التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٢١
-البقرة

التفسير

قوله تعالى: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ... }.
النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل حقيقة فيهما.
قال القاضي عياض في تنبيهاته: "النكاح لغة الجماع والضمّ، يقال: نكحت البُرّ في الأرض ونكحت الحصاة خفاف الإبل، ثم استعمل في الوطء وهو في الشرع يطلق على العقد لأنه بمعنى الجمع ومآله إلى الوطء.
قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز قولهم: نكحت الحصى خفاف الإبل: فظاهره أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، إلا أن يراد المجاز في الإسناد. والنهي هنا للتحريم بدليل ما عطف عليه وهو التحريم بلا خلاف، وإن كان ابن التلمساني أجاز عطف التحريم على المكروه وعكسه لكن الأغلب التساوي.
قيل لابن عرفة: ما أفاد قول الله تعالى "حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ" مع أنّ النكاح (يستقل) بدونه؟
(فأجاب) هو أصرح في دوام الانتهاء بأن الأول مفهوم صفة وهو مفهوم غاية، والقائلون بإعمال مفهوم الغاية أكثر من القائلين بإعمال مفهوم الصفة.
قلت: أو يجاب بأنّه لو لم يذكر لأوهم إباحة نكاحهن إن رجعن عن الإشراك إلى دين اليهود والنّصارى فيكون في الآية حجة لما حكى ابن عطية عن ابن عباس والحسن ومالك فيما ذكره عنه ابن حبيب من أنه عام فيهم وفي الكتابيات، ثم نسخت بقوله في المائدة:
{ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ
}. قوله تعالى: { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ... }.
خيْرٌ (أفعلَ من) لجواز اشتراك المتباينات في وصف ما. فالخيرية في المشركة في الدنيا فقط أما بكثرة المال أو الجمال وميل النفس إليها.
وفي المؤمنة باعتبار الدنيا والأخرة واليهود والنصارى ليسوا من المشركين لقول الله عز وجل:
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ
}. قال ابن عرفة: وأغرب ابن الخطيب: فقال: احتج من قال: بأنّهم مشركون بقول الله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } }. وأجمعوا على أن اليهود والنّصارى لا يغفر لهم فهم مشركون (وإلاّ لزم) منه تطرق احتمال المغفرة لهم.
قوله تعالى: { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ... }.
من إثبات ما يتوهم نفيه، أو نفي ما يتوهم ثبوته مثل:
{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ
}. قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الأخرى أن هذه الآية يرد بها على ابن بشير فإنه نقل في أول كتاب الجنائز عن ابن عبد الحكم: أن الصلاة على الجنائز فرض كفاية محتجا بقول / الله تعالى: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ
}. والنهي عن الصلاة على المنافقين للتحريم فضده وهو الأمر بالصلاة على المؤمنين للوجوب.
وتعقبه اللّخمى بأنّه لا يكون (هذا) للوجوب إلاّ إذا كان له (ضد) واحد، وهذا له (أضداد)، وهو إما وجوب الصلاة على المؤمنين أو كراهتها، أو إباحتها (أو استحبابها).
وأجاب ابن بشير: بأن النّهي إذا كان للتحريم فضده الأمر للوجوب بلا شدة، وإن كان للكراهة فضده الأمر للندب.
وقال ابن عرفة: وهذا باطل بالكتاب والسنة والنظر، أما الكتاب فقول الله تعالى: "وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ" فإنّ النهي عن نكاح المشركات للتحريم وضده وهو الأمر بنكاح المسلمات للنّدب على الجملة. (وإنما) يجب في بعض الأحيان على بعض الأشخاص، وأما السنة فخرج مسلم في كتاب الحج في رواية (قتادة) عن قزعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع ذي محرم" .
فهذا نهي عن السفر مع غير ذي المحرم، وهو للتحريم (وضده) وهو الأمر بالسفر مع ذي محرم مباح لا واجب.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التقريب والإرشاد ما نصه: وأما النهي عن الشيء فلا بد أن يكون أمرا بضده إن كان له ضد واحد أو بعض أضداده إن كان له أضداد، ويكون أمرا بالضد على سبيل ماهو نهي عنه إما وجوبا أو ندبا.
ونص القرافي في شرح التنقيحات على أن ضد الكراهة الندب.
قلت: وذكرت ذلك لشيخنا المفتي الفقيه الصالح الحاج العلامة أبي العباس أحمد بن إدريس بن بلال البجائي وللفقيه أبي الحسن علي بن يحيى بن عجمي البجائي فأجابا عنه (بوجهين):

الأول: قال ابن إدريس: النهي للتحريم ضده الأمر للوجوب ما لم يعارضه معارض كقولهم في الأمر بصغة افعل: إنّه للوجوب ما لم تقترن به قرينة صارفة عنه للندب وهنا قد جاء الأمر بالنكاح صريحا قال الله تعالى:
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } }. وفي الحديث: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج" . فإذا حمل الأمر الصريح على الندب لقرينة فأحرى أن يحمل على ذلك الأمر المفهوم من النهي فلا يتم للشيخ ابن عرفة بهذه الآية.
قلت: وذكر بعضهم لابن عرفة معبرا عنه بأن هذا خرج بالدليل الدال على عموم وجوب النكاح.
فقال ابن عرفة: أين الدليل مع قول داود بوجوب نكاح الحرة مطلقا.
قال ابن عرفة: وإنّما يعترض على اللّخمي بما قال المازري فانظره؟
الجواب الثاني: قال الشيخ ابن (عجمي): إنما مفهوم الآية أن من أراد النكاح هنا يجب عليه أن ينكح المؤمنات كما أنه يحرم على من يريد النكاح هنا أن ينكح المشركات وكذا الكلام في الحديث سواء، والمفهوم هنا مفهوم الصفة وهذا لا نزاع فيه.
قلت: وكلام الشيخ ابن إدريس مثل ما رد به الإمام ابن رشد في مقدماته على ابن عبد الحكم. وانظر ما تقدم لنا عن ابن الحاجب في قول الله تعالى:
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
}. قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ... }.
إن قلت: هلا قال: والمؤمنون يدعون إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ. كما (أسند) للمشركين الدّعاء إلى النار.
قلت: أجاب ابن عرفة بأن فيه كمال تشريف لدين الإسلام كما قال الله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ
}. قال ابن عرفة: فإن قلت المغفرة سبب في دخول الجنة فهلا: قدمت عليها؟
فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن عرفة: تقدم لنا الجواب عنه فإنّها إنّما أخّرت لتتناول الآية من أطاع الله ولم يعصه فإنه يدخل الجنة (دخولا أوليا) ومن أطاع الله وعصى فإنه يدخل النّار ويغفر له فيدخل الجنة، ومن أطاع الله وعصى وغفر له فإنه أيضا يدخل الجنة دخولا أوليا.
الثاني: أنه قصد ذكر المغفرة بالتضمن وبالمطابقة.
الثالث: أن المراد أولائك يدعون إلى النّار والمعصية، وهذا مقابل له فحذف من الأول لدلالة هذا المذكور في الثاني عليه.
ورده ابن عرفة: بأنّ الآية إنما جاءت تهييجا على الطاعة، فالمناسب أن يذكر فيها (المخوفات) والدعاء للمعصية ليس بمخوف.
قلت: تقول التقدير: أولئك يدعون إلى النار والعذاب.
قال ابن عطية: والإذن (العلم) و (التمكين) فإن انضاف إليه أمر فهو أقوى.
قال ابن عرفة: (على هذا) لا يتقرر الدعاء للمغفرة.
قيل له: الإذن الكلام والكلام يصدق على الخبر وعلى الأمر؟
فقال: الأمر مثل
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
}. قيل له: والأمر عندنا ليس هو (عين) الإرادة لأن الإنسان قد يأمر بما لا يريد.
قوله تعالى: { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ... }.
قال ابن عرفة: يستفاد منه حجة وقوع المجمل في القرآن لأن الآية دلّت على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.