التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
-البقرة

التفسير

قوله تعالى: { يَسْئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... }.
قال ابن عرفة: القتال الذي وقع منهم في الشّهر الحرام، إن كان غلطا فهو كبير موجب للإثم، وإن كان اجتهادا أجري على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع حكم الخطأ أم لا؟ فإن قلت: لم أعيد لفظ القتال مظهرا، وهلا كان مضمرا، ولم أعيد منكرا وهلا كان معرفا؟ قيل: الجواب أنّ ذلك لاختلاف المتكلّم فالأول في الكلام السائل والثاني في كلام المسؤول.
قال الفراء وهو معطوف على كبير.
قال ابن عطية: (وهو خطأ لأنه (يؤدي) إلى أنّ قوله "وَكُفْرٌ بِهِ" معطوف على (كَبِير) فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله من الكفر. وأجيب عنه بثلاثة أ وجه:
الأول: لأبي حيان أنّ الكلام تمّ عند { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وما بعده ابتداء.
الثاني: قال ابن عرفة: الكفر قسمان: صريح حقيقي وهو الكفر بالشرك، وكفر) حكمي غير صريح. فنقول: (دلت الآية) على أن القتال في الشهر الحرام كفر وإن لم يعتقد فاعله الكفر، وكذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه كفر وإن لم يعتقده فاعله فجعل الشارع إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر إثما من الكفر الحكمي الذي نشأ عن القتال في الشهر الحرام، وهذا لا شيء فيه ولا سيما إن جعلنا الضمير في "وَكُفْرٌ بِهِ" عائدا على "عن سَبِيلِ الله".
الجواب الثالث: لبعض الطلبة قال: أهل المسجد الحرام عام يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ولا شك أن إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام كفر وزيادة فهو أشد من الكفر بالله عز وجل فقط.
وحكى ابن عطية عن الزهري ومجاهد، أن { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } منسوخ بقول الله تعالى
{ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً
}. ورده القرطبي: بأن { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } عام وهذا خاص، والخاص يقضي على العام.؟
وأجاب عن ذلك ابن عرفة: بأن الأصوليين قالوا: إنّ العام إذا تأخر عن الخاص فإنّه ينسخه.
قلت: قال أبو عمرو بن الحاجب ما نصه: "يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب". أبو حنيفة والقاضي والإمام: إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ، فإن جهل تساقطا.
قوله تعالى: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ... }.
قال ابن عرفة: في (لفظها) رحمة وتفضل من الله عز وجل لأن قبلها { حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } فكان المناسب أن يقول: ومن (يُرَدّ) منكم عن دينه؛ لكنّه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة. فقال: ومن "يَرْتَدِدِ" (ليختص) الوعيد بمن ارتدّ مختارا متعمدا.
فإن قلت: هلا قيل: فَيَمُتْ وَهْوَ مرتدّ، ليناسب أوّل الآية آخرها، ويسمونه ردّ (العجز) على الصدر؟
(قال: قلت): إنّ من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنّه مرتد عن دينه لقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } }. وفسر الإسلام في الحديث بأن قال: "هو أَن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، (وتصوم رمضان) وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" . فالإسلام (حقيقة) مركبة من هذه الخمسة أمور (فمتى) عدم بعضها عدم الاسلام لامتناع وجود الماهية بدون أحد أجزائها فمن فعلها كلّها ثم بدا له في بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتدّ عن دينه، وأنه غير مسلم، فلذلك قال: { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ }.
قال أبو حيان: قوله "وهو كافر" حال مؤكدة.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: منهما ما قلناه: من أنّه احتراز من موت مرتكب الكبيرة، فإنه مات مرتدّا عن دينه الذي هو الإسلام.
الجواب الثاني: أنّها إنما تكون مؤكدة أن لو كانت حالا من "يرْتَدِد" ونحن إنّما جعلناها حالا من "يَمُتْ" والمرتدّ يحتمل أن يراجع الإسلام فيموت مسلما.
قيل لابن عرفة: فيمت معطوف على "يَرتَدِدْ" بالفاء التي للتعقيب، فهو بعقب رِدّته مات؟ فقال: (هما زمانان) ارتدّ في الأول ومات في الثاني، إمّا مسلما أو كافرا، في حال مبينة بلا شكّ.
قوله تعالى: { فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ... }.
عامل (أولئك) لفظ "مَن" (ثم) معناها، فوجه أبو حيان من طريق الإعراب اللفظي.
قال ابن عرفة: قالوا وتوجيهه من جهة المعنى أن الأول راجع إلى فعلهم القبيح في الدنيا، فالمناسب فيه (تقليل) الفاعل تنفيرا عنه فلذلك أفرده، والثاني راجع إلى جزاء ذلك والعقوبة عليه في الدار الآخرة فالمناسب فيه لفظ العموم في جميع الفاعلين خشية أن يتوهم خصوص ذلك الوعيد بالبعض دون البعض.
قال ابن عرفة: وإحباط أعمالهم في الدنيا بترك الصلاة (عليهم) وعدم دفنهم في مقابر المسلمين ومنع أقاربهم من إرثهم.
قال الزمخشري: وذلك مما يتوقع هنا بالردة للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام واستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة.
قال ابن عرفة: ومذهبنا أنه يعتق على المرتدّ أمّ ولده ومدبره دون الموصى بعتقه. ومذهب الإمام مالك رضي الله عنه (أن ميراثه) لبيت المال.
قال القاضي عياض في الإكمال: وقال الإمام الشافعي: ميراثه لجماعة المسلمين. ووهنه تاج الدين الفاكهاني وقال: بل مذهبه كمذهب مالك. وكذا حكى عنه الغزالي في البسيط.
ابن عطية وروي عن علي رضي الله عنه (انه) استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله. ونقل عنه كرم الله وجهه: أن يستتاب ثلاث مرات فإن تاب في الاولى ترك، وإلا (روجع) في الثانية (ثم) الثالثة فإن تاب وإلا قتل. قال: ومنهم من فرق بين الذكر والأنثى فمنع قتل الأنثى.
قال ابن عرفة (ووجهه) أنه عنده كالحربي سواء.