التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
-البقرة

التفسير

قوله تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ... }.
المراد: القضاء المطلق اللّغوي وهو فعل (العبادة) سواء كان في وقتها أو بعد وقتها، أي إذا فرغتم من حجكم.
قوله تعالى: { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً... }.
الأشدية إما في القدر أو باعتبار حضور النيّة فالمراد إما الإكثار من ذكره أو كمال الحضور والإخلاص في ذكره. وفي إعرابه ستة أوجه.
قال الزّمخشري: "أَشَدّ" معطوف على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ }.
قال الطيبي: وضعفه بعضهم لأن فيه العطف على (المضمر المخفوض) من غير إعادة الخافض. قال ورد قراءة من قرأ
{ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } بالخفض أقبح رد.
قال ابن عرفة: وهذا إما كفر أو معصية لأنها قراءة حمزة.
قال ابن عرفة: ومنهم من فرق بين العطف على الضمير المجرور بالحرف وبين العطف على المخفوض (بالإضافة) فأجاز العطف على المضاف من غير إعادة الخافض.
قال الزّمخشري: كما تقول (كذكر) قريش آباءهم أو قوما أشد منهم ذكرا. قال: ويكون "أشد" في موضع نصب عطفا على "(آبَاءَكُمْ) أَوْ أَشَدّ ذِكْرا" من آبائكم على أن "ذِكْرا" من فعل المذكور.
واختلف في تفسيره فقال أبو حيان: معناه أنك إذا عطفت "أشَدّ" على "آبَاءَكُمْ" كان التقدير: أو قوما أشَدّ ذِكْرا من آبائكم فالقوم مذكورون والذكر الذي هو (تمييز) (بعد) أشَدّ هو من فعلهم أي وفعل القوم المذكورين لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم أي أو قوما أشَدّ ذِكْرا من ذكركم لآبائكم.
قال ابن عرفة: فمعناه عنده أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر هو أشد ذكرا، أي بذكر هو أشد من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم، فجعل القوم المذكورين ذاكرين وهو بعيد.
وقال الطيبي: أراد الزمخشري أن معناه كذكركم قوما مذكورين بذكر هو أشد ذكرا، فقوما مفعول وأشدّ صفة، فوصفوا بالأشدية من حيث كونهم مذكورين أي كذكركم قوما ذكرتموهم بذكر هو أشد ذكرا.
قال ابن عرفة: واعلم أن "أَفْعَلَ(مِنْ)" إن انتصب تمييزها كانت من صفته وإن انخفض كانت من صفة الاسم الذي (جرت) عليه. تقول: زيد أحسن عبدا بالنصب، أي زيد يملك عبدا أحسن من عبيد غيره. وأن خفضت كان معناه: أن زيدا في نفسه أحسن عبيد الله تعالى. ففي الآية هنا على كلام التفسيرين جعل للذكر ذكر مبالغة مثل جد جده وشعر (شعره) أي ذكرا شبيها بذكر آبائهم أو ذكرا أشد، فالأشدية من صفة ذكر المتأخر وهو غير الأول فيكون الذكر ذكر مبالغة.
فالحاصل أن معناه عند أبي حيان: أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر ذلك الذكر أشد ذكرا، أي ذلك الذكر كلّه ذكر أشدّ من الأذكار التي يذكرون بها آباءهم.
(وعند الطيبي: المعنى أو كذكركم قوما ذكرتموهم، فذكر له ذكر أشد من غيره من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم).
فقول الزمخشري: على أن "ذكرا" من فعل المذكور هو عند أبي حيان (الفعل) وعند الطيبي الفعل الاصطلاحي النّحوي وكلام الطّيبي أصوب لأن (التشبيه) بالقوم إنمّا هو من حيث كونهم مذكورين بأشد الأذكار لا من حيث كونهم ذاكرين بأشد الأذكار.
قال ابن عرفة: وهذه مسألة طويلة (عويصة) ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلا الشيخ ابن عبد السلام، والشيخ (ابن الحباب). وهكذا كانا يقررانها وما قصّر الطيبي (فيها) (وهو الذي كشف القناع عنها و (تكلم عليها) هنا وفي قول الله تعالى في النساء
{ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
}. وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه لأني كنت عند ابن عبد السلام في السقيقة لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال في "أشَدَّ خَشْيَةً" فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذاك على نسخه.
قلت: ولما (حد) ابن الصائغ (المصدر) في بابه استشكل نصب "ذكرا" في الآية لما تقدم من أن (التمييز) المنتصب بعد افعل سواء بدأ (غير) الموصوف بها مثل: زيد أفضل الناس أبا، فـ "أشدّ" في الآية صفة للذكر ثم أجاب بأنّه كقولك: زيد أفضل الناس رجلا وعبدا، ومعناه عند سيبويه أفضل النّاس إذا وصفوا رجلا رجلا، وليس المراد أن عبده أو (رجله) أفضل النّاس، فمعنى الآية أشد الأذكار إذا (صنفت) "ذكرا" في الآية تمييز أو حال والأكثر في مثل هذا أنْ تضاف إليه افعل لكنه لتقدم الذكر قبله قد يجوز مثل: زيد أفضل النّاس رجلا. قال: ويمكن أن يكون "ذكرا" مصدرا لـ "اذكروا" فقدمت صفته وهو (ذكر) فانتصب على الحال. والمعنى: واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم، وأطال الكلام بما هذا حاصله.
قلت: وعلى هذا لا يحتاج فيه إلى المجاز الذي في: جد جده وشعر شعره. وبالله التوفيق.
قال ابن عرفة: هذه الآية نص في (أنّ) الأمر بالشيء نهي عن ضده لأنّهم قالوا: سبب نزولها أنّ قريشا الحمس كانوا يجتمعون بعد الإفاضة من عرفات فيفتخرون بأنسابهم فنزلت الآية ردا عليهم فكان الأصل أن يقال: فإذا قضيتم مناسككم لا تفتخروا بآبائكم. لكنه لو قيل ذلك لاحتمل أن يسكتوا ولا يتكلّموا بشيء ويتحدّثوا في أخبار الأوائل فيما ليس بذكر ولا فخر فأمرهم الله تعالى بذكر حتى يتناول النهي عن الاشتغال بجميع أضداده المنافية له.
قال ابن عرفة: و"أَوْ" في قوله "أَوْ أَشَدّ" للتفصيل فمن هو كثير الشغل والشغب فذكره كذكر آبائه ومن هو خالي البال يعني الخاطر فذكره أشدّ ذكرا ويزيد ما استطاع.
قوله تعالى: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }.
قال ابن عطية: سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة فنهو عن ذلك.
قال ابن عرفة: فتقدير (السَّببية) على هذا إما أنهم نهوا عن الاقتصار (في الدعاء) بمصالح الدنيا فقط وأمروا بالشعور بالآخرة واستحضار وجودها.
قال: ويحتمل (تقدير) السببية بوجهين آخرين. أحدهما: أن في الآية اللف والنشر مَن "يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا" راجع لقوله "كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ" وقوله تعالى
{ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةَ } راجع إلى قوله "أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً".
قيل لابن عرفة: (يعكر) عليه قوله "وَمَا لَهُ فِي ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ" (يدل على أنه كافر فيكف يذكر الله كذكره أباه؟ فقال: قد تقرر أنّ "وَمَا لَهُ فِي ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ" (معتبر) بأمرين لأنّ الواو فيه واو الحال فيحتمل أن يراد أنه في نفس الأمر ليس له نصيب في الآخرة، ويحتمل (أن) يريد من الناس المؤمنين من يطلب أمور الدنيا، ولم يتعلق له بال بطلب الثواب في الآخرة عليه، فقد يعمل العمل الصالح، ويطلب المعونة عليه، ولم يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه (أو بطلب الرزق الحلال من نعيم الدنيا ومستلذاتها، ويصرفه في وجهه وهو مع ذلك طائع، ولا يتشوق إلى طلب الآخرة بوجه) بل (يغفل) عن ذلك.
الوجه الثاني في تقرير السببية: أنه لما تقدم الأمر بذكر الله عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الامر ولا يقبله، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه فهو الذي يقول:
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلأَخِرَةِ حَسَنَةً } أو يرجع إلى القبول والأجر. وتقرر أن القبول أخص، فمن الناس من يفعل العبادة فلا يجزيه ويخرجه من عهدة التكليف فقط ولا يثاب عليها كمن يصلي رياء ومنهم من يفعلها بالإخلاص ونية فتقبل منه، ويثاب عليها في الدار الآخرة.
قال ابن عرفة: وعادتهم يختلفون في الألف واللام في "الناس" فمنهم من كان يقول إنها للعهد والمراد بها الناس الحجاج (ومنهم من جعلها للجنس فعلى أنّها للعهد يكون التقسيم مستوفيا لأن الحجاج) لا بد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي أو بأخروي (وعلى أنها للجنس لايكون مستوفيا) لأن بعض الناس قد لا يدعون بشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي.
قيل لابن عرفة: وكذلك على أنها للعهد لأن بعض الحجاج يدعو أيضا بأمر الآخرة فقط؟.
قال أبو حيان: ومفعول "آتِنَا" الأول محذوف.
قال ابن عرفة: هذا أحد القولين فيها، وفيها قول آخر بأن الفعل المتعدي إذا ضمن المجرور الذي بعده معنى آخر تصح نيابته مناب المفعول. و"في" هنا يتضمنه معنى كقولك: أكلت من الرغيف.