التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ
٧١
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٧٢
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ
٧٣
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ
٧٤
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِآيَـٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ
٧٦
قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ
٧٧
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
٧٨
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
٧٩
فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
٨٠
فَلَمَّآ أَلْقَواْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨١
وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ
٨٢
فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ
٨٣
وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ
٨٤
فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٨٥
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٨٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٧
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٨٨
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨٩
وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩٠
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٩١
فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
٩٢
-يونس

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { وشركاؤكم } بالرفع: يعقوب { إن أجري } بفتح الياء حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص { ويكون لكما } بياء الغيبة: حماد ويزيد وزيد. الباقون بتاء التأنيث { آلسحر } بالمد: يزيد وأبو عمرو { أن تبويا } بالياء: الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الآخرون بالهمز. { ليضلوا } بضم الياء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل { ولا تتبعان } بتخفيف النون: ابن عامر غير الحلواني عن هشام. { تتبعان } خفيفة التاء والنون: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثينة. الباقون والحلواني عن هشام { تتبعان } بتشديدها في الحالين { منت أنه } بكسر الهمزة على الاستئناف بدلاً من { آمنت }: حمزة وعلي وخلف. الآخرون بالفتح. { ننجيك } من الإنجاء: سهل ويعقوب وقتيبة. والآخرون بالتشديد.
الوقوف: { نبأ نوح } م لئلا يوهم أن "إذ" ظرف لقوله: { اتل } بل التقدير: واذكر إذ قال. { ولا تنظرون } ه { من أجر } ط { على الله } ج لأن التقدير وقد أمرت { من المسلمين } ه { بآياتنا } ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر { المنذرين } ه { من قبل } ط { المعتدين } ه { مجرمين } ه { مبين } ه { لما جاءكم } ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله: { أسحر } يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان { هذا } ط للفصل بين الأخبار والاستخبار { الساحرون } ه { في الأرض } ط { بمؤمنين } ه { عليم } ه { ملقون } ه { ما جئتم به } ط لمن قرأ { آلسحر } مستفهماً { السحر } ط { سيبطله } ط { المفسدين } ه { المجرمون } ه { أن يفتنهم } ط { في الأرض } ج لاتصال الكلام { المسرفين } ه { مسلمين } ه { توكلنا } ج للعدول مع اتحاد القائل { الظالمين } ه لا للعطف. { الكافرين } ه ج { وأقيموا الصلاة } ط لأن قوله { وبشر } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أريد به موسى فلا بد من العدول { المؤمنين } ه { الدنيا } لا لتعلق قوله: { ليضلوا } بقوله: { آتيت } و { وربنا } تكرار للأول لأجل التضرع. { عن سبيلك } ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل { الأليم } ه { لا يعلمون } ه { وعدواً } ط { الغرق } لا لأن قال جواب "إذا" { المسلمين } ه { المفسدين } ه { آية } ط { لغافلون } ه.
التفسير: لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في "الأعراف". ومعنى كبر ثقل وشق كقوله:
{ وإنها لكبيرة } [البقرة: 45] وفي مقامي وجوه منها: أنه زيادة كقولك: فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله، وكقوله تعالى: { ولمن خاف مقام ربه } [الرحمن: 46] أي ربه ومثله قولهم: فلان ثقيل الظل. ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجباً للتنفر والثقل، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة. ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود. وجواب الشرط إما قوله: { فعلى الله توكلت } أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديماً وحديثاً وإما قوله: { فأجمعوا } وقوله: { فعلى الله توكلت } اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد. ولا يحسن أن يقال: إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلباً وخبراً، ومعنى { فأجمعوا أمركم } اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً. فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بـ "على" فقيل: أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم. وانتصب { شركاءكم } على المفعول معه أي مع شركائكم. ومن قرأ بالرفع جعله عطفاً على الضمير المتصل، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم، وإما الأصنام. وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم كقوله: { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون } [الأعراف: 195] واعلم أنه عليه السلام قال في أول الأمر { فعلى الله توكلت } ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: { فأجمعوا أمركم } كأنه قال: حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيداً آخر فقال: { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } قال أبو الهيثم: أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث: لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج: أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهراً منكشفاً أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غماً وهماً والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيداً آخر فقال: { ثم اقضوا إليّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه. وعن القفال أن فيه تضميناً والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكماً مفروغاً منه. ثم ختم الكلام بقوله: { ولا تنظرون } أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال: { فإن توليتم } أعرضتم عن نصحي وتذكيري { فما سألتكم من أجر } فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل { إن أجري } ليس أجري { إلا على الله } أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله: { فعلى الله توكلت } إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله: { فإن توليتم } الآية. { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. { فكذبوه } بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة. { فنجيناه ومن معه في الفلك } قد ذكرنا في "الأعراف" الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك { وجعلناهم خلائف } يخلفون الهالكين بالطوفان { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { ثم بعثنا من بعده } من بعد نوح { رسلاً } كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب { فجاؤوهم بالبينات } بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد ههنا لفظة "به" فقيل: لتناسب ما قبله وهو { كذبوا بآياتنا } وكذلك في "الأعراف" راعى المناسبة لأن ما قبله { ولكن كذبوا } [الآية: 96] بغير الباء { ثم بعثنا من بعدهم } بعد الرسل أو الأمم { بآياتنا } يعني الآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها { وكانوا قوماً مجرمين } كفاراً ذوي آثام ولذلك اجترأوا على رد الآيات. أما قوله: { أسحر هذا } فليس بمقول لقوله: { أتقولون } لأنهم قطعوا في قوله: { إن هذا لسحر مبين } بأنه سحر، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال: إن القول ههنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله: { سمعنا فتى يذكرهم } [الأنبياء: 60] ومنه قولهم: فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال: أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال: { أسحر هذا } أو يقال: مفعول تقولون محذوف وهو قولهم { إن هذا لسحر مبين } أو يقال: جملة قوله { أسحر هذا } { ولا يفلح الساحرون } حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه { قالوا أجئتنا لتلفتنا } التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات "افتعال" من اللفت وهو الصرف واللي { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } أي الملك والعز في أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم. وقيل: لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا. ثم صرحوا بالتكذيب قائلين { وما نحن لكما بمؤمنين } ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في "الأعراف". أما قوله: { ما جئتم به } فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر. فقال موسى: بل ما جئتم به السحر. فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة. يقول الرجل لغيره: لقيت رجلاً. فيقول له: من الرجل؟ ولو قال: من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره. ومن قرأ { آلسحر } بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ و { جئتم به } خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به { إن الله سيبطله } بإظهار المعجزة عليه { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يؤيده بجميل الخاتمة { ويحق الله الحق } يثبته { بكلماته } بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره { فما آمن لموسى } أي في أول أمره { إلا ذريّة من قومه } قال ابن عباس: لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير، ولا ريب أن المراد ههنا ليس هو الإهانة، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد. وقيل: المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. وقيل: إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. وقيل: الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته، فالضمير في { قومه } على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في { ملئهم } إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله: { أن يفتنهم } أي يعذبهم فرعون. ثم أكد أسباب الخوف بقوله: { وإن فرعون لعال } لغالب { في الأرض } أرض مصر { وإنه لمن المسرفين } في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا { وقال موسى } تثبيتاً لقومه { إن كنتم آمنتم بالله } صدقتم به وبآياته { فعليه توكلوا } خصوه بتفويض أموركم إليه { إن كنتم مسلمين } قال لعلماء: المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره: إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة. والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده. { فقالوا } مؤتمرين لموسى { على الله توكلنا } ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين { ربنا لا تجعلنا فتنة } أي موضع فتنة لهم. والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق. ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال: { ونجنا } الآية. وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق. { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً } تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعاً مثل توطنه إذا اتخذه وطناً. واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله: { في بيوت أذن الله أن ترفع } [النور: 36] فالمراد من قوله: { واجعلوا بيوتكم قبلة } أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس: وقال الحسن: الكعبة قبلة كل الأنبياء: وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. ومنهم من قال: إنها مطلق البيوت. ثم قيل: المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم. وقيل: المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت فأن يصلوا في بيوتهم خفية خيفة من الكفرة كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقيل: على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم. وإنما ثنى الخطاب أوّلاً ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك، ثم جعل الخطاب عاماً لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور. ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير في قوله: { وبشر المؤمنين } لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر (قال الضعيف مؤلف الكتاب) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله: { وبشر المؤمنين } لنبينا صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض. ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجداً وطهوراً دون سائر الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه ألبتة للعبادة والله أعلم بمراده. ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب الدعاء عليه فلهذا { قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً } فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة. قالت الأشاعرة: اللام في قوله: { ليضلوا } لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال: يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه. ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم. والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه: { من قبل أن نطمس وجوهاً } [النساء: 47] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم. وقالت المعتزلة: قوله { ليضلوا } دعاء بلفظ الأمر للغائب، دعا عليهم بثلاثة أمور: بالضلال وبالطمس وبالشد. كأنه لما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلاً ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه. سلمنا أن قوله: { ليضلوا } ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله: "لدوا للموت". سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلوا الله سبباً في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا. ولم لا يجوز أن يكون "لا" مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله: { يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، أو يكون حرف الاستفهام مقدراً في آتيت على سبيل التعجب. أما قوله تعالى: { فلا يؤمنوا } فإما أن يكون معطوفاً على قوله: { ليضلوا } على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض، وإما أن يكون جواباً لقوله { واشدد } ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفاً على { اشدد }. { قال قد أجيبت دعوتكما } أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن، ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله { ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون } أن الاستعجال لا يفيد في إجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين. { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله: { وإذ فرقنا بكم البحر } [البقرة: 50] الآية، ومعنى قوله: { فأتبعهم } لحقهم. يقال: تبعه حتى أتبعه، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاثة مرات إحداها قوله: { آمنت } وثانيتها { أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } وثالثتها { وأنا من المسلمين } فلم تقبل توبته. والجواب من وجوه: الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف. الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة. الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنياً على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية. الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، وكانت هذه الكلمة سبباً لزيادة الكفر. الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول. السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لاإله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة. السابع يروى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه. أما قوله { آلآن } فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل. وقيل: إنه قول الله سبحانه والتقدير: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك. وقوله: { وكنت من المفسدين } في مقابلة قوله: { وأنا من المسلمين } يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال: { آمنت } لئلا يتوب غضباَ عليه، والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى: { وتعاونوا } [المائدة: 2] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون { فقولا له قولاً ليناً } [طه: 44] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان. ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منافياً لقوله: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } [مريم: 64] { لا يسبقونه بالقول } [الأنبياء: 27] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال: إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضباً لله على الكافر. قوله: { فاليوم ننجيك ببدنك } فيه أقوال منها: أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق. وقوله: { ببدنك } في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن. قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، أو المراد ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عرياناً لست إلا بدناً وفيه نوع تهكم كأنه قيل: ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال: نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. وقيل: ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. وقيل: ببدنك أي بدرعك. قال الليث: البدن الدرع القصير الكمين. عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام. وأما قوله: { لتكون لمن خلفك آية } فقيل: إن قوماً اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه. وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل: { لمن خلفك } وقيل: إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله: { أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 24] ليكون ذلك زجراً للعابرين عن مثل طريقته، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه. وقيل: المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون }.
التأويل: { واتل عليهم نبأ نوح } الروح { إذ قال لقومه } وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها { يا قوم إن كان } عظم { عليكم مقامي } في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة { فما سألتكم من أجر } من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله. و{ جعلناهم خلائف } خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في "الأعراف". وهكذا في قصة موسى { ولا يفلح الساحرون } لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي. { ويحق الله الحق } أي الذكر { بكلماته } وهي لا إله إلا الله { ولو كره } أهل الهوى والنفوس الأمارة { فما آمن لموسى } القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية { على خوف من فرعون } النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها. { وأوحينا إلى موسى } القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي. واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق. { وأقيموا الصلاة } أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية { ليضلوا عن سبيلك } ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك { ربنا اطمس على أموالهم } بمحقها وتحقيرها في نظرهم { واشدد } طريق النظر إلى الدنيا وما فيها { على قلوبهم } واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط { حتى يروا العذاب الأليم } فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها. { سبيل الذين لا يعلمون } طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره { وجاوزنا ببنى إسرائيل } هم القلب والسر وصفاتها. والبحر بحر الروحانية الملكوتية { فأتبعهم فرعون } النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك قهراً وقسراً، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق: { آمنت } ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو وإنما تمسك بين الاضطراب والتقليد فقال: { لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } { ننجيك ببدنك } أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلاً على كمال قدرتنا وعنايتنا. وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا.