التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

التفسير

قوله تعالى: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ... }.
قال الإمام ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: يقال: حي وحيى ويحيي وقيل: حاي على وزن فاعل والخبر آكد، أي جنس الحي، وقيل: هو الحياة والحي نوع من القبيلة سمى به مجازا لأن به يستعزون على حماية أنفسهم وحياة مواشيهم بالخصب ورعي الحَيَا، وشربه وهو المطر، والحياة وصف للجسم (عرض) إذا وجدت في جسم أو جوهر كان دراكا فعالا والعرب إذا أرادت الإدراك والحس قالت: هذا حي، والحي في الشاهد من قوله: حياة. وأما الغائب فبعضهم قال: لا أقول: إنّ الله حي بحياة، إذ لم يرد فيه ولا في السمع والبصر ونقول: (عالم بعلم) لِوروده".
وقال الإمام الغزالي: والكثير من علمائنا: الحي: الفعال الدرّاك.
وهو باطل بوجوه: منها أن البارىء في الأزل حي مدرك بنفسه وصفاته ولم يفعل، وأيضا الإدراك معنى غير الحياة والفعل فكيف يفسر معنى بمعنى مغاير له، واعلم أنّ وجود الحياة مصحح للإدراك والفعل فيلزم الإدراك إذ لايصح حي غير مدرك ويصح الفعل ولا يلزم. ووجوب الحياة للبارىء يختص بخمسة أوصاف: أنه لم يسبقه موت، ولا (يعتريه)، وليس له (بلل) ورطوبة، ولا يحتاج إلى غذاء، فإنه يطعم وهي للعبد بعكس ذلك كله.
قال الزمخشري: والحي الباقي الّذي لا سبيل للفناء عليه وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر.
قال ابن عرفة: وكل شيء يصح اتصافه بالعلم والقدرة لكن الحي بغير واسطة والجماد بواسطة الحياة.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: قال المعتزلة وقوم: الله حي لا بحياة، وهو باطل. وقال آخرون: حي بحياة، وقال قوم: هو حي كما وصف نفسه، وسلم ذلك أن ينظر فيه.
وقد تقدم الخلاف في الصفات فنحن نثبتها ونقول: الله عالم بعلم، قادر بقدرة. حي بحياة. المعتزلة ينفونها، وتقدم الخلاف بيننا في الأحوال كالعالمية والقادرية والحيية. فمنا من يثبتها، ومنا من ينفيها، والمثبتون لها قسموها على قسمين: معللة وغير معللة، والمعللة عندهم مشروطة بالحياة والسوادية والبياضية غير معللة، والعالمية معللة كالقادرية. وكان بعضهم يرد على من يقول: إنها معللة بصفات الحياة لأن الحياة حال ليست معللة لئلا يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه.
قوله تعالى: { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ... }.
قال الإمام ابن العربي: على وزن فيعول: اجتمعت ياء وواو، سبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت. والقيام أصله القيوام وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفعلان فيقولون في الصّداع صداع. والقيم عند سيبويه فيعل للتأكيد، فقلب وأدغم. وأنكر الفراء أن في الأمثلة فيعل، وقال: أصلها فعيل ككريم وكان (أصلهم) أن يجعلوا الواو وألفا لافتتاح ما قبلها ثم يسقطونها لسكونها وسكون الياء بعدها فلمّا فعلوا ذلك صار فعيل على لفظ فعل فزادوا ياء ليكمل بها بناء الحرف.
قال ابن العربي: واختلفوا في معناه فقيل: الدائم الذي لا يزول، فالقيوم معناه: الباقي الدائم. وقيل: القيوم هو القيم على كل شيء بالرعاية والمدبر لجميع أمور العالم بمعنى: الحفيظ والمدبّر. وقيل: الذي لا تفنيه الدهورو و لا يتغير بانقلاب الأمور فهو بمعنى: الثابت القدوس.
قال: والصحيح أنه مبالغة قائم من قام إذا أطاق.
قال:
"وروى ابن راشد الأزدي أنه ورد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما اسمك؟ فقال عبدالعزى بن (غاويه) فقال له: عليه الصلاة والسلام: بل اسمك عبد الرحمان بن راشد، قال: من الذي معك؟ قال: مولاي قال: ما اسمه؟ قال: قيوم. قال: ولكنه عبد القيوم" .
ورواه الدار قطني وعبد الغني الحافظ كذلك ورواه ابن (رشد) قال: "ما اسم مولاك. قال: القيوم. قال: لا بل عبد القيوم" . والدار قطني أحفظ وأوثق. قال: فأما القائم فله في اللغة ثلاثة معان: قام إذا انتصب وعلا، وقام بالامر أي استقل به، وقام إذا لازم. قال الله تعالى: { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } }. فقيل كلها حقيقة، وقيل: الأول فقط، واختلفوا في معنى كون الله قائما بنفسه، فقيل: لا يحتاج إلى مكان، وقيل: موصوف بصفاته العلية، وقيل: مستغن عن كل شيء. والصحيح أنه لا يصح وصفه إلا مُضافا لما يبينه فإذا قلت: قائم على كل نفس بما كسبت فصحيح معنى وارد شرعا، وإن قلت: قائم بنفسه فصحيح لم يرد. واختلفوا في معنى قائم على كل نفس بما كسبت، فقيل بما كسبت من رزق تفضلا فهو امتنان، وقيل: بما كسبت من عمل يحفظه عليها فهو وعيد. وقيل: يطلع عليها لا يخفى عليه من أمرها شيء، وقيل: المراد الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم لا يستوون مع الأصنام فكيف بخالق الملائكة ومن هو قائم عليها ومدبرها وهذا مجاز.
ابن العربي: والصّحيح أنه قائم بالخلق والحفظ والرزق وغير ذلك فهو غني عنه.
قوله تعالى: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }.
قال ابن عرفة: هذا كالدليل / على كونه حيا قيوما و { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } كالدّليل على أنه لا تأخذه سنة ولا نوم.
فإن قلت: نفي السِّنة يستلزم نفي النوم فهلا قدم النوم على السنة؟
قال: فالجواب من وجهين:
الأول منهما: (قصد) نفى السنة بالمطابقة واللزوم. الثاني: إنّا نجد من يدافع النوم لا تأخذه سنة لأنه مهما تأخذه السّنة يدافعها ويغلبها حتى يأتيه النوم غلبة فينام فما يلزم من عدم السّنة عدم النوم.
قوله تعالى: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها ما في السَّمَاوَاتِ وما في الأرض.
قوله تعالى: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... }.
قال ابن عرفة: ورد النّفي بصغية الاستفهام وهو أبلغ لاقتضائه موافقة المخاطب عليه.
قال ابن عطية: الإذن قسمان فهو في الشفاعة في الخروج من النّار بمعنى الأمر لحديث
"يامحمد ارفع رأسك تعطه واشفع تشفع" ، وهو ((في شفاعة غيره من الأنبياء والعلماء وشفاعة (الجار) والصاحب الذين يشفعون)) قبل أن (يؤمروا) بمعنى العلم والتمكين.
قال ابن عرفة: (يريد) بمعنى خلق الدّاعي والقدرة على ذلك.
قال: واقتضت الآية ألاّ شفاعة إلا بإذن والإذن فيها يقتضي قبولها فيعارض قوله تعالى:
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } }. فدلّ على أنّ هناك من يشفع ولا تقبل منه، إلا أن يجاب بأن تلك سالبة، مثل: الحائط لا يبصر (لا معدومة) مثل: زيد غير بصير، فليس المراد شفاعة الشافعين لا تنفعهم بل هو من باب نفي الشيء بنفي لازمة مثل:

على لا حب لا يهتدى بمناره

أي ليس له منار يهدى به، أي لا شافع هناك فتنفع شفاعته.
قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ... }.
هنا دليل على عموم تعلق علمه بالجزيئات والكليات فيرد بها على من نفى تعلقه بالجزيئات.
قيل لابن عرفة: قد يقال إنه دليل ظاهر لا نص وندعى تخصيص عمومه؟
فقال: استدلوا بظواهر (الآي) في (كثير) من المطالب وتعقبوا على ابن الخطيب في قوله في المحصول: إن الدلائل السمعية لا تفيد الظن فضلا عن اليقين.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه تسلط النفي هنا على الأخص دون الأعم فلو قيل: ولا يعلمون شيئا من علمنا بل علمه إلا ما شاء لكان أبلغ لأن الإحاطة بعلم الشيء أخص من مطلق علمه.
قال: والجواب أنّا إن قلنا: إن العلوم كلها متساوية فلا فرق بين الإحاطة وعدمها.
وإن قلنا: إنها غير متساوية فالسؤال وارد.
وعادتهم يجيبون بأن (الآية) خرجت مخرج التمدح. والعلوم قسمان: ضرورية ونظرية، فالضرورية لا يقع عليها مدح ولا ذم لأنها جبرية يستوي فيها كل الناس وإنما يقع المدح على العلوم النظرية وهي لا تحصل إلاّ بالإحاطة لأنها ناشئة عن مقدمتين والعلم بالمقدمتين مستلزم الإحاطة بعلم النتيجة، فالإحاطة بها وعلمها (متساويان).
قيل لابن عرفة: الآية دالة أن المعدوم (يصدق) عليه شيء لأنّا إن لم نجعله داخلا تحت مسمى شيء لزم إبطال العمل بمفهوم الصّفة لأنّه يكون مفهوم الآية (أنهم) يحيطون بالمعدوم من (تعلق) علمه وهذا كفر؟
فأجاب: بأنه مفهوم أحرى لأنهم إذا لم يحيطوا بالموجود فأحرى المعدوم.
قلت: وقال بعضهم: إن هذا السؤال غير وارد لأن المعنى إلا بما شاء أن يحيطوا به فإنهم محيطون به ولا يلزم منه نفي تعلق المشيئة بالمعدوم بل يبقى الأمر مسكوتا عنه فلا يلزم تعلق الحكم بنفيه ولا بإثباته.
قال ابن عطية: "وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ ما نقص هذا العصفور من البحر".
قال ابن عرفة: شبّه ما ليس بمُتناه بما هو متناهٍ لأن البحر متناهٍ، فالنقص فيه معقول وليس المراد حقيقة النقص، بل معناه نسبة علمي وعلمك من معلوم الله تعالى الذي لم ندركه نحن كنسبة ما يتعلق بالعصفور من ماء البحر إلى ماء البحر. انتهى.
قوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ... }.
قال ابن عرفة:كلام الزمخشري هنا حسن وكلام ابن عطية في بعضه إيهام والألفاظ الموهمة إذا وردت من الشارع تأولت وردت الى الصواب، وإن وردت من غيره لم تتأول لأن الشارع يذكر الألفاظ الموهمة للابتلاء بها
{ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } }. (فالمحق) يصرفها عن ظاهرها إلى الصواب والمبطل يقف مع الظاهر، وأما إذا وردت من غير (الشارع) فلا تتأول.
قلت: وكذا قال الزمخشري: لفظ الكرسي تخييلُ. والتخييل أن يعبر عن الشيء بلازمه كقوله تعالى:
{ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ
}. قوله تعالى: { وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا... }.
إن قلت: هلا قيل: حفظُها، بضمير جماعة ما لا يعقل أو: حفظُه، بضمير الكرسي لا شتماله على العرش والسّماوات والأرض، (والشي) (في نفسه) ليس كهو مع غيره، فلا يلزم من نفي الثقل (عن) السماوات والأرض (بخصوصيتها) نفي الثقل (عنها) مع غيرها؟
فالجواب: أنّه (خصهما) بالذكر لأنهما المشاهدان للإنسان الذي يراهما ويوافق على إمساكهما وعدم إزالتهما ليكون ذلك أقطع في طريق / الاستدلال وأقوى في قيام الحجة عليه.
قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ }.
قال ابن عطية: أي عظيم القدر والخطر وليس من عظيم الأجرام وحكى (الطبّري) عن قوم أن العظيم بمعنى المعظم كقولهم: العتيق بمعنى المعتق، وأنكره آخرون وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم إذ لا معظم له حينئذ.
قال ابن عرفة: وهذا الإنكار غير صحيح، بل يفهم كما قال الضرير في أرجوزته لأنه قسم الحمد على قسمين: قديم وحادث، فالقديم حمده تعالى نفسه.