن عليه الليل وأجن أظلم هذا تفسير المعنى وهو بمعنى ستر متعدياً، قال الشاعر:

وماء وردت قبيل الكرى وقد جنه السدف الأدهم

والاختيار جن الليل وأجنه ومصدر جن جنون وجنان وجن الكوكب والكوكبة النجم وهو مشترك بين معان كثيرة ويقال كوكب توقد، وقال الصاغاني: حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب و ك ب عند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ك ب ولعله تبع فيه الليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى. وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول كلمة، فأما قولهم هندي وهندكي في معنى واحد وهو المنسوب إلى الهند قال الشاعر:

ومقرونة دهم وكمت كأنها طماطم يوفون الوفاز هنادك

فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هو من باب سبط وسبطر، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء: شوكي وإلى الفرس: الفرسكي وربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري: جبرتي، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية. أفل يأفل أفولاً غاب. وقيل: ذهب وهذا اختلاف في عبارة. وقال ذو الرمة:

مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك

القمر معروف يسمى بذلك لبياضه والأقمر الأبيض وليلة قمراء مضيئة قاله ابن قتيبة.

البزوغ أول الطلوع بزغ يبزغ. اقتدى به اتبعه وجعله قدوة له أي متبعاً. الغمرة الشدة المذهلة وأصلها في غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء. قال الشاعر:

ولا ينجي من الغمرات إلا براكاء القتال أو الفرار

ويجمع على فعل كنوبة ونوب قال الشاعر:

وحــان لتــالـك الغمــر انحســار

فرادى: الألف فيه للتأنيث ومعناها فرداً فرداً، ويقال فيه فراد منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ، قال أبو البقاء: من صرفه جعله جمعاً مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل، قيل: وفرادى جمع فرد بفتح الراء. وقيل: بسكونها، قال الشاعر:

يرى النعرات الزرق تحت لبانه فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقيل: جمع فريد كرديف وردافى ويقال رجل أفرد وامرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفرد فروداً إذا انفرد فهو فارد. خوله: أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال. البين: الفراق. قيل: وينطلق على الوصل فيكون مشتركاً. قال الشاعر:

فوالله لولا البين لم يكن الهوى ولولا الهوى ما حن للبين آلفه

{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلة إني أراك وقومك في ضلال مبين }.

لما ذكر قوله تعالى: { { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } [الأنعام: 71] ناسب ذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدّهم الأعلى فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم ابراهيم على أبيه وقومه عبادتها وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليه السلام، والظاهر أن آزر اسم أبيه قاله ابن عباس والحسن والسدّي وابن إسحاق وغيرهم، وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارخ والأقرب أن وزنه فاعل مثل تارخ وعابر ولازب وشالح وفالغ وعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل وهو عطف بيان أو بدل، وقال مجاهد: هو اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق على عبيد الله بن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ رقية. فقيل ابن قيس الرقيات، وكما قال بعض المحدّثين:

أدعى بأسماء تترى في قبائلها كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

ويكون إذ ذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباً بفعل مضمر أي تتخذ آزر، وقيل: إن آزر عم ابراهيم وليس اسم أبيه وهو قول الشيعة يزعمون أن آباء الأنبياء لا يكونون كفاراً وظواهر القرآن ترد عليهم ولا سيما محاورة ابراهيم مع أبيه في غير ما آية، وقال مقاتل: هو لقب لأبي ابراهيم وليس اسماً له وامتنع آزر من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل هو صفة، قال الفراء بمعنى المعوجّ. وقال الزجاج: بمعنى المخطىء، وقال الضحاك: الشيخ الهمّ بالفارسية، وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجهه الزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل: أذمّ المخطىء، وقيل: انتصب على الحال وهو في حال عوج أو خطأ، وقرأ الجمهور { آزر } بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء وكونه علماً ولا يصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً، وفي مصحف أبيّ يا آزر بحرف النداء اتخذت أصناماً بالفعل الماضي فيحتمل العلمية والصفة، وقرآ ابن عباس أيضاً أأزراً تتخذ بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكون الزاي ونصب الراء منوّنة وحذف همزة الاستفهام من أتتخذ، قال ابن عطية: المعنى أعضداً وقوّة ومظاهرة على الله تتخذ وهو قوله: { { اشدد به أزري } [طه: 31]. وقال الزمخشري: هو اسم صنم ومعناه أتعبد أزراً على الإنكار ثم قال: { أتتخذ أصناماً آلهة } تبييناً لذلك وتقريراً وهو داخل في حكم الإنكار لأنه كالبيان له، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو اسماعيل الشامي أإزراً بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام تتخذ، قال ابن عطية: ومعناها إنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة كأنه قال: أوزراً أو مأثماً تتخذ أصناماً ونصبه على هذا بفعل مضمر، وقال الزمخشري: هو اسم صنم ووجهه على ما وجه عليه أأزراً بفتح الهمزة، وقرأ الأعمش إزراً تتخذ بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وبغير همزة استفهام في تتخذ والهمزة في { أتتخذ } للإنكار وفيه دليل على الإنكار على من أمر الإنسان بإكرامه إذا لم يكن على طريقة مستقيمة وعلى البداءة بمن يقرب من الإنسان كما قال: { { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214] وفي ذكره أصناماً آلهة بالجمع تقبيح عظيم لفعلهم واتخاذهم جمعاً آلهة وذكروا أن ابراهيم كان نجاراً منجماً مهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظى عنده بذلك وكان من قرية تسمى كوثا من سواد الكوفة، قاله مجاهد قيل وبها ولد ابراهيم، وقيل: كان آزر من أهل حرّان وهو تارخ بن ناجور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وأراك يحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى مفعولين وجوزوا أن يكون بمعنى أتعمل وتصنع لأنه كان ينحتها ويعملها ولما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كأن الضلال صار ظرفاً لهم ومبين واضح ظاهر من أبان اللازمة، قال ابن عطية: ليس بالفعل المتعدّي المنقول من بان يبين انتهى، ولا يمتنع ذلك يوضح كفركم بموجدكم من حيث اتخذتم دونه آلهة وهذا الإنكار من ابراهيم على أبيه والإخبار أنه وقومه في ضلال مبين أدل دليل على هداية ابراهيم وعصمته من سبق ما يوهم ظاهر قوله: هذا ربي من نسبة ذلك إليه على أنه أخبر عن نفسه وإنما ذلك على سبيل التنزل مع الخصم وتقرير ما يبنى عليه من استحالة أن يكون متصفاً بصفات الحدوث من الجسمانية وقبوله التغيرات من البزوع والأفول ونحوها.

{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السمٰوات والأرض } هذه جملة اعتراض بين قوله: { وإذ قال إبراهيم } منكراً على أبيه عبادة الأصنام وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله: { فلما جنّ عليه الليل } و{ نري } بمعنى أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلى اثنين، فالظاهر أنها بصرية. قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثم تعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعول واحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين، وعلى كونها بصرية فقال سلمان الفارسي وابن جبير ومجاهد: فرجت له السمٰوات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ورأى مقامه في الجنة، قال ابن عطية: فإن صح هذا النقل ففيه تخصيص لابراهيم بما لم يدركه غيره قبله ولا بعده؛ انتهى

. وروي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كشف الله له عن السمٰوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين" وإذا كانت أبصاراً فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقع له معها من الاعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره. وفي ذلك تخصيص له على جهة التقييد بأهل زمانه وكونها من رؤية القلب، وجوز ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره، قال ابن عطية: رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره وذلك لا بد متركب على ما تقدّم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه، وقال الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف ابراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض يعني الربوبية والإلهية ونوقفه لمعرفتهما ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره لطريق الاستدلال و{ نري } حكاية حال ماضية انتهى، والإشارة بذلك إلى الهداية أو ومثل هدايته إلى توحيد الله تعالى ودعاء أبيه وقومه إلى عبادة الله تعالى ورفض الأصنام أشهدناه ملكوت السمٰوات والأرض، وحكى المهدوي أن المعنى وكما هديناك يا محمد أرينا ابراهيم وهذا بعيد من دلالة اللفظ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي وكذلك الإنكار والدعاء إلى الله زمان ادعاء غير الله الربوبية أشهدناه ملكوت السمٰوات والأرض فصار له بذلك اختصاص، قال ابن عباس: جلائل الأمور سرها وعلانيتها، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما رأى ذلك جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله: إنك لا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم انتهى، قال الزجاج وغيره: الملكوت الملك كالرغبوت والرهبوت والجبروت وهو بناء مبالغة ومن كلامهم: له ملكوت اليمن والعراق، قال مجاهد: ويعني به آيات السماوات والأرض، وقال قتادة: ملكوت السمٰوات: الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار، وقيل: عبادة الملائكة وعصيان بني آدم، وقرأ أبو السمال: ملكوت بسكون اللام وهي لغة بمعنى الملك، وقرأ عكرمة ملكوت بالثاء المثلثة وقال: ملكوثا باليونانية أو القبطية، وقال النخعي: هي ملكوثا بالعبرانية وقرىء وكذلك تري، بالتاء من فوق، { ابراهيم ملكوت }، برفع التاء، أي تبصره دلائل الربوبية.

{ وليكون من الموقنين } أي أريناه الملكوت، وقيل: ثم علة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه، وقال قوم: ليستدل بها على الصانع، وقيل: الواو زائدة ومتعلق الموقنين قيل: بوحدانية الله وقدرته، وقيل: بنبوته وبرسالته. وقيل: عياناً كما أيقن بياناً انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين كما سأل في قوله: { { أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260] والإيقان تقدم تفسيره أول البقرة، وقال أبو عبد الله الرازي: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين إذ يحصل بكل واحد منها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم.

{ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً فقال هذا ربي }.

هذه الجملة معطوفة على قوله: { وإذ قال إبراهيم } على قول من جعل { وكذلك نري } اعتراضاً وهو قول الزمخشري. قال ابن عطية: الفاء في قوله { فلما } رابطة جملة ما بعدها بما قبلها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية، وقال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها والكوكب الزهرة، قاله ابن عباس وقتادة، أو المشتري، قاله مجاهد والسدي وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفل نحو قوقل وهو تركيب قليل، والظاهر أن جواب { لما رأى كوكباً } وعلى هذا جوزوا في { قال هذا ربي } أن يكون نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون الجواب { قال هذا ربي } و{ رأى كوكباً } حال أي جن عليه الليل رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية، وقيل هي استفهامية على جهة الإنكار حذف منها الهمزة كقوله:

بســبــع رميــن الجمــر أم بثمــان

قال ابن الأنباري: وهذا شاذ لأنه لا يجوز أن يحذف الحرف إلا إذا كان ثم فارق بين الأخبار والاستخبار وإذا كانت خبرية فيستحيل عليه أن يكون هذا الإخبار على سبيل الاعتقاد والتصميم لعصمة الأنبياء من المعاصي، فضلاً عن الشرك بالله، وما روي عن ابن عباس أن ذلك وقع له في حال صباه وقبل بلوغه وأنه عبده حتى غاب وعبد القمر حتى غاب وعبد الشمس حتى غابت فلعله لا يصح، وما حكي عن قوم أن ذلك بعد البلوغ والتكليف ليس بشيء وما حكوا من أن أمه أخفته في غار وقت ولادته خوفاً من نمروذ أنه أخبره المنجمون أنه يولد ولد في سنة كذا يخرب ملكه على يديه، وأنه تقدّم إلى أنه من ولد من أنثى تركت ومن ذكر ذبحه إلى أن صار ابن عشرة أعوام، وقيل: خمسة عشر وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب فحكاية يدفعها مساق الآية، وقوله: { إني بريء مما تشركون } وقوله: { تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } وتأول بعضهم ذلك على إضمار القول وكثيراً ما يضمر تقديره قال: يقولون هذا ربي على حكاية قولهم وتوضيح فساده مما يظهر عليه من سمات الحدوث ولا يحتاج هذا إلى الإضمار بل يصح أن يكون هذا كقوله تعالى: { أين شركائي } [القصص: 62] أي على زعمكم، وقال الزمخشري: { هذا ربي } قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة انتهى، فيكون هذا القول منه استدراجاً لإظهار الحجة وتوسلاً إليها كما توسل إلى كسر الأصنام بقوله: { { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } [الصافات: 88 - 89] فوافقهم ظاهراً على النظر في النجوم وأوهمهم أن قوله { { إني سقيم } [الصافات: 89] ناشىء عن نظره فيها.

{ فلما أفل قال لا أحب الآفلين } أي لا أحب عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان المحتجبين بستر فإن ذلك من صفات الأجرام وإنما احتج بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب، وجاء بلفظ الآفلين ليدل على أن ثم آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث.

{ فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي } لم يأت في الكواكب رأى كوكباً بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى بزغ الكوكب لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإنه لما أوضح لهم أن هذا النير وهو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب، والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة فرآه أول طلوعه وهو البزوغ، ثم عمل كذلك في الشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأهم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكواكب في صفة الحدوث.

{ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } القوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها واستدل بهذا من زعم أن قوله: { هذا ربي } على ظاهره وأن النازلة كانت في حال الصغر، وقال الزمخشري { لئن لم يهدني ربي } تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه.

{ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر } المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث وأما من لم ير فيها إلا التأنيث. فقال ابن عطية: ذكر أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش، هذا الطالع، وقيل: الشمس بمعنى الضياء قال تعالى: { { جعل الشمس ضياء } [يونس: 5] فأشار إلى الضياء والضياء مذكر، وقال الزمخشري: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك وما كانت أمك، { ولم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } [الأنعام: 23] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله: علام ولم يقولوا علامة، وإن كان علامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث انتهى، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلام ابراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم وحين أخبر تعالى عنها بقوله { بازغة } و{ أفلت } أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.

{ فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها، ولما أفلت الشمس لم يبق لهم شيء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من إشراكهم، وقال الماتريدي: الاختيار أن يقال: استدل على عدم صلاحيتها للإلهية لغلبة نور القمر نور الزهرة ونور الشمس لنوره وقهرتيك بذاك وهذا بتلك، والرب لا يقهر والظلام غلب نور الشمس وقهره انتهى ملخصاً. قال ابن أبي الفضل: ما جاء الظلام إلا بعد ذهاب الشمس فلم يجتمع معها حتى يقال قهرها وقهر نورها انتهى، وقال غيره من المفسرين: إنه استدل بما ظهر عليها من شأن الحدوث والانتقال من حال إلى حال وذلك من صفات الأجسام فكأنه يقول: إذا بان في هذه النيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي من خشب وحجارة أحرى أن يتبين ذلك فيها ومثل لهم بهذه النيرات لأنهم كانوا أصحاب نظر في الأفلاك وتعلق بالنجوم وأجمع المفسرون على أن رؤية هذه النيرات كانت في ليلة واحدة، رأى الكوكب الزهرة أو المشتري على الخلاف السابق جانحاً للغروب فلما أفل بزغ القمر فهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفى نوره ودنا أيضاً من مغربه، فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية ثم بزغت الشمس على ذلك، قال ابن عطية: وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك التجوز في أفول القمر؛ انتهى، والظاهر والذي عليه المفسرون أن المراد من الكوكب والقمر والشمس هو ما وضعته له العرب من إطلاقها على هذه النيرات، وحكي عن بعض العرب ولعله لا يصح عنه أن الرؤية رؤية قلب، وعبر بالكوكب عن النفس الحيوانية التي لكل كوكب وبالقمر عن النفس الناطقة التي لكل فلك، وبالشمس عن العقل المجرد الذي لكل فلك وكان ابن سينا يفسر الأفول بالإمكان فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها لذاتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها؛ انتهى، وهذان التفسيران شبيهان بتفسير الباطنية لعنهم الله إذ هما لغز ورمز ينزه كتاب الله عنهما ولولا أن أبا عبد الله الرازي وغيره قد نقلهما في التفسير، لأضربت عن نقلهما صفحاً إذ هما مما نجزم ببطلانه ومن تفسير الباطنية الإمامية ونسبوه إلى عليّ أن الكوكب هو المأذون، وهو الداعي والقمر اللاحق وهو فوق المأذون بمنزلة الوزير من الإمام والشمس الإمام وابراهيم في درجة المستجيب، فقال للمأذون: هذا ربي عنى رب التربية للعلم فإنه يربي المستجيب بالعلم ويدعوه إليه، فلما أفل فنى ما عند المأذون من العلم رغب عنه ولزم اللاحق فلما فنى ما عنده رغب عنه وتوجه إلى التالي وهو الصامت الذي يقبل العلم من الرسول الذي يسمى الناطق لأنه ينطق بجميع ما ينطق به الرسول فلما فنى ما عنده ارتقى إلى الناطق وهو الرسول وهو المصور للشرائع عندهم؛ انتهى هذا التخليط، واللغز الذي لا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالات والتفسير أن قبل هذا شبيهان بهذا التفسير المستحيل وللمنسوبين إلى الصوف في تفسير كتاب الله تعالى أنواع من هذه التفاسير. قال القشيري: لما جنّ عليه الليل أحاط به سجوف الطلب ولم يتجل له بعد صباح الوجود فطلع له نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان فقال: هذا ربي ثم زيد في ضيائه فطلع قمر العلم وطالعه بسر البيان، فقال: { هذا ربي } ثم أسفر الصبح ومتع النهار وطلعت شمس العرفان من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان ولا للتجويز حكم ولا للتهمة قرار، فقال: { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } إذ ليس بعد البعث ريب ولا بعد الظهور ستر انتهى، والعجب كل العجب من قوم يزعمون أن هؤلاء المنسوبين إلى الصوف هم خواص الله تعالى وكلامهم في كتاب الله تعالى هذا الكلام.

{ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً } أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه بوجهي للذي ابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه إذ هذه النيرات مظروف السموات ولما كانت الأصنام التي يعبدها قومه النيرات ومن خشب وحجارة وذكر ظرف النيرات عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة، و{ حنيفاً } مائلاً عن كل دين إلى دين الحق وهو عبادة الله تعالى مسلماً أي منقاداً إليه مستسلماً له.

{ وما أنا من المشركين } ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول إذ لا يذعنون للدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق تبرأ من عبادتهم وأكد ذلك بأن ثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها، بعضه ثم نفى عن نفسه أن يكون من المشركين مبالغة في التبريء منهم.

{ وحاجَّه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان } المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلك ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام كقول: قوم هود { { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [هود: 54] فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنه لا يخاف من آلهتهم، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام { أتحاجوني } بتخفيف النون وأصله بنونين الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ في ذلك، وقال مكي: الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى، وقيل: التخفيف لغة لغطفان، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغم هروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام، و{ في الله } متعلق بأتحاجوني لا بقوله { وحاجه قومه } والمسألة من باب الإعمال إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثاني ونظير { { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [النساء: 176] والجملة من قوله { وقد هدان } حالية أنكر عليهم أن تقع منهم محاجة له وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة.

{ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً } حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام: أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقيصك فقال لهم: لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده و{ ما } بمعنى الذي والضمير في { به } عائد عليه أي الذي تشركونه بالله في الربوبية { وإلا أن يشاء ربي } قال ابن عطية استثناء ليس من الأول ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريد بضر انتهى، فيكون استنثاءً منقطعاً وبه قال الحوفي فيصير المعنى لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف وقال الزمخشري { إلا أن يشاء ربي } إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف فحذف الوقت يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر ولا على منفعة ولا على مضرة إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس والقمر، أو يجعلها قادرة على مضرتي انتهى، فيكون استثناءً متصلاً من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي وجوز أبو البقاء أن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي أي لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال، وانتصب شيئاً على المصدر أي مشيئة أو على المفعول به.

{ وسع ربي كل شيء علماً } ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن فقد لا يستبعد أن يتعلق علمه بإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناءً متصلاً أو مطلقاً إن كان منقطعاً وانتصب علماً على التمييز المحول من الفاعل، أصله وسع علم ربي كل شيء.

{ أفلا تتذكرون } تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع، وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية. وقال الزمخشري: { أفلا تتذكرون } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز، وقيل: أفلا تتعظون بما أقول لكم، وقال عبد الله الرازي: { أفلا تتذكرون } أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب.

{ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون إنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } استفهام معناه التعجب والإنكار كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله { ولا تخافون } معطوف على { أخاف } فهو داخل في التعجب والإنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله تعالى تركاً للمقابلة، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله تعالى وأتى بلفظ { ما } الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارة وخشب وكواكب، والسلطان الحجة والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم، نفى أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب اطراحه، وقرىء { سلطاناً } بضم اللام والخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين أو هو اتباع فلا يثبت به.

{ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لا هم كما قال الشاعر:

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أني وايك فارس الأحزاب

أي أينا ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب وأضاف أيا إلى الفريقين، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريد نفسه فيكون ذلك تزكية لها، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن.

{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } الظاهر أنه من كلام إبراهيم لما استفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم استأنف الجواب عن السؤال، وصرح بذلك المحتمل فقال: الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا، وقيل: هو من كلام قوم إبراهيم أجابوا بما هو حجة عليهم، وقيل: هو من كلام الله أمر إبراهيم أن يقوله لقومه أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين من حاجه قومه، واللبس الخلط و{ الذين آمنوا }: ابراهيم وأصحابه وليست في هذه الأمة قاله علي وعنه ابراهيم خاصة أو من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة أو عامة قاله بعضهم وهو الظاهر، والظلم هنا الشرك قاله ابن مسعود وأبيّ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك كما قال لقمان: { إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]" ولما قرأها عمر عظمت عليه فسأل أبياً فقال: إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسرى عنه وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبيّ، وقرأ مجاهد: { ولم يلبسوا إيمانهم } بشرك ولعل ذلك تفسير معنى إذ هي قراءة تخالف السواد، وقال الزمخشري: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس انتهى، وهذه دفينة اعتزال أي إن الفاسق، ليس له الأمن إذا مات مصراً على الكبيرة، وقوله: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس هذا رد على من فسر الظلم بالكفر، والشرك وهم الجمهور وقد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك فوجب قبوله ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول، وإنما جعله يأباه لفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمناً عاصياً معصية تفسقه، ولا يمكن أن يكون مؤمناً مشركاً في وقت واحد { ولم يلبسوا } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلت واو الحال على الجملة المنفية بلم كقوله تعالى: { { أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } [آل عمران: 47] وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب، وكلام الله، وقرأ عكرمة: { ولم يلبسوا } بضم الياء ويجوز في { الذين } أن يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو { أولئك لهم الأمن } وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعل { أولئك } فاصلة وهو النحاس والحوفي.

{ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله { فلما جن عليه الليل } إلى قوله { وهم مهتدون } وهذا الظاهر، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم و{ آتيناها } أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية، أو { آتيناها } بوحي منا ولقناه إياها وإن أعربت { وتلك } مبتدأ و{ حجتنا } بدلاً { وآتيناها } خبر لتلك، لم يخبر أن يتعلق { على قومه } بحجتنا وكذا إن أعربت { وتلك حجتنا } مبتدأ وخبر و{ آتيناها } حال العامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لم يجز ذلك أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه، وأجاز الحوفي أن يكون{ آتيناها } في موضع النعت لحجتنا والنية فيها الانفصال والتقدير: وتلك حجة لنا آتيناها انتهى، وهذا بعيد جداً. وقال الحوفي: وهاء مفعول أول وإبراهيم مفعول ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان وابراهيم مفعول أول، وقال الحوفي وابن عطية { على قومه } متعلق بـ { آتيناها }. قال ابن عطية أظهرناها لإبراهيم على قومه، وقال أبو البقاء: بمحذوف تقديره حجة على قومه ودليلاً، وقال الزمخشري: { آتيناها ابراهيم } أرشدناه إليها ووفقناه لها وهذا تفسير معنى، ويجوز أن يكون في موضع الحال وحذف مضاف أي { آتيناها ابراهيم } مستعلية على حجج قومه قاهرة لها.

{ نرفع درجات من نشاء } أي مراتب ومنزلة من نشاء وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالمعرفة أو بالرسالة أو بحسن الخلق أو بخلوص العمل في الآخرة أو بالنبوة والحكمة في الدنيا أو بالثواب والجنة في الآخرة، أو بالحجة والبيان، أقوال أقر بها الأخير لسياق الآية ونوّن درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان، ويحتاج هذا القول إلى تضمين نرفع معنى ما يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات.

{ إن ربك حكيم عليم } أي { حكيم } في تدبير عباده { عليم } بأفعالهم أو { حكيم } في تقسيم عباده إلى عابد صنم وعابد الله { عليم } بما يصدر بينهم من الاحتجاج، ويحتمل أن يكون الخطاب في { إن ربك } للرسول ويحتمل أن يكون المراد به إبراهيم فيكون من باب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب.

{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب } { إسحاق } ابنه لصلبه من سارة و{ يعقوب } ابن إسحاق كما قال تعالى: { { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } [هود: 71]، وعدد تعالى نعمه على إبراهيم فذكر إيتاءه الحجة على قومه، وأشار إلى رفع درجاته وذكر ما منّ به عليه من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسل ولم يذكر إسماعيل مع إسحاق. قيل: لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ولم يخرج من صلب إسماعيل نبي إلا محمد صلى الله عليه وسلم ولم يذكره في هذا المقام لأنه أمره عليه السلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن جدّهم إبراهيم لما كان موحداً لله متبرئاً من الشرك رزقه الله أولاً ملوكاً وأنبياء، والجملة من قوله: { ووهبنا } معطوفة على قوله: { وتلك حجتنا } عطف فعلية على اسمية، وقال ابن عطية: { ووهبنا } عطف على { آتيناها } انتهى. ولا يصح هذا لأن { آتيناها } لها موضع من الإعراب إما خبر. وإما حال ولا يصح في { ووهبنا } شيء منهما.

{ كلاًّ هدينا } أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا.

{ ونوحاً هدينا من قبل } لما ذكر شرف أبناء إبراهيم ذكر شرف آبائه فذكر نوحاً الذي هو آدم الثاني وقال: { من قبل } تشبيهاً على قدمه وفي ذكره لطيفة وهي أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه، وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته ورفض تلك الأصنام وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومه حيث قالوا: { { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } [نوح: 23] وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كما هدى إبراهيم.

{ ومن ذريته داود وسليمان } قيل: ومن ذرية نوح عاد الضمير عليه لأنه أقرب مذكور ولأن في جملتهم لوطاً وهو ابن أخي ابراهيم فهو من ذرية نوح لا من ذرية ابراهيم، وقيل: ومن ذرية ابراهيم عاد الضمير عليه لأنه المقصود بالذكر، قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية ابراهيم وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب، لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العمّ أباً، وقال أبو سليمان الدمشقي: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة انتهى. قالوا: والمعنى وهدينا أو ووهبنا { من ذريته داود وسليمان } وقرنهما لأنهما أب وابن ولأنهما ملكان نبيان وقدم داود لتقدمه في الزمان ولكونه صاحب كتاب ولكونه أصلاً لسليمان وهو فرعه.

{ وأيوب ويوسف } قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له ويوسف بالبلاء بالسجن ولغربته عن أهله، وفي مآلهما بالسلامة والعافية، وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان.

{ وموسى وهارون } قرونهما لاشتراكهما في الأخوة وقدّم موسى لأنه كليم الله.

{ وكذلك نجزي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيرين نجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا.

{ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وبدأ بزكريا ويحيـى لسبقهما عيسى في الزمان وقدّم زكريا لأنه والد يحيـى فهو أصل، ويحيـى فرع وقرن عيسى وإلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد وقدّم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة، وتقدّم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء إلا إلياس وهو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، وروي عن ابن مسعود أن ادريس هو الياس ورد ذلك بأن إدريس هو جد نوح عليهما السلام تظافرت بذلك الروايات، وقيل: الياس هو الخضر وتقدّم خلاف القرّاء في زكريا مداً وقصراً، وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة إلياس وفي ذكر عيسى هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية، وسواء كان الضمير في { ومن ذريته } عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول: الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم هما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيـى بن يعمر على ذلك، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.

{ كل من الصالحين } لا يختص كل بهؤلاء الأربعة، بل يعم جميع من سبق ذكره من الأربعة عشر نبياً.

{ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً } المشهور أن إسماعيل هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده، وقيل: هو نبي من بني إسرائيل كان زمان طالوت وهو المعنى بقوله { { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } [البقرة: 246]، واليسع قال زيد بن أسلم: هو يوشع بن نون، وقال غيره: هو اليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ الجمهور واليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أم عجمي، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمي به ولا ضمير فيه فأعرب ثم نكر وعرف بأل، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله:

رأيـت الوليــد بــن اليزيــد مباركــاً

ولزمت كما لزمت في الآن، ومن قال: إنه أعجمي فقال: زيدت فيه أل ولزمت شذوذاً، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن أل فهي كهي في الحارث والعباس، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبد الله بن مالك الجياني، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسموأل، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقد يجوز أن يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله: إن اليسع ليس منقولاً من فعل كما قال بعضهم، وتقدّم أنه قال: يونس بضم النون وفتحها وكسرها وكذلك يوسف وبفتح النون وسين يوسف قرأ الحسن وطلحة ويحيـى والأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن وإنما جمع هؤلاء الأربعة لأنهم لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياع فهذه مراتب ست: مرتبة الملك والقدرة ذكر فيها داود وسليمان، ومرتبة البلاء الشديد، ذكر فيها أيوب، ومرتبة الجمع بين البلاء والوصول إلى الملك ذكر فيها يوسف، ومرتبة قوة البراهين والمعجزات والقتال والصولة ذكر فيها موسى وهارون، ومرتبة الزهد الشديد والانقطاع عن الناس للعبادة ذكر فيها زكريا ويحيـى وعيسى وإلياس، ومرتبة عدم الاتباع ذكر فيها إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً، وهذه الأسماء أعجمية لا تجر بالكسرة ولا تنون إلا اليسع فإنه يجر بها ولا ينون وإلا لوطاً فإنه مصروف لخفة بنائه بسكون وسطه، وكونه مذكراً وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية وقد تحاشى المسلمون هذا الاسم الشريف، فقلّ من تسمى به منهم كأبي مخنف لوط بن يحيـى، ولوط النبي هو لوط بن هارون بن آزر وهو تارخ وتقدّم رفع نسبه.

{ وكلاًّ فضلنا على العالمين } فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء خلافاً لبعض من ينتمي إلى الصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفتوح المكية وعنقاء مغرب وغيرهما من كتب الضلال، وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله تعالى فيندرج في العموم الملائكة. قال ابن عطية: معناه عالمي زمانهم.

{ ومن آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم } المجرور في موضع نصب. فقال الزمخشري: عطفاً على { كلاًّ } بمعنى وفضلنا بعض آبائهم، وقال ابن عطية: وهدينا { من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } جماعات فمن للتبعيض والمراد من آمن نبياً كان أو غير نبي ويدخل عيسى في ضمير قوله: { ومن آبائهم } ولهذا قال محمد بن كعب: الخال والخالة انتهى، { ومن آبائهم } كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح { وذرياتهم } كذرية نوح عليه السلام المؤمنين { وإخوانهم } كإخوة يوسف ذكر الأصول والفروع والحواشي.

{ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } الظاهر عطف { واجتبيناهم } على { فضلنا } أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح للهداية السابقة، وأنها هداية إلى طريق الحق المستقيم القويم الذي لا عوج فيه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك.

{ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } أي ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هو هدى الله، وقال ابن عطية: ذلك إشارة إلى النعمة في قوله { واجتبيناهم } انتهى، وفي الآية دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى.

{ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } أي { ولو أشركوا } مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كما قال تعالى: { { لئن أشركت ليحبطن عملك } [الزمر: 65] وفي قوله: { ولو أشركوا } دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيد ونفي الشرك.

{ أولك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوا به، والكتاب: جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكم: الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أو فهم الكتاب أو الفقه في دين الله أقوال، وقال أبو عبد الله الرازي: { آتيناهم الكتاب } هي رتبة العلم يحكمون بها على بواطن الناس وأرواحهم و{ الحكم } مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر و{ النبوة } المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين فالحكام على الخلق ثلاث طوائف. انتهى ملخصاً.

{ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } الظاهر أن الضمير في { بها } عائد إلى النبوة لأنها أقرب مذكور، وقال الزمخشري: { بها } بالكتاب والحكم والنبوة فجعل الضمير عائداً على الثلاثة وهو أيضاً له ظهور، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي وغيرهم، وقال الزمخشري: { هؤلاء } يعني أهل مكة انتهى وقال السدّي، وقال الحسن: أمّة الرسول ومعنى { وكلنا } أرصدنا للإيمان بها والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه، والقوم الموكلون بها هنا هم الملائكة قاله أبو رجاء، أو مؤمنوا أهل المدينة قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي، وقال الزمخشري: { قوماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله { أولئك الذين هدى الله } انتهى. وهو قول الحسن وقتادة أيضاً قالا: المراد بالقوم من تقدّم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقيل: الأنبياء الثمانية عشر المتقدم ذكرهم واختاره الزجاج وابن جرير لقوله بعد { أولئك الذين هدى الله }. وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: كل من آمن بالرسول، وقال مجاهد هم الفرس والآية وإن كان قد فسر بها مخصوصون فمعناها عام في الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة.

{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتدى بهداهم، والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك، فالمعنى فبطريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها كلها هدى أبداً. وقال تعالى: { { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [المائدة: 48]. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون الإشارة بأولئك إلى { قوماً } وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم على بعضها انتهى، ويعني أنه إذا فسر القوم بالأنبياء المذكورين أو بالملائكة فيمكن أن تكون الإشارة إلى قوم وإن فسروا بغير ذلك فلا يصح، وقيل: الاقتداء في الصبر كما صبر من قبله، وقيل: يحمل على كل هداهم إلا ما خصه الدليل، وقيل: في الأخلاق الحميدة من الصبر على الأذى والعفو، وقال: في ريّ الظمآن أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر بتوبة آدم وشكر نوح ووفاء إبراهيم وصدق وعد إسماعيل وحلم إسحاق وحسن ظنّ يعقوب؟ واحتمال يوسف وصبر أيوب وإثابة داود وتواضع سليمان وإخلاص موسى وعبادة زكريا وعصمة يحيـى وزهد عيسى، وهذه المكارم التي في جميع الأنبياء اجتمعت في الرسول صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ولذلك وصفه تعالى بقوله: { { وإنك لعلى خلق عظيم } [القلم: 4]. وقال الزمخشري: { فبهداهم اقتده } فاختص هداهم بالاقتداء ولا يقتدى إلا بهم، وهذا بمعنى تقديم المفعول وهذا على طريقته في أن تقديم المفعول يوجب الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك في الكلام على { { إياك نعبد } [الفاتحة: 5]. وقرأ الحرميان وأهل حرميهما وأبو عمرو { اقتده } بالهاء ساكنة وصلاً ووقفاً وهي هاء السكت أجروها وصلاً مجراها وقفاً، وقرأ الأخوان بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس، وقرأ هشام { اقتده } باختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً، وقرأ ابن ذكوان بكسرها ووصلها بياء وصلاً وسكونها وقفاً ويؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت، وتغليظ ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه وتأويلها على أنها هاء السكت ضعيف.

{ قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم. { أجراً } أي أجرة أتكثر بها وأخص بها إن القرآن { إلا ذكرى } موعظة لجميع العالمين.

{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } نزلت في اليهود قاله ابن عباس ومحمد بن كعب، أو في مالك بن الصيف اليهودي إذ قال له الرسول: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ قال: نعم. قال: فأنت الحبر السمين فغضب ثم قال: ما أنزل الله على بشر من شيء" قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة، أو في فنحاص بن عازورا منهم قاله السدي، أو في اليهود والنصارى قاله قتادة، أو في مشركي العرب قاله مجاهد، وغيره، وبعضهم خصه عنه بمشركي قريش وهي رواية ابن أبي نجيح عنه، وفي رواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى { من شيء } في مشركي قريش وقوله: { أنزل الكتاب } في اليهود

ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه، رأى أهل الشرك وذكر تعالى ما منّ به على إبراهيم من جعل النبوّة في بنيه وأن نوحاً عليه السلام جدّه الأعلى كأن الله تعالى قد هداه وكان مرسلاً إلى قومه وأمر تعالى الرسول بالاقتداء بهدى الأنبياء أخذ في تقرير النبوّة والردّ على منكريّ الوحي فقال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } وأصل القدر معرفة الكمية يقال: قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقدار يقدره بالضم قدراً وقدراً ومنه "فإن غم عليكم فاقدروا له" أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم توسع فيه حتى قيل: لكل من عرف شيئاً هو يقدر قدره ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته، قال ابن عباس والحسن واختاره الفراء وثعلب والزُّجاج معناه ما عظموا الله حق تعظيمه، وقال أبو عبيدة والأخفش: ما عرفوه حق معرفته، قال الماتريدي: ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفه حق معرفته؟ قالت الملائكة: ما عبدناك حق عبادتك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أحصي ثناءً عليك" وينفصل عن هذا أن يكون المعنى: ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك، وقال أبو العالية: واختاره الخليل بن أحمد معناه: ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز، وقال ابن عباس أيضاً: ما آمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير، وقال أبو عبيدة أيضاً: ما عبدوه حق عبادته، وقيل: ما أجلُّوه حق إجلاله حكاه ابن أبي الفضل في ريّ الظمآن وهو بمعنى التعظيم، وقال ابن عطية: من توفية القدر فهي عامّة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك غير أن تعليله بقولهم: { ما أنزل الله } يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل، وقال الزمخشري: ما عرفوا الله حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجلّ نعمته { { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة، والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ { تجعلونه } بالتاء وكذلك { تبدونها } و{ تخفون } وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى. انتهى، والضمير في { وما قدروا } عائد على من أنزلت الآية بسببه على الخلاف السابق ويلزم من قال: إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ولذا حكى النقاش أنها مدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي { وما قدروا } بالتشديد { حَقَّ قَدْرِهِ } بفتح الدال وانتصب { حق قدره } بفتح الدال وانتصب { حق قدره } على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر، والعامل في إذ قدروا وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليلاً.

{ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول، نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم وكانوا يقولون: { لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [الأنعام: 157]، وقال أبو حامد الغزالي: هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى عليه السلام أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم: { ما أنزل الله على بشر من شيء } فوجب القول بكونها كاذبة فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف، انتهى كلامه. وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلك أنه نقض قولهم: { ما أنزل الله } بقوله: { قل من أنزل الكتاب } فلو لم يكن النقض دليلاً على فساد الكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب، والكتاب هنا التوراة وانتصب { نوراً وهدى } على الحال والعامل { أنزل } أو جاء.

{ تجعلونها قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } التاء قراءة الجمهور في الثلاثة، وظاهره أنه لبني إسرائيل والمعنى: { تجعلونها } ذا { قراطيس }، أي أوراقاً وبطائق، { وتخفون كثيراً } كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها، وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض، فقيل: جاء به موسى وهو نور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء، وتتناسق قراءة التاء مع قوله: { علمتم } ومن قال: إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال: خلال السؤال والجواب: تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكاً لنظم الآية وتركيبها، حيث جعل الكلام أولاً خطاباً مع الكفار وآخراً خطاباً مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول، جاء بعض الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة.

{ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم، بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم وليس كذلك آباء العرب، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم، وقيل: الخطاب للعرب، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهم أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين { ولا آباؤكم } وقيل: الخطاب لمن آمن من اليهود، وقيل: لمن آمن من قريش وتفسير { ما لم تعلموا } يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أو دين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن، قال الزمخشري: الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه { ما لم تعلموا أنتم } وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم { أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } [النمل: 76]، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش { { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [يس: 6] انتهى.

{ قل الله } أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أن يعترف بأن منزله هو الله سواء أقرّ الخصم بها أم لم يقر، ونظيره: { { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [الأنعام: 19]. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه.

{ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أي في باطلهم الذي يخوضون فيه ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و { يلعبون } حال من مفعول ذرهم أي من ضمير { خوضهم } و{ في خوضهم } متعلق بـ{ ذرهم } أو بـ{ يلعبون } أو حال من { يلعبون } وظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخاً بآيات القتال وإن جعل تهديداً أو وعيداً خالياً من موادعة فلا نسخ.

{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك } أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة، ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا: { ما أنزل الله }، وقيل: { قل من أنزل الكتاب } كان تقديم وصفه بالإنزال آكد من وصفه بكونه مباركاً ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها، فأما قوله: { { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } [الأنبياء: 50] فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئاً بل جاء عقب قوله تعالى: { { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين } [الأنبياء: 48] ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل، ولما كان وصفه بالبركة وصفاً لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت.

{ مصدق الذي بين يديه } أي من كتب الله المنزلة، وقيل التوراة، وقيل البعث، قال ابن عطية: وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة.

{ ولتنذر أم القرى ومن حولها } { أم القرى } مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس، والمعنى: { ولتنذر } أهل { أم القرى ومن حولها } وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس، وقيل: العرب وقد استدل بقوله: { أم القرى ومن حولها } طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط، قالوا: { ومن حولها } هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب، وأجيب بأن { ومن حولها } عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لم يكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف، وحذف أهل الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله: { { واسأل القرية } [يوسف: 82] لأن القرية لا تسأل ولم تحذف من فيعطف { حولها } على { أم القرى } وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عن الظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها، وقرأ أبو بكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره، وقرأ الجمهور { ولتنذر } خطاباً للرسول والمعنى { ولتنذر } به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخر محذوف دل عليه ما قبله، وقال الزمخشري: { ولتنذر } معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلنا للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار.

{ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } الظاهر أن الضمير في { به } عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً ونشراً وجزاءً تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا ما في هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث، والمعنى: يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث، أن من آمن بالبعث آمن بهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن، وقيل: يعود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وهم على صلاتهم يحافظون } خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن حافظ عليها كان محافظاً على أخواتها ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه والصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله ولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها قال تعالى: { { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة: 143] أي صلاتكم ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها. روي: "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر" ، وقرأ الجمهور { على صلاتهم } بالتوحيد والمراد به الجنس وروى خلف عن يحيـى عن أبي بكر صلواتهم بالجمع ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب الروضة من تأليفه وقال تفرد بذلك عن جميع الناس.

{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث قيل: وفي المستهزئين معه لأنه عارض القرآن بقوله: والزارعات زرعاً والخابزات خبزاً والطابخات طبخاً والطاحنات طحناً واللاقمات لقماً إلى غير ذلك من السخافات، وقال قتادة وغيره: المراد بها مسيلمة الحنفي والأسود العنسي وذكروا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم للسوارين، وقال الزمخشري: وهو مسيلمة الحنفي أو كذاب صنعاء الأسود العنسي. وقال السدي: المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخو عثمان من الرضاعة كتب آية { قد أفلح } [المؤمنون: 1] بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فلما أمل عليه { ثم خلقنا النطفة علقة } [المؤمنون: 14] عجب من تفصيل خلق الإنسان فقال: { { فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14] فقال الرسول: "اكتبها فهكذا أنزلت" فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتداً وقال: أنا أنزل مثل ما أنزل الله، وقال عكرمة: أولها في مسيلمة وآخرها في ابن أبي سرح وروي عنه أنه كان إذا أملي عليه { { سميعاً عليماً } [النساء: 148] كتب هو عليماً حكيماً وإذا قال: عليماً حكيماً كتب هو غفوراً رحيماً، وقال شرحبيل بن سعد: نزلت في ابن أبي سرح ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله ارتد ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح فغيبه عثمان وكان أخاه من الرضاعة حتى اطمأن أهل مكة ثم أتى به الرسول فاستأمن له الرسول فأمّنه. انتهى، وقد ولاه عثمان بن عفان في أيامه وفتحت على يديه الأمصار ففتح أفريقية سنة إحدى وثلاثين وغزا الأساود من أرض النوبة وهو الذي هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم وغزا الصواري من أرض الروم وكان قد حسن إسلامه ولم يظهر عليه شيء ينكر عليه وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش وفارس بني عامر بن لؤي وأقام بعسقلان، قيل: أو الرملة فاراً من الفتنة حين قتل عثمان ومات بها سنة ست، قيل: أو سبع وثلاثين ودعا ربه فقال: اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فقبض آخر الصبح وقد سلم عن يمينه وذهب يسلم عن يساره وذلك قبل أن يجتمع الناس على معاوية.

ولما ذكر القرآن وأنه كتاب منزل من عنده مبارك أعقبه بوعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الافتراء، وتقدم الكلام على { ومن أظلم } وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم وبدأ أولاً بالعام وهو افتراء الكذب على الله وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أو غيره ثم ثانياً بالخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى { ولم يوح إليه شيء } جملة حالية أو غير موحى إليه لأن من قال أوحي إليّ وهو موحى إليه هو صادق ثم ثانياً بأخص مما قبله، لأن الوحي قد يكون بإنزال قرآن وبغيره وقصة ابن أبي سرح هي دعواه أنه سينزل قرآناً مثل ما أنزل الله وقوله: { مثل ما أنزل الله } لبس معتقده أن الله أنزل شيئاً وإنما المعنى { مثل ما أنزل الله } على زعمكم وإعادة من تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال { سأنزل } غير من افترى أو قال: أوحى وإن كان ينطلق عليه ما قبله انطلاق العام على الخاص وقوله: { سأنزل } وعد كاذب وتسميته إنزالاً مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاماً يماثل ما ادعيتم إن الله أنزله، وقرأ أبو حيوة ما نزل بالتشديد وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصين فهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح وغيرهم، وقد ادعى النبوة عالم كثيرون كان ممن عاصرناه ابراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبه، وبارقطاش بن قسيم النيلي الشاعر تنبأ بمدينة النيل من أرض العراق وله قرآن صنعه ولم يقتل، لأنه كان يضحك منه ويضعف في عقله.

{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } الظالمون عام اندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم. وقيل: أل للعهد أي من اليهود ومن تنبأ وهم الذين تقدم ذكرهم.

{ والملائكة باسطو أيديهم } قال ابن عباس: بالضرب أي ملائكة قبض الروح يضربون وجوههم وأدبارهم عند قبضه وقاله الفراء وليس المراد مجرد بسط اليد لاشتراك المؤمنين والكافرين في ذلك وهذا أوائل العذاب وأمارته، وقال ابن عباس أيضاً يوم القيامة، وقال الحسن والضحاك: بالعذاب، وقال الحسن أيضاً: هذا يكون في النار.

{ أخرجوا أنفسكم } قال الزمخشري: يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح الشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط ببسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إليّ ما لي عليك الساعة وإلا أديم مكاني حتى أنزعه من أصدقائك ومن قال: إن بسط الأيدي هو في النار فالمعنى أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا وفي ذلك توقيف وتوبيخ على سالف فعلهم القبيح، وقيل هو أمر على سبيل الإهانة والإرعاب وإنهم بمنزلة من تولى إزهاق نفسه. { اليوم تجزون عذاب الهون } أي الهوان، وقرأ عبد الله وعكرمة { عذاب الهون } بالألف وفتح الهاء و{ اليوم } من قال: إن هذا في الدنيا كان عبارة عن وقت الإماتة والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع أو الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ، ومن قال:إن هذا في القيامة كان عبارة عن يوم القيامة أو عن وقت خطابهم في النار، وأضاف العذاب إلى الهون لتمكنه فيه لأن التنكيل قد يكون على سبيل الزجر والتأديب، ولا هوان فيه وقد يكون على سبيل الهوان. { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } القول على الله غير الحق يشمل كل نوع من الكفر ويدخل فيه دخولاً أولوياً من تقدم ذكره من المفترين على الله الكذب.

{ وكنتم عن آياته تستكبرون } أي عن الأيمان بآياته وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرف الماضي وهو إذ{ والملائكة باسطو } جملة حالية و{ أخرجوا } معمول لحال محذوفة أي قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية.

{ ولقد جئتموننا فرادى كما خلقناكم أول مرة } قال عكرمة قال النضر بن الحارث: سوف تشفع في اللات والعزى فنزلت: ولما قال { اليوم تجزون عذاب الهون } وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناظر لهم محتاجين إليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم، وقيل: هو كلام الله لهم وهذا مبني على أن الله تعالى يكلم الكفار، وهو ظاهر من قوله: { { فلنسألن الذين أرسل إليهم } [الأعراف: 6] ومن قوله: { { لنسألنهم أجمعين } [الحجر: 92] و{ جئتمونا } من الماضي الذي أريد به المستقبل، وقيل: هو ماض على حقيقته محكي فيقال لهم: حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب، قال ابن عباس: { فرادى } من الأهل والمال والولد، وقال الحسن: كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء، وقال مقاتل: ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به، وقال الزّجاج: كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه، وقال ابن كيسان: { فرادى } من المعبود، وقيل: أعدناكم بلا معين ولا ناصر وهذه الأقوال متقاربة لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاؤوا في الآخرة منفردين عن كل ما حصلوه في الدنيا، وقرىء فراد غير مصروف، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة فراداً بالتنوين وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما فردى مثل سكرى كقوله: { { وترى الناس سكارى } [الحج: 2] وأنث على معنى الجماعة والكاف في كما في موضع نصب، قيل: بدل من فرادى، وقيل: نعت لمصدر محذوف أي مجيئا { كما خلقناكم } يريد كمجيئكم يوم خلقناكم وهو شبيه بالانفراد الأول وقت الخلقة فهو تقييد لحالة الانفراد تشبيه بحالة الخلق لأن الإنسان يخلق أقشر لا مال له ولا ولد ولا حشم، وقيل: عراة غرلاً ومن قال: على الهيئة التي ولدت عليها في الانفراد يشمل هذين القولين وانتصب أول مرة على الظرف أي أول زمان ولا يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدعي خلقاً ثانياً ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خلق.

{ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدمتموه لأنفسكم وأشار بقوله: { وراء ظهوركم } إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجوداً.

{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وقال مقاتل: كانوا يعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون: { { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر: 3]، و { فيكم } متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم، وقيل: جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعون فيهم عنده فهم شركاء بهذا الاعتبار ويمكن أن يكون المعنى شركاء لله في تخليصكم من العذاب أن عبادتهم تنفعكم كما تنفعكم عبادته، وقيل: { فيكم } بمعنى عندكم، وقال ابن قتيبة إنهم لي في خلقكم شركاء، وقيل: متحملون عنكم نصيباً من العذاب.

{ لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } قرأ جمهور السبعة { بينكم } بالرفع على أنه اتسع في الظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله: { { ومن بيننا وبينك حجاب } [فصلت: 5] وكما حكى سيبويه هو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآية أو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك بالبين، وقرأ نافع والكسائي وحفص { بينكم } بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله: { { ومِنَّا دون ذلك } [الجن: 11] وخرجه غيره على أن منصوب على الظرف وفاعل { تقطع } التقطع، قال الزمخشري: وقع التقطع بينكم كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى. وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام، وقيل: الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله: { شركاء } ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال: ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره: لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس مجاهد والسدّي وغيرهما انتهى، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكم صفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال تسلط على { ما كنتم تزعمون } تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في { تقطع } ضمير ما وهم الأصنام فالمعنى { لقد تقطع بينكم } { ما كنتم تزعمون } وضلوا عنكم كما قال تعالى: { { وتقطعت بكم الأسباب } [البقرة: 166] أي لم يبق اتصال بينكم وبين { ما كنتم تزعمون } أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش { ما بينكم } والمعنى تلف وذهب ما { بينكم } وبين { ما كنتم تزعمون } ومفعولاً { تزعمون } محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر:

تـرى حبهــم عــاراً علـيّ وتحسـب

أي وتحسبه عاراً، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة قال في آخره وإليه الإشارة بقوله تعالى: { لقد تقطع بينكم } والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى انتهى. وليس هذا مفهوماً من الآية.